تتلى علينا اليوم القراءات : أع10: 1-16 ؛ أف2: 4-22 ؛ يو17: 1، 11-26
الرسالة : أفسس 2 : 4 – 22
يُذّكر بولس أهل أفسس بماضيهم، لا الوثني بقدر ما يُرَّكز على حالة الناس أجمعين إذ كًنّا تحت حكم الخطيئة بسبب تمَّرد أبِ البشرية على الله، وآنزلاقِه وراء شهوات الجسد. كُنا أمواتًا بالروح. لأنه كان كل الناس، قبل المسيح، يتبعون رغبات الجسد وأهواءَه. كانوا بذلك أبناء الغضب لأن الله عضبَ عليهم إذ فضَّلوا شهوات الجسد عليه، وخسروا بذلك الراحة و النعيم التي هيَّأَها الله لهم في العيش معه في جنة الحياة. إنبهروا بالعكس بإغراءات الجسد و العالم فسلكوا طُرُقَه وخضعوا بذلك لرئيس قوات الشر الناشط في العالم. فلمَّا أغوى ابليس، المتمَّردُ على الله، الأنسانَ و تمَّرَدَ مثله أصبح تابعًا له. وفقد بذلك إمتيازه بالتمتع بصحبةِ الله وخيراتِه من راحة وسعادة ومجد. كان شقاؤهُ الذي تبع سقوطه كابوسًا مُرعِبًا وموتًا روحيًا مؤلمًا جِـدًّا.
لكنَّ الله، الذي خلق الأنسان عن محَّبةٍ فائقة، لم يتخَلَّ عنه بل ترأَّفَ عليه وبرحمته الواسعة أحياه و أعاده إلى مجدِه بقوة طاعة المسيح وموته الكَّفاري. المسيح أمات الجسد لمَّا ضحَّى به وأخضعه للروح. وبالروح إستعاد حياته. المسيح إبن آدم الخاطيء، وآنتمى بذلك إلى الأنسانية رغم خُلوِّه من الخطيئة (عب4: 15)، وتضامن بذلك معه كلُّ الناس كإخوةٍ له. و لأنه غسل خطيئة البشرية بذبيحة دمه، فأمات جسد البشرية المُنَّجس بشهوة الجسد (تك3: 6) والمائت عن الله بسبب ذلك، وأخرجه من سجن ابليس، وأعاد إليه حياة حريته وكرامتِه، ذلك بقيامته وغلبته على الموت أيضًا. وهكذا ذكَّر بولس أهل أفسس، وعن طريقهم جميعَ المسيحيين، أنهم الآن أحياءُ روحًا وجسدًا بآستحقاق دم المسيح.
خلاصنا بنعمة من الله !
شَدَّد الرسول على مجّانية الخلاص فقال :” فما هذا منكم، بل هو هِبَةٌ من الله ” (آية 8). من عادة الأنسان أن يفتخر بأعماله وأن يُطالِب بالأعتراف بها، تقديرها ومكافأَتها. كثيرون ربما يفَّكرون : ما دام اللهُ خلقَنا فهو مسؤولٌ عن أعمالنا، ومُلزَمٌ أيضًا بخلاصِنا. فكان واجبًا على الله أن يغفرَ خطيئتنا، أما كيف فتلك مشكلَتُه!. لو لم يُعَّلم اللهُ الأنسان كيف يعيش ولم يُحَّذِرْهُ مغَّبة المخالفة لصَحَّ إدّعاؤُهم. لكنَّ الأنسان أخطأ بمعرفةٍ وآختيارٍ حُّر، ورفضَ قولَ الله ليُقَّررَ هو ما الحقيقة. وبعدما فشل وخسر رهانَه وكلَّ شيءٍ لم يبقَ له ما يشتري به حياتَه فآستعبَدَه عدُّوُ الله. ولم يتنازل عنه بدون فدية، بل أراد شقاءَه وموتَه. ومن يفديه؟. الله ! لقد رفضه الأنسان وآبتعدَ عنه. لم يبقَ بينهما صِلةٌ.
هنا يترَّحمُ اللهُ عليه لأنه يُحِّبُه ويُقَّررُ إنقاذَه :” وقد دَلَّ على محبته لنا بأنَّ المسيحَ قد ماتَ من أجلنا ونحن بعدُ خطأة ” (رم5: 8). من يخطأ يفقد حقوقه. وأعمالُ الخاطي كلها، لا توازي جسامة خطيئته، ولا تقدر أن تُبَّرره . رفضَ الأنسان قداسة الله وحَقَّه. ولا يقدر الأنسان أن يغفرَ لنفسِه. اللهُ وحدَه قادرٌ على أن يغفر (مر2: 7). وكيفُ يغفر له وقد باع نفسَه لابليس؟. وهذا يريدُ هلاكَه؟. لا قُوَّة تقدر ولا شيء على ذلك. الله وحدَه قادر. لكن الأنسان لا يُحِّبه ويستمِرُّ في التمَّرد عليه. إنه ” قاسي القلب وغليظ الرقبة” (خر32: 9). وعدّه أن يُخَّلِصَه من تعبه وذُلِّهِ وشقائه، إنما بآبن من نسله (تك3: 15)، بعد أن يختبر نتيجة عصيان أمر الله، ويذوق مرارة وقساوة البُعدِ عن الله و حلاوة الُقربِ منه ونعيمه. وسيكرر بولس في رسائله أنَّ الخلاص نعمةٌ مجّانية من الله لم يستحقها الأنسان. ليس الخلاص أجرًا لأعمال الأنسان بل هِبة مجانية، ” لا تعود لا إلى إرادةِ الأنسان ولا الى سعيِه، بل الى رحمةِ الله ” (رم9: 16؛ 3: 24). والرحمة ليست أجرًا بل نعمةً. فبتجسُّد المسيح وفدائِه لم ننل أجرًا مقابل حَقٍّ أو عمل بل هو ” نعمةٌ فوق نعمة ” (يو1: 16).
خُلِقنا في المسيح !
خَلقنا الله، على يد الكلمة الألهية، مرَّتين: الأولى في آدم ، فكُّنا فيه لما أخطأ وأخطأنا معه. والثانية في المسيح، فكُّنا فيه، بناسوتنا، على الصليب لمَّا سمَّرَ الخطيئة في جسده ومَزَّقَ ، بموته صكَّ العبودية، فتحَرَّرنا بالغفران، وقُمنا معه لحياةٍ جديدة، هي روحية إلهية كما خُلِقنا عليها منذ البدء من نفس الله (تك2/ 7). ولهذا حذَّرَ الرسول المؤمن من أن يفتخرَ بنفسِه و يَدّعي فضلاً منه، لاسيما اليهودي، وكأنَّه أنقذ نفسَه بأعمال الشريعة، فكان الخلاصُ دينا وجبَ إيفاؤُه من قِبل الله. أما هكذا صَلَّى الفريسي مُفتخِرًا أمام الله بصومه وصلاته وإيفاءِ العشر، وأدان الآخرين وآ حتقرهم (لو18: 11-12). بينما قال الله له المجد :” لا يُشكرُ العبدُ على ما أُمِرَ به. فهكذا أنتم إذا فعلتم جميع ما أُمِرتُم به فقولوا: نحنُ عبيدٌ بطّالون، وما فعلنا إلّا ما كان يجب علينا فعلُه” (لو17: 10).
لا يعني الخلاصُ أننا أصبحنا أحرارًا من الأعمال. بل قال الرسول بأنَّ الله ” خلقنا في المسيح للأعمال الصالحة وقد أعَّدها لنا من قبلُ لنسلك فيها “(آية 10). فالأيمانُ يُعرَفُ من الأعمال. وإيمانٌ ” بدون أعمال هو مَيِّتٌ ” لا نفع منه (يع2: 18-26). ما دام عُدنا إلى حياة الروح فأعمال الأيمان أن نحيا في ثمار الروح الألهي الساكن فينا (1كور3: 16) . وإذا كنا نحيا بالروح فعلينا أن نسلك نحن سبيله (رم8: 4-6)؛ ونحاول أن نُجَّسدَ الروح في أعمالنا ونُفَّعِلَ ثماره (غل5: 22).
ويُحَّذرُ بولس من العودة الى السلوك الوثني السابق لمعرفة المسيح وقبولِه. عهد الوثنية هو عهد الجسد، عهد الضلال والفساد. هو عهد الغربة عن معرفة الله و وعوده. هو عهد بلا رجاء لأنه بدون إلَه (أف2: 12). ولاسيما عهد الفُرقةِ بين الناس بموجب لغتهم ولونهم و أصلهم وتراثهم وتقاليدهم وآمالِهم. أمّا في المسيح فتزول كلُّ أسباب الفرقة والتمييز، لأنَّ المسيح متجَّسدٌ في كل مؤمن. فكلُّ المؤمنين أصبحوا في المسيح الواحد، وهو يجمع ويُوَّحد الكل في ذاتِه، ويجعلهم” جسدًا واحدًا “. ولأنَّ الجميع أبناءُ الله بالأيمان ، وقد إعتمدوا في المسيح ، بل لبسوهُ :” فلا فرقَ الآن بين وثني ويهودي، بين عبدٍ وحُّر، بين رجلٍ وآمرأة، فأنتم كلُّكم واحدٌ في المسيح يسوع ” (غل3: 26-28). والشريعة التي فرَّقت ومَيَّزت بين فئات من الأفراد والشعوب قد زالت لأنَّ ” المسيح ألغى، بجسده ، شريعة موسى” مع كلِّ أحكامها و وصاياها (اف2: 16) ليحُلَّ السلام والوئام بين كل الناس.