تذكار مار أدَّيْ رسول المشـرق
تُعَّيدُ له الكنيسة الكلدانية اليوم ، الأحد الخامس للقيامة من كل سنة ، وهو شفيع مركز يوتيبوري للكلدان في السويد ورعيتَي كرمليس و يردا في العراق. هو أحد التلاميذ 72. لقد رافق مار توما الرسول في جولته التبشيرية، مع خمسة من التلاميذ الآخرين، إلى شمال ما بين النهرين فأسَّسوا كنيسة الرها. ولمَّا غادر مار توما إلى الهند سَلَّم رعاية الكنيسة الى إدارة أدَّي. فتابع أدي التبشير في وادي النهرين، متَّجهًا نحو الجنوب، سالِكًا الطريقَ الملوكي إلى الموصل (آثور) فأربيل (حَزَّةً) وكركوك (باجرمي) حيثُ توَّقفَ فترةً ثم عاد الى الرها. وأرسلَ التلميذين ماري و أحَّاى لمتابعة الرسالة حتى جنوب العراق. تقولُ قصَّتُه، ” سيرة مار أدي”، أنَّه لمَّا وصل الرها إلتقى بالملك أبجر وشفاه من برصِه و من خطاياه، وعَمَّده هو وأهل بيتِه، وأسَّس رعايا عديدة. ولما رجع من كركوك تابع نشاطه وفي السنة الثانية عشرة من مُلك ابجر توُّفيَ في الرها.
تتلى علينا اليوم القراءات : أع9: 1-18 ؛ عب 10: 19-36 ؛ يو21: 1-14
الرسالة : عبرانيين 10 : 19 – 36
يبدو ان كاتب الرسالة يوجِّهُ كلامَه الى المهتدين الجُدد، والذين لم ينصهروا بعد في الأيمان. يُشَدِّدُ على أن المسيح هو الوسيط الوحيد لخلاص الأنسان. وللإستفادة من وساطته ينبغي الأيمان به. الأيمان: لا فقط الحرفي بالأعتراف بأنَّه مخَّلص العالم، بل الأيمان الحيوي الذي يُغَّيرُ السلوك القديم ويتخَّلى عنه ليتبَّنى السلوك المطلوب، الروحي الذي يتسامى عن الشهوة الحسية ومتطلبات الجسد، ويتنَّشَط في متطلبات الروح. فالأيمان يقتضي الخروج من قوقعة الذهنية المادّية لرؤية الأمور بمنظارالله، الأزلي والأبدي، والتفاعل معها، وعن قناعة تامَّة. ما يعمله الله أو يقوله لن يتكَرَّرَ ولن يتَحَوَّر. لأنه الحَّق الكامل ولا يتغَّير ولا بديل له. فليس للمسيح بديلٌ آخر حتى نتكاسل في آتّباعِ الحالي، فـنأملَ و ننتظرَ مجيءَ غيرِه أفضلَ منه. المسيح كفّر بدمه عن خطيئة البشرية. ولن يُكَّفر مَرَّة ثانية (رم6: 10؛ عب7: 27؛ 9: 26؛ 10: 10-14) ، ولا توجد كفَّارة أقوى وأضمن منها. الآن زمن الغفران. المسيحُ هو ربَّان سفينة الخلاص. فمن يرفض ركوب سفينته لن ينال الخلاص. ومن أجل ركوب سفينتِه يحتاج المسافرُ إلى تذكرةٍ تشهدُ بالأنتماء والتغيير وحفظ نظام السفينة.
من يخطأ عمدًا يصعبُ خلاصُه !
تُشَّدِدُ الرسالة على عدم الأستخفاف بشريعة المسيح أو إستصغارِ شخصِه. بالمسيح إنجلت الحقيقة الألهية الفائقة على ذهن الأنسان؛ ” أتيتُ لأشهدَ للحَّق” (يو8: 42؛ 18: 37). و بعدما آنجلت الحقيقة لا عُذرٌ للأنسان أن يخطأ ولا أحدٌ يُبَّرِرُه إذا ” خطيءَ عمدًا”. لا توجد حقيقةٌ أُخرى مخفية تزيلُ خطيئة البشر، ” لا تبقى هناك ذبيحةٌ كفّارةً للخطايا” (آية 26). لأنَّ ” المسيحَ بقربانٍ واحدٍ جعلَ الذين قَدَّسَهم كاملين للأبد “.. لقد تحَقَّقَ الغفران . وحيثُ ” يكون غفرانُ الخطايا، لا يبقى من قربانٍ من أجلِ الخطيئة ” (عب10: 14-18). فمن عرفَ المسيحَ على حقيقتِه ورفضَ شخصَه و تعليمَه لن يأملَ بغير دينونةٍ قاسية. قالها الرب :” لو لم آتِ وأُكَّلِمُهم لما كتبت عليهم خطيئة. ولكن لا عذرَ لهم اليوم ..” (يو15: 22)، بل ” سيموتون في خطيئةِ رفضِهم” (يو8: 21). المسيحُ هو المعلم وقد سلك وطبَّق ما علَّمَ. إنَّه نموذج الأخلاق و” جعلَ من نفسِه قدوةً لآقتفاءِ آثارِه “(1بط2: 21).
إفتهم الرسل جيّدًا تعليم المسيح فأوصلوه إلينا. سبق الرسول فقال عن المؤمنين الجاحدين :” الذين أُنيروا مرَّةً ، و ذاقوا الهبة السماوية، وصاروا مشاركين في الروح القدس، وآستطابوا كلامَ اللهِ الحسن .. إذا سقطوا مع ذلك، يستحيلُ تجديدُهم وإعادتُهم الى التوبة، لأنَّهم يصلبون ابن الله ثانيةً لخُسرانِهم ويُشَّهِرونه ” (عب6: 4-6). يبدو هذا ما حصل ليهوذا الأسخريوطي . لهذا لا يتفاءَلُ كاتبُ الرسالة بالخيركثيرًا تجاه من يرتَّدُ عن المسيح أو يرفُضُه بعدما عرفَه حَقَّ المعرفة. فلم يترَّدد أن يُنذرَ أمثالَ هذا ، بإلهام الروح القدس، ويقول : ” فأيُّ عقابٍ شديد يستحِقُّ من داسَ إبنَ الله ، وعَدَّ دمَ العهد الذي قُدِّسَ به نجسًا، وآزدرى روحَ النعمة… إنَّ الرَّبَ سيدينُ شعبَه.(تث32: 35-36)،” وما أهولَ الوقوعُ في يد الله الحي” (عب10: 31). سيظهرُ المسيح ثانيةً ، نعم، إنَّما ليس للتكفير عن الخطيئة. بل يجيءُ حاملاً إكليل المجازاة لخلاص كل من آمن به وحفظ وصاياه (عب9: 28).
فتح لنا بدمه سبيلا ألى القدس !
نتيجة خطيئته إنسحبَ الأنسان من حضرة الله، وترك الجنَّةَ، وسُدَّ في وجهه سبيلُ العودة. و قام حاجزٌ بينه وبين الله لا يسمح له رؤية وجه الله :” من يرى وجهي يموت”(خر33: 20). لأنَّ :” طريق القدس غيرُ مفتوح “(عب9: 8). كان حجابٌ يفصلُ بين قدس الأقداس وعامة الناس (عب9: 3). لكنَّ المسيح إخترقَه بذبحِ جسده ” فآنشَّقَ حجابُ الهيكل شطرين من فوق الى أسفل ” (متى27: 51). كان الجسد قد سَدَّ الطريق بخطيئته. رفضَ آدم أمرَ الله و خالفه بتفضيل شهوة العين والبطن (الجسد) على الثقة بالله والأنصياع للحقيقة التي كشفها له. أصبح الجسد حاجزًا يمنع الوصول الى الله. هذا الجسد إخترقه المسيح، شَـقَّه، وفضَّل عليه طاعة الله. لم يُفنِ الجسد، لأنه ينفعُ كثيرًا أيضًا إذا تمَّ إستعمالُه بشكل صحيح. إنَّما لم يسمح له يسوع أن يتمَرَّد على مشيئة الله. الروحُ ” راغبةٌ لكن الجسدَ ضعيف.. إن أمكن يا أبي فلتعبُرْ عني هذه الكأس.. ولكن لا كما أنا أريد، بل كما أنت تريد .. لتكن مشيئتُكَ” (متى26: 39-44). لقد تألم الجسد بالضرب واللطم والجلد والصلب، وآصطبغَ بالدم.. لقد إخترَقَـتْه الطاعةُ لله ومزَّقتْه. لم يبق بعدُ قادرًا على أن يقاومَ ويمنع الأنسان من الوصولِ إلى الله. ولا أن يُشفيَ جرحَه ويستعيدَ قوَّتَه. سُلطانُه تمَرَّغ في التراب وذُلَّ سِلاحُهَ. وآنفتح بدم المسيح، للمؤمنين به، سبيلُ العبور الى الله، والألتقاء به ” وجًهًا لوجه ” (1كور13: 12)، والتمتَّع براحتِه (عب4: 3). وقد عايَنّا، بعكس موسى وايليا، مجدَ الله في شخصِ يسوع ،” من رآني رأى الآب” (يو14: 9).
طهَّرَ قلوبَنا من سوء النية !
لقد غسل المسيح المُعَّمد بدمه فطهَّرَ قلبه من الملّذات النجسة والرغبات الدنيئة وصَفَّى فكرَه ونقّاه من الضلال ومن التعاليم الفاسدة. فالمنتمي الى المسيح إغتسل وتنَّقى بنار الروح القدس وآستعادَ البراءة التي خُلِقَ عليها وآنتعشت روحُه بنَفَسِ الله الذي نفخه فيه يومَ خلقَه. لذا طالبَ الرسول أن لا نحيا بعدُ للجسد بل أن نحرسَ علي الخيرات التي نلناها بالإيمان بالمسيح، من نعمةٍ وقوة الهية، تسندُ حُسنَ جهادنا في معركة الأيمان (1طيم6: 12). وهذا يتطلبُ منا أن نتمَّسكَ برجائنا ولا نَحِدَ عنه. رجاؤنا مبنيٌّ على وعد يسوع. ويسوع وعد رُسُلَه، و” كل الذين يؤمنون به على يدهم ” (يوَ17: 20) أنَّه يُسكن أحّباءَه الأوفياء لتعليمه معه في مجد الحياة الأبدية (يو14: 3؛ 17: 24). ويشَّددُ الرسول أنَّ المسيح صادقٌ في وعوده ولا يحنثُ بها. وسبقَ فقال : ” إذا كُنَّا نحن خائنين ظلَّ هو وفيًا، لأنه لا يُمكنُ أن يُنكِرَ نفسَه” (2طيم2: 13). هو نموذجُ الحَّق، ” ولم يُخطِئْ ولم يعرفِ المكرَ فوهُ ” (1بط2: 22)، لأنه اللهُ الذي” لا يتبَّدَل ولا يدورُ فيرمي ظِلاًّ ” (يع1: 17).
ومار بولس يتغَنَّى بهذا الرجاء الذي كان سندَه في ضيقاتِه وآلامِه بحيث جاهد جهادًا حسنا وأكمل مُهِّمتَه مُحافظًا على إيمانه، فيقول : ” وقد أُعِدَّ لي إكليل البر يجزيني به الرَّبُ الدَّيان العادل.. لا وحدي بل جميع الذين يشتاقون ظهورَه ” (2طيم4: 6-8). وما يَدُّلُ على التمَّسُك بالرجاء هو الجهاد من أجل الأيمان، حتى أوصى تلميذه طيمثاوس قائلاً: ” أستودعُكَ هذه الوصية ..لتستند إليها وتجاهِدَ أحسنَ جهاد بالأيمان والضمير السليم الذي نبذَه بعضُهم فآنكسَرَت بهم سفينة الأيمان” (1طيم1: 18-19). ولا يقومُ جهادٌ ويفلح بدون معوقاتٍ و آلام ، فيُضيفُ لتلميذه نصيحةً مُكَّملة للأولى : ” خُذ قِسطكَ من الآلام، قسطَ جندِيٍّ صالح للمسيح يسوع .. الذي في سبيله ألقى الآلام حتى حملتُ القيودَ كمجرمٍ ” (2طيم2: 3-9).
لا تنقطعوا عن الأجتماع !
يُضيفُ الرسولُ نصائح مَهِّمة يراها ضروريةً ليستمرَّ المؤمن وفِيًّا لإيمانِه. أوُلاها المُداومة على اللقاء الأسبوعي الروحي ” للتثقيف والصلاة ومقاسمة طعام المحبة وإقامة القداس” (أع2: 42؛ 20: 7؛ 1كور16: 2). يُشَّددُ عليه أيضًا كتابُ تعليم الرسل” ديداخى” (الوصية 14 فقرة 1). فالأجتماع الأسبوعي، يومَ الأحد، مُهِّمٌ جدًا لبناء حياةٍ مسيحية مثالية في لقاء المحَّبة بين المؤمنين ومع الله. إنَّ الحياة المسيحية تُبنى جماعيًا، لسبب الأيمان الواحد بنفس الله ونفس القيم والخيرات الألهية، ووحدة الدعوة المشتركة لنفس الأخلاق ونفس المصير (أف4: 4-6). المسيحيون كلهم جسد واحد أعضاءٌ لرأس واحد هو المسيح (1كور12: 27؛ اف1: 22-23). وخدمة اجتماع الأحد ” ترمي الى بناء جسد المسيح ..حتى نصيرَ الأنسانَ الكامل، ونبلغ القامة التي توافق سَعَةَ المسيح” (اف4: 12-13). من خصائص هذا اللقاء أن يتكاتفَ المؤمنون ويتضامنوا للشهادة للمسيح، متغَّذين ومستنّدين الى المعرفة والمحبة المتبادلة من خلال الله نفسِه، بقوَّةِ حضوره الفاعل في كلِّ واحدٍ منهم. فلم ينسَ الرسول أن المعرفة والمحبة تقتضيان أن يتعاون المؤمنون بينهم في مسيرة حياتهم الروحية، فذَكَّرَهم بواجب ” حَثِّ ” بعضهم للبعض على هذا الحضور، وآستثمار كلُّ واحدٍ موهبتَه الخاصّة ” لبُنيان الخير العام ” (1كور12: 7). ولأداء هذه الخدمة ينبغي للمؤمن أن ينتبه ويهتَّمَ بإخوتِه المؤمنين ويُشَّجعَ بعضُهم بعضًا ” على المحبة والأعمال الصالحة ” (آية 25).