تتلى علينا اليوم القراءات : تك16: 1-16 ؛ رم12: 1-21 ؛ يو7: 37-53
الرسالة : رومية 12 : 1 ـ 21
سبق بولس فتحَّدَث عن مأساة شعبه الذي عصى الله فسقط، لكن هذا السقوط أدَّى الى خلاص الوثنيين الذين آمنوا بالمسيح. إنما ليس هذا السقوط نبذًا نهائيا كما لم يكن نهائيا سقوط الوثنيين. بل الله قادرٌ على إثارة غيرتهم وسيفعلها من أجل إيمان الآباء الذين وعدهم الله بالخلاص. والله أمين في وعوده ولا يتراجعُ عن هباتِه. هذا كان حكم الله الذي يريد الخلاصَ لكلِّ البشر لأنهم ” كانوا كلُّهم سجناءَ العصيان، في آدم، ولكي يرحمهم جميعًا ” (رم11: 32). لهذا دعا الرسولُ مؤمني روما ألا يفتخروا بإيمانهم بل أن يهابوا عدالة الله ويشكروه على لينه معهم، ويثبتوا عليه، وإلا فيقطعون هم أيضًا. لآ يُدرك الأنسان دومًا أحكام الله ولا يفهم بعُمْقٍ أفكارَه (اش55: 8؛ مز139: 6، 17 -18). يجب رفع المجدِ له لأنَّ ” كلَّ شيءٍ منه ، وفيه ، وبه ” لصالح الأنسانية (رم11: 36).
إِجعلوا أنفسَكم ذبيحة مرضية …!
وقد يقعُ مؤمنو عصرنا بنفس فخ التكَّبر والتعالي على الذين لم يقبلوا المسيح حتى الآن. لذا يدعو بولس اليوم قارئيه، كما دعا أهل روما، إلى التَرَّوي والترَّيُث، وعوض التفاخر و التباهي دعاهم الى التعَّمُق في الحياة الجديدة في المسيح. لماذا خسر اليهود وسقطوا؟. لأنهم تَبعوا شهواتهم وآقتنعوا بأفكارهم كلّيًا ففَضَّلوا رأيَهم على كلام الله. أما المسيح ففعلَ عكسَ ذلك وأطاع الله ولم يتصَّرف إلا بحسب كلام الله. ضحَّى بإرادتِه، وذبحَ شهواتِه تحت أقدام مشيئة الله، فجاءت خدمته وتقدمته” حَيَّةً، مقَّدَسةً “رضيَ اللهُ بها عنه (متى3: 17؛ 17: 6).
وبهذا خَطَّ لنا يسوع دربًا جديدًا للحياة ، وهي أن نقتديَ به في علاقتنا بالله وعبادتنا له. و يُشَّدِدُ بولس كثيرًا على هذه النقطة فيدعو في رسائله، جميعَ قارئيه من كلِّ عصرٍ أو مصر، إلى الأ قتداء بالرب يسوع أو بالله الذي منه ” تعَّلموا محَّبة الآخرين” (1كور11: 1؛ 1تس 4: 9؛ اف5: 1)، وإلى الأقتداءِ به هو فيتعلمون منه “كيف يُرضون الله” (1تس3: 7؛ 4: 2 ؛1كور4: 16؛ في4: 9)). وصاروا فعلا يقتدون به لأنهم منه تعَّلموا ما هي مشيئة الله” أن يرضوا الله لا الناس” ( 1تس2: 4). هكذا فعل يسوع فرضي عنه الله.
… ذبيحة مُقَّدَسة !
وكيف يكون إرضاءُ الله؟. كيف يريدُ الله أن يتصَّرفَ الإنسانُ المؤمن؟. أن يسلك طريق الحَّق والمحَّبة، والتواضع والتسامح، ومشاركة الحياة مع الآخرين. الله الذي هو وحدَه الحَّق (يو17: 3) والمحَّبة الصادقة (1يو4: 8) شارك الأنسان بوجوده وخيراتِه، بالحياة. الله الذي هو القُدّوس طلب منه يسوع أن يُقَّدسَ بالحَّق تلاميذه الذين هو نفسُه قَدَّسَ ذاتَه من أجلهم (يو 17: 17-19). يريدُ الله إذن أن يكون المسيحي قدّيسًا. نعم طلبَ الله، منذ زمن موسى، أن يتقَدَّس شعبُه ليكون جديرًا بإِلَهِهِ القدوس (أح19: 2). وسيُجَّددُ يسوع النداءَ نفسَه ” كونوا كاملين مثل أبيكم السماوي” (متى5: 48). ونقلها بطرس الى قارئيه: ” لا تتبعوا شهواتكم.. بل كونوا قدَّيسين في كلِّ ما تعملون لأنَّ اللهَ الذي دعاكم قدّوسٌ” (1بط1: 14-15). ويُؤَّكدُ بولس بدوره أنَّ المسيحيين” مدعوون إلى القداسة لا إلى النجاسة” (1تس4: 7؛ رم1: 7)، فلهذا يدعو المسيحيين، في رسائله ” الأخوة القدّيسين” (1كور1: 2؛ 2كور1: 1؛ أف1: 1؛ في:1: 1؛ كو1: 2؛ 1طيم5: 10؛ فل1: 5). ولأجل سلوك درب القداسة على المؤمن أن ” ينكر ذاته ويحمل صليب البذل والصمود ويتبع المسيح” (متى16: 24). ويفعلُ ذلك بوعيٍ وطواعيةٍ وتصميم. عند ذاك تُصبح حياتُه كلها، أفعاله وعبادته، ” ذبيحةً حَيَّةً ومُقَدَّسة “. و تصعُدُ رائحتُها بخورًا أمام الله ترضي قداستَه (رؤ8: 4).
لا تتشَّبهوا بما في الدنيا !
و من سلك درب الحياة الألهية، داخلاً من الباب الضَيّق (متى7: 13)، وواضعًا يده على محراث الحقل الألهي (لو9: 62) لن يترَاجعَ أمام حتى الموت لأجل البقاء في زمرةِ المسيح والتحَّلي بفضائله تاركًا وراءَه أباطيل الدنيا أو إغراءات الجسد الشهوانية. بما أنَّه صار في المسيح خلقًا جديدًا فهو يطلبُ أولاً معرفة ما هي مشيئة الله قبل إتخاذ أيِّ قرار أو أداءِ أي فعل. ويُمَّيزُ ما “هو صالحٌ ، وما هو مرضِيٌّ ، وما هو كاملٌ” (آية 2؛ أُنظر فيلبي 4: 8-9) . ولا يتبَّنى الأسلوب البشري في التفاخر على غيره أو إدانة المظاهر، ولا يتكلُ على ذاتِه أو يتغالى في تقدير مواهبِه و قدراتِه، بل يبتعدُ عن كلِّ دجل ونفاق ومجد دنيوي، مُكَّملاً واجباتِه بتواضعٍ، كلُّ واحد بقدر موهبته الخاصّة وطاقته المختلفة: من نبوءةٍ وخدمةٍ وتعليم و وعظٍ وصدقةٍ وإدارةٍ ورحمةٍ. والأختلافُ في الموهبة لا يتطلب ولا يُبَّررُ الأختلاف في المحَّبة. إضافةً الى ذلك طلب بولس الجهِاد ضِدَّ الغطرسةِ والأنانية والأنعزالية والتسَّلط و التجسس ولاسيما ضد التكاسل في الأستمرار في الجهاد باللحاق بالرعيل الأول من المؤمنين بالمسيح، ” الأخوة القديسين “.
ويُعطي الرسول توصيات أخرى تساعدُ المؤمن على الأمانة للدعوة الى القداسة منها الصلاة والثبات على الرجاء والصبر في الضيق، ومشاركة الآخرين أتعابَهم وأفراحَهم و أحزانَهم وحاجاتِهم، مُشَّدِدًا على المحبة الصادقة والتَمَّسك بالخير وتجَّنب الشر والتفاهم و المعايشة السلمية مع كلِّ الناس. ركَّز بنوع خّاص على تجَّنب الشر في كلِّ أشكاله وألوانه. يقول المثل :” العفو عند المقدرة “. أي لا ينفعُ العفوُ إذا كان المظلومُ جبانًا أوقاصِرًا لا قوَّة له لمواجهة الشَّر بالشر فيلجأ الى المسامحة. أمَّا الرب يسوع فنهى عن مقاومة الشر بالشر حتى عند المقدرة. هذا لا يعني التنَّكر للحق، ولا عدم الدفاع عن الذات، ولا عدم مقاومة الشر. يسوع نفسُه إعترضَ على من لطمه من غير حَّق ومن غير صلاحية (يو18: 22)، لكنه منع بطرس (يو18: 10) في نفس الوقت عن القتل حتى دفاعًا عن الحَّق (متى26: 52 -54). الشَّرُ شَّرٌ لا يُبَّرِرُه أيُّ سببٍ كان. و لا الأنتقامُ ولا الحكمُ القضائي بالقتل يُصلحُ الشَّرَ الأول، أو يُعيدُ الأمور إلى مجراها الأول أي كما كانت قبل قيام الشر، أو يردعُ عن شَّرٍ آخر. دواءُ الشَّر هو مقاومته، إنَّه العلاج الذي وصفَه المسيح ويُذَّكرُ به بولس في رسائل عِدَّة، منها إلى أهل روما، فيطلب منهم ألا يُجازوا شَّرًا بشَّر، فلا ينتقموا بل يَدَعوا الحكم لله الذي يحاسبُ كلَّ أحد، ويحكم بعدالة. بل أن يقاوموا الشَّر بعمل الخير مع الشَّريرِ نفسِه، قائلاً : ” لأنَّكَ في عملكَ هذا تجمعُ على رأسِه جمرَنار” (أم 25: 21-22)، ويتابع فيقول :” لا تدَع الشَّرَ يغلبُكَ، بل إغلبِ الشَّرَ بالخير(آية 21؛ 1تس5: 15).