تتلى علينا اليوم القراءات : تك11: 1-9 ؛ رم8: 12-27 ؛ متى21: 23-32
الرسالة : رومية 8 : 12 ـ 27
تحَّدث بولس عن الصراع بين الخير والشر في داخل الأنسان بسبب الخطيئة. وآكَّدَ أنَّ الشر يتنَّشط فيه عن طريق الشهوات الجسدية. ويشعرُ الأنسان أنَّه أضعفُ من أن يُتغَّلبَ عليها بقوَّته الشخصية. لكن المؤمن بالمسيح ماتَ، بعماده، عن الشَّر وقام مع المسيح لحياة جديدة هي حياة الروح. أكَّدَ أيضًا أنَّ المسيحي لا يسلكُ بعدُ سبيلَ الجسد، الذي مات عنه، بل سبيل الروح، الذي ناله بآسم المسيح الساكن فيه بروحه القدوس منذ العماد (رم8: 4-9).
علينا حَّقٌ و واجب : لا للجسد بل للروح !
يلجَأُ بولس إلى ثنائية التكوين البشري الجسد والروح، وليس بذلك بعيدًا عن ثنائية الفيلسوف أرسطو(350ق.م)، ليُوصلَ تعليمه في الخطيئة والخلاص، وفي ضرورة العيش بروح الله. فالحياة تنمو وتُثمر على قطبين: الجسد والروح. الجسد يزول ويفنى أما الروح فتبقى لأنها من وجود الله الأبدي. هكذا ذكرَ سفرُ التكوين أنَّ الله صنع جسد الأنسان من التراب ثم نفخ فيه نسمةَ الوجود من حياته الروحية (تك2: 7). فالأنسان جسدٌ وروح. وعلى هذا يبني بولس خطابَه ويُبَّررُ سمُّوَ الحياة الروحية وتفَوُّقَها على الشهوات الجسدية التي لن يبقى لها وجود في الحياة الأبدية، المحض روحية. وقد أكَّدَ الرسول أنَّ :” ملكوت الله ليس أكلا ولا شُربًا ” (رم14: 17)، بعدَ أن أكَّدَ الرب يسوع أنَّه : ” في القيامة لا يتزاوج الناس ، بل يكونون مثل الملائكة ” (مر12: 24). و في النهاية : ” يزول العالم وما فيه من شهوات” (1يو2: 8). كلَّ: ” شيءٍ يزول. المحبة وحدها باقيةٌ مدى الأبد” (1كور13: 8)، لأنَّ ” اللهَ محبة ” (1يو4: 8). ولهذا لم يترَّدد بولس في القول:” علينا حَّقٌ و واحب أن نحيا لا للجسد بل للروح، لأنَّ الجسد يُميتُ، أمَّا الذي يُحيي فهو الروح (آية 13).
الروح يجعلنا أبناءَ اللـه !
الجسد يَرُّدُنا مع آدم الى التراب ،” أنتَ ترابٌ وإلى التراب تعود “(تك3: 19). أما الروح فيُحيينا مع آدم الجديد، يسوع المسيح (1كور15: 45-49). ومن صورةٍ لله رفعَنا وجعَلنا ” أبناءَ الله “. وحقوقُ الأبن غيرُ حقوقِ الشبيه. فالخُدّامُ أشباهُ أسيادِهم، مثلهم عقلاءٌ وأحرار، و لكنهم لا يرثونهم. طلبَ الأبن الضال، عند عودتِه، أن يؤَّمن فقط معيشتَه مثل الخدام، لكن أباه كَرَّمَه بحقوق الأبن، رغم الشَّر الذي فعله، وآحتفل به كعريس (لو15: 20-25). هكذا قبلنا اللهُ، بقُوَّةِ المسيح، أولادًا يشتركون في غناه ومجده للأبد. وعندما يموت ويفنى جسدنا الترابي يقبل الله روحنا، ةيُلبسُنا جسدًا روحيًا كما للمسيح (1كور415: 49؛2كور5: 1-5)، إذا عرفنا أنَّ نحيا ونتصَّرف بالروح من الآن، لأنَّ” اللهَ أعَّدنا لهذا المصير، ومنحَنا عربون الروح “، ولأنَّه يُعطي” كلَّ واحدٍ منا جزاءَ ما عملَه وهو في الجسد، أخيرًا كان أم شَرًّا” (2 كور5: 5 و 10). فقد سبق ورفضَ الله إقامة العهد مع إسماعيلَ ونسله لأنه لم تكن ولادته من الخادمة بمشيئة الله بل بمشيئة الأنسان وكان ابنَ الجسد، بل أقامها مع إسحق ابن الحُّرة والتي ولدته، رغم عقمها، بإرادةِ الله وقوَّةِ روحه القدّوس (تك17: 18-22).
المجد الآتي !
المجدُ صِفةٌ لله القادر على كلِّ شيء. طلبه يسوع مع الآب (يو17: 5)، بصفته المسيح الذي عمل دومًا بمشيئتِه، فأتاه الجواب:” مجَّدتُه وسأُمَّجدُه ” (يو12: 28). وقد ناله في آلامِهِ. لمَّا ذهبَ يهوذا ليُسَّلِمَه قال يسوع :” الآن تمَّجَّدَ إبنُ الأنسان وتمَّجد اللهُ فيه “(يو13: 31). دربُ الآلام أصبحَ دربَ المجد. ولهذا قال بولس:” ما دمنا ورثة الله مع المسيح {وأبناء الله}، يجب علينا أن نشاركَه في آلامِه حتى نشاركه أيضًا في مجدِه” (آية 17). وقد سأل يسوع الآبَ أن يشارك كلَّ من تبعَه في مجده هذا (يو17: 21 و24). وآمن بولس بهذا وعاشَ على هذا الرجاء وآنتظر إكليل المجد وهو في السجن وقبل أن يستشهدَ(2طيم4: 8). لقد ذاق بولس و تحَّمل أقسى العذابات من أجل إيمانه وتأدية رسالتِه (2كور11: 23-33)، ونال من الرؤى ما لم ينَله غيرُه فعرف مجدَ الله السماوي (2كور12: 1-6). لقد جاهدَ كثيرًا من أجلِ التنَّعم به ، وشجَّع تلاميذه للعمل من أجله، لأنه ذاقَ بوادرَه فإشتاق إليه كثيرًا (في1: 23-30). و حتى يُشركَ قارئيه فيه قال بثقة وضمان :” أرى أَنَّ آلامَ هذا الدهرلا تقاسُ بالمجد المزمع أن يتجَّلي فينا ” (آية 18). كشفَ ما عرفَه لئلا يتخَّبط المتألمون والمُتضايقون في بؤسِهم بل ينظروا إلى أبعد ويعاينوا أشعَّة المجد المُريحة.
الخليقةُ كُلُّها تـئن !
ليس الأنسان وحدَه يدفعُ ضريبة الخطيئة ، ويتطَّلعُ إلى إنفراجٍ سريع وآنتهاءِ سطوةِ الجسد المادّي وآضطراباتِه. الأنسان سيّدُ الكون ومُكَّمِلُه. وعندما أخطأ تجاه خالِقِه إضطرب في فكره وقلبه وفقد السيطرة على ذاتِه أساءَ التعاملَ مع الخلائق كلها وحتى مع الطبيعةِ ذاتِها. فصار الكون الأرضي كله ” يَئِّـنُ ” ويتأوَّهُ، ويتطَّلعُ إلى إنهاءِ هذه الحالة الشَّقية. وتحريرُ المسيح من سطوة الخطيئة يشملُها أيضًا. لكنَّ تحريرَها مُتعَّلِقٌ بالأنسان. فهي تطالبُه بأن يُنَّفذَ بحَّقها واجبَه ويُحسنَ التعاملَ معها، ” فتنتظرُ بفارغ الصبر ظهورَ أبناءِ الله” ، لتشتركَ معهم في” التحَّرر من عبوديةِ الفساد، وفي المجد ” (آية 19-21). تنتطر الطبيعة من أبناء الله أن يُحبوها ويحترموها ويخدموها، حتى تخدمهم بدورها وتريحَهم وتُسعِدَهم. إذا كانت الأرضُ قد لُعِنت بسبب الأنسان الخاطيء فأتعبته وخانته في ثمرها (تك3: 17-19)، إلا إنَّها إغتسلت مع الأنسان التائب/المسيح/ بمياه الأردن، وتطهَّرت معه على الصليب بدم الغفران، ونالت ربيعًا جديدًا مُزهِرًا مجيدًا مع القيامة. فتطالبُ سَيِّدَها،” إبن الله “، أن يُعيدَ إليها، هي أيضًا، كرامتها وأمنها كونها خليقة الله القدوس البار، لتتفاعلَ مع نظامه وتقَّدمَ عطاءَها لإسعاد حياة أبناء الله. وحتى يتحَّققَ تجديد الطبيعة أيضًا ويختفي فساد الجسد هناك روح الله. فهو ” يجيءُ ألى نجدةِ ضُعفِنا”. وكما حمى الكون منذ خلقِه ثم أحياه في الجسد (تك1: 1-3)، فهو عادَ فجَدَّدَ الخليقة في المسيح يسوع، وأقام عهدًا جديدًا هو عهد الروح (2كور3: 6)، لتعكس صورة مجد الله، فيتحَوَّلُ الإنسان والطبيعة ” إلى تلك الصورة وهي تزدادُ مجدًا على مجدٍ، بفضل الرب الذي هو الروح ” (2كور3: 18). والمطلوبُ من الأنسان أن يصمد في هذا الرجاء. و” مع أنَّ الأنسان الظاهر فينا يسيرُ الى الفناء، إلا أنَّ الأنسان الباطن يتجَدَّدُ يومًا بعد يوم. والضيقُ الخفيفُ العابرالذي نقاسيه يُهَّييءُ لنا مجدًا أبديًا لا حدَّ له ” (2كور4: 17).