تتلى علينا اليوم القراءات : تك7: 1-24 ؛ رم7: 14-25 ؛ متى20: 17-28
الرسالة : رومية 7 : 14 ـ 25
سبق بولس وتحَّدَثَ عن الصراع بين الشريعة والخطيئة. وأكَّدَ بأن لا توجد خطيئة من دون الشريعة، قائلاً :” ما عرفتُ الخطيئة إلا بالشريعة ” (رم7: 7). وهل يعني هذا أن الشريعة هي تُقَّدسُ الشر وتشَّجعُ عليه؟. طبعًا لا. بل هي تُعَّرفُ به وتكشفُه وتُحَّذِرُ منه. ولكن لو لم تقُلِ الشريعة ” لا تقتل ، أو لا تسرق ” لكان قتلُ الأنسان حلالاً مثل قتل الحيوان، ولكانت سرقة أموال الآخرين أمرًا طبيعيًا مثل إستعمال موارد الطبيعة. ولكنْ لأنَّ الشريعة منعت القتل والسرقة، لأنَّ الحياة والخير مُلكُ الله، و تغريني أحاسيسي وتدفعني الى ممارستها من باب الفضولية، وأيضًا بسبب الشّرير الذي أيقظ فيَّ شهواتي وجَمَّلَ أمامي المخالفة مُدَّعيا أنها تجلب لي خيرًا أَعظمَ لا أفقهه إلا إذا إختبرتُه. فمن باب الخبرة إقتنعت أنَّ أُجَرِّبَ وأرى بنفسي النتيجة. الحُرية التي في داخلي حوت الميل الى المخالفة لأُقَّررأنا بنفسي ماذا ينفعني . ولما جرَّبتُ وقعتُ في حبائل الشّرير، الذي كذبَ عليَّ، و صرتُ عبدًا للشهوات. تغَّلبت عليَّ شهوة ما ألتَّذُ به بالحواس، وصرتُ مجبولا على الخطيئة. فالشريعة التي هدفت صيانة الحياة وحَذَّرتني من مغَّبة المخالفة قادتني إلى المخالفة ففقدتُ الحياة.
ما أريده لا أعمله ، أعمل ما أكرهه !
من يقرأ نص الرسالة يشعر وكأنه يستمع إلى محاضرةٍ يلقيها فيلسوف أستاذٌ في علم النفس. بل يقرأ بولس ما يجري في داخله وداخل كل إنسان نزيه يتوقُ الى الحق ويعترفُ بالواقع. سجَّل بولس ما يتفاعل في داخله من أفكار ورغبات وأفعال. كلُّ إنسان يشعرُ، بسبب طبيعته المخلوقة في البرارة ، ميلاً وشوقًا إلى أن يكون مثالا إيجابيًا في تصَّرفاتِه ، ممدوحًا في براءَة أمنياتِه وحتى قدّيسًا في الصمود في الحَّق وبطَلا في الحفاظ على محبته لجميع الناس ، في كل الظروفِ وكلِّ الأحوال. إنها الروح الألهية التي تجري في عروقِه. لكنَّه يشعرُ في نفس الوقت بقوَّةٍ تصُّدُه، أو بالأخرى بمشاعر أخرى تُغريه وتثيرُ شهواتِه وتجُّرُه بقوةٍ أشَّد إلى التمَّتع بها أو إتّباعها لأنها توعدُه بخير محسوس وراحةٍ لذيذة يحُّنُ إليها. إنها كما سَمَّاها بولس” شريعة الجسد ” التي تجعله يعمل ما يعترفُ به أنَّه خطأ ويُهملُ ما يشتاق ويقصُد أن يفعلَه، لأنه يتخاذل ويتبع هواهُ وليسَ مُبتغاهُ، يختارُ أحاسيسَه وليس إيمانَه، ثمَّ يُبَّررُ مُخالَفَتَه بضعفِهِ الأدبي. وذلك هو فعل الخطيئة الساكنة في الأنسان. كانت الخطيئة أول فعلٍ قام به الأنسان في نظام الكون فأصبح الشَّرُ ملازمًا له.
بإمكاني إرادةُ الخـير !
يعترفُ بولس ويُعَّلمُ أن” الخطيئة الساكنة في الأنسان”، لمْ تُزِلْ برارة طبيعة الأنسان ولم تقضِ عليها، كما إدَّعى بعضُ المعَّلمين. إنَّ صورة الله وحياته في الأنسان، وإن تشَّوَهت إلا إنها لم تُـفقَـدْ بفعل الخطيئة. ما زال الأنسان محتفظًا بنسمة حياة الله، فيميلُ الى الخير والبر. ويقدر أن يتبعهما كما فعل نوح وأيّوب وإبراهيم وكلُّ الأبرار من كلِّ الشعوبِ والأمصار. فقد حافظ على حُرَّية إختيار تصَّرفه. أمَّا الخللُ، من جرَّاء الخطيئة، فأصابَ إرادة الأنسان، فمال الى المحسوس الملموس أكثر منه إلى المطلوبِ المرغوبِ. حافظت الطبيعة على جودتها، ” ورأى الله أنَّ كلَّ ما صنعه هو حسَنٌ جِدًّا ” (تك1: 31). ولا يتغَّيرُ الله، لا في ذاتِه ولا في فعله (يع1: 17). ولا تقوى فوَّة على تغيير طبيعة الأشياء. ما طرأ عليه التغيير فهو في فعل الأنسان، الذي هو ثمرُ إختيارِه. فالأرادة هي التي تشَّوهت ومالت نحو مخالفة نظام الله المُقام لخير الأنسان. ولأنَّ خير الأنسان هو في الميزان فما يُسيءُ إليه هو خطيئة. ولهذا أصبح القتل والسرقة و.. كلَّ ما نهاهُ الله شَرًّا لا يجوز لا آرتكابُه ولا حتى القبولُ به. فمن إرتكبه أو قبل به يُؤَّدي عملَ الخطيئة، فيخطأ، كما قال الرسول :” إرادةُ الخير هي بإمكاني، وأمَّا عملُ الخير فلا…وإنْ كنتُ إعملُ ما لا أُريدُه، فما أنا الذي يعملُهُ بل الخطيئة التي تسكُنُ فيَّ” (آية 21).
من يُنَّجيني من جسد الموت هذا ؟
هذه هي مُعاناة الأنسان بسبب الخطيئة وبسبب ضعفِ إرادتِه. وقد تألمَ منها مار بولس مثل كلِّ الناس، ومن ألمه صرخَ :” ما أتعسني أنا الأنسان ” (آية24)، رغم كلِّ رؤاه (2كور12 : 1-9)، والأشفية التي تمَّت على يده (أع19: 12). لكن هذه المعاناة ليست مرَضًا عضالاً ميئوسًا منه لا يُعالج. ويبقى بولس مثالا حتى في هذه الحالة، وهو يقول:” أُصبتُ بشوكةٍ في جسدي، وهي كرسولٍ من الشيطان يضربني لئلا أتكَّبر”{ إذن مسموحٌ بها لأجل خيرأعظم} ويتابع :” صلَّيتُ الى الله ثلاث مراتٍ أن يأخُذها عَّني، فقال لي: تكفيك نعمتي. في الضعفِ يظهرُ كمالُ قُدرتي” (2كور12: 7-9). ما يفعله بولس من تبشير ومعجزات هو عملُ الله يتِّمُ على يده، وحتى لا يعتبره بقوَّةِ ذراعِه يُشعرُه الله بضعفِه. وهكذا بخصوص الصراع داخل النفس بين القدرةِ والأرادةِ، بين الخير والشَّر، يرعاهُ الله ليُذَّكرَ الأنسان بأنه لم يُخلق للأكل والشرب والشهوات الحسية، بل تلكَ هي قوى وطاقات تخدمُه فقط، حتى بإزعاجِها. فإذا إستعملها بشكل جَيِّدٍ صحيح، تُظهرُ فيه الحياة الألهية المُفاضَةَ فيه. وبالتالي تشعرُه بأنَّه، وإن كان ناقصًا في جسده وضعيفًا إلا إِنه يقوى بقدرة الله على حتى المعجزات. وقد فهمها بولس جَيِّدًا إذ يُنهي كلامه بحمدِ الله على تدبيره (آية 25). وسيُبَّررُ بعدَه موقفَه هذا حيث يقول: ” أنا أرضى بما أحتملُ من الضعفِ، والأهانةِ والضيقِ و الأضطهادِ، والمَشَّقةِ في سبيل المسيح. لأني عندما أكونُ ضعيفًا أكون قَوِّيًا ” (2كور12: 10). لأنَّ الله يعمل فيه دون إعاقةٍ منه بآتّباع آرادته وقناعاتِه الخاصَّة.
الخطيئة الساكنة !
سمَّى مار بولس حالة ضعف الأنسان الشهوانية بـ” الخطيئة الساكنة” فيه. ليست الخطيئة عضوًا أو حاسَّةً أو طاقةً قائمة بذاتها لا يمكن السيطرة عليها. إنها حالة الميل ورغبة إتّباع تحقيق الشهوات الحسّية على حساب القوى الروحية التي تميلُ وتدفع الأنسان إلى الأصغاءِ إلى الله وآتّباعِ تعليماته و وصاياه. تحَّكم هذا الميل وسيطر على قوى الأنسان ملايين السنين حتى أصبح، كما يُقال، شبه ” طبيعة ثانية “. فعانى منه ولا يزال، لاسيما بوجود الشّرير الذي يُحَّرضُ الأنسان ويُشَّجعُه عليه. لكن المسيح بموته الأرادي، أي بخضوعه لأرادة الله وتفعيله القوى الروحية، حَرَّرَ الأنسان من حكم الشهوات ونَصَّرهُ على الشَّرير غاويه، و زوَّده بسلاح الروح القدس، الروح الألهي نفسِه، ليُنَّسق بين طاقاته ويستعملها حسب الهدف المرسوم لها، فتُؤَّدي كلُّ طاقةٍ عملها لآكتمال الأنسان وليس لتشغيلها ضدَّ طبيعتها.