تتلى علينا اليوم القراءات : اش1 : 2-5 ؛ 1كور10: 14-17، 31-33 ؛ لو13: 10-17
الرسالة : 1 كورنثية 10 : 14 – 17 ، 31 – 33
تُتابع الرسالة نص الأحد الخامس وتُكَّملُ الحديث عن الموهبتين، التكَّلُم باللغات والإِنْباء، و عن الأسلوب الصحيح لآستعمالها لكي تنفع الجماعة المؤمنة. وهذا يقتضي نظامًا واضحًا يتقَّيدون به في الأجتماعات الطقسية.
قد يأتي كلُّ واحد منكم بـ …!
يبدأ بالتأكيد على أنَّ الأنسان بحاجة أن يستعمل طاقاته الفكرية والروحية في كلِّ خدمةٍ يُقَّدمُها روحيةً كانت أو عقلانية. لأنَّ العقل والأيمان لا فقط لا يتعارضان بل يتكاملان، لأنَّ الأنسان جسد وروح، ولأنَّ مصدَرَهما واحد هو الله الخالق. إنَّ عمل الله الروحي كلُّه منطقي، و الحواس المادية تُنعشُها الروح وفيها يتجَّلى نشاطُ الروح. إذن لا مجالَ للتفريق بين الروحي و الفكري ولاسيما لا يجوز الإستغناء عن أيِّ واحد منهما.
يُضيفُ بولس إلى هذا بأنَّ كلَّ مؤمنٍ مُؤَّهلٌ لأن يعملَ الروحُ من خلالِه :” قد يأتي …”. لا يوجد في الأيمان لا من هو أفضل ولا من هو أدنى من غيره. هناك ” روح واحد، ورجاءٌ واحد، وربٌّ واحد، وإيمان واحد، ومعمودية واحدة، وإلَهٌ واحد أبٌ لجميع الخلق .. يعملُ فيهم جميعًا وهو فيهم جميعًا ” (أف4: 4-6). فيقدر الروح أن ينطقَ بفم أيٍّ كان، وأن يعملَ اللهُ في كلِّ واحد امرًا يختلفُ عن غيره. وهذا لا يرفع ولا يُنزل من شأن أحد. عليه يجب أن يحترمَ المؤمنون بعضَهم ويعترفوا بقدر المقابل، بل أن يذهبوا إلى أبعدَ من ذلك ” فيتواضعوا ويَعُّدوا غيرَهم أفضل منهم” (في2: 3) . يجبُ أيضًا فتح المجال لكل واحد أن يُظهرَ ما يريدُ الروحُ إبلاغَه لنا بواسطته، وعليه يجبُ أن تُعطى الفرصةُ لكل المواهب أن تتجَّلى في الجماعة لأيصال وحي الله وإرشاده. إنما لا يتوَّهم صاحب الموهبة أَنَّ هذا إمتيازٌ له من الله تقديرًا لحُسنِه وتمجيدًا له. فلا يتوخَّى أحدٌ من وراء موهبته نيل مجدٍ و تكريم وتبجيل. لأنَّ الفردَ لا يقدر أن يتحَّلى بكل المواهب، لذا يوزعُها الله على كثيرين لكي يؤَّدي كلُّ واحد خدمةً معَّينه تنفعُ المصلحة العّامة. ولهذا قال بولس :” إِبْتَغوا البنيان في كلِّ ذلك” (آية27). ويقصُد بالبنيان ” بنيان الكنيسة” (14: 12). و المصلحة العّامة تخدمُ، بطبيعتها، كلَّ فردٍ من الجماعة.
كونوا في الرأي راشدين !
تبرزُفي كلِّ المجتمعات الأنسانية أن الناس تقتنعُ بآرائِها وقابلياتها وتفتخرُ بنشاطاتها. وتتمَسَّكُ بها بشِّدة، بل أحيانًا بتعَّصبٍ مُخجِل مثل أطفالٍ لا يعرفون أن يخرجوا عن ذواتهم أو يروا أبعدَ منهم، ولا أن يتحاوروا، ولا يقبلون بأن يكون غيرُهم مثلهم أو أفضَل منهم. وفعلا قال بولس للكورنثيين” لا تكونوا أطفالاً في الرأي”. أي لا تفَّكروا مثلهم بل كونوا ناضجين و كاملين في المعرفة و في أسلوب التعامل مع غيركم. وإذ كان تلميذ المسيح والمُعَّمدُ بآسمهِ قد ” لبسَ المسيح” فعليه أن يتصَرَّف كإِنسان” راشِدٍ “، أي عاقلٍ ومُهَّذَبٍ يعرف حدودَه، يعترفُ بكرامة غيره، ويُقَّدرُ ظروفَ الحياة ومتطلباتِها، و لاسيما يؤمن بحضور الله وعمله في كل إنسان فيتكل عليه و يتجاوبُ مع إيحاءاتِه حتى يتحَقَّقَ الخيرُ الذي يريده الله للناس. ولو تصَرَّفَ كلُّ المؤمنين في كل الكنائس بهذا الشكل لما جرت فيها مشاكلُ المنافسة والغيرة و طلب المناصب والإِعتدادِ بالذات.
ليس الله إلَهَ فوضى بل سلام !
كلُّ الإجراءات المذكورة التي إتَّخذَها مار بولس تخُّصُ الخدمة ” الجماعية “، التي تُنَّظمُها السُلطة الكنسية المسؤولة بهدف جعل تلك الخدمة أفضل وسيلة لنشرالأيمان المستقيم وبناء حياة مسيحية نقية شَفّافة وقوية تُعطي شهادة حَيَّة فعَّالة في المجتمع المدني. فالعبادة الدينية الجماعية هي عملُ الكنيسة لا عملُ الأفراد. لكل فردٍ خصوصيته في علاقته مع الله، تنصحُ الكنيسة فيه وتقَّدمُ عونًا للبسطاء والضعيفي الثقافة الأيمانية. الفرد نفسُه يُحَّددُ أوقات عبادته وأسلوبها الذي يتماشى وحالته وحاجته ويبني حياته. ولا تتفقُ دومًا نفسيات جميع المؤمنين و إمكانياتهم ومواهبهم وآستعدادهم ولاسيما حاجتهم. حالهم مثل حال أعضاء الجسم.
مع ذلك لا يجوز أن تعزلَ تلك الفوارق المؤمنين عن بعضهم. إنَّهم يُشَّكلون جسم المسيح السِرّي الواحد. لهم مع المسيح حياة روحية مشتركة. ولأنمائها وتغذية تلك الوحدة نظَّمت الكنيسة منذ البداية عبادة مشتركة لأبنائها تجمعهم حول التثقيف من الأيمان وتغذية الحياة الروحية بسرالقربان المُقَّدَس وعيش المحبة والإخاء من خلال التمرين على مقاسمة الخيرات والتعويد على الصلاة (أع2: 41-42). ويبرز دور المؤمنين الشخصي في فقرتي التثقيف و الصلاة، حيث لمشاركتهم قيمة لا تُستهان. ولكي لا تسودَها فوضى ولا تبقى بادرة شخصية من المؤمن بل تُصبحَ جُزءًا من عبادة الكنيسة كلها فتُثمر، نظَّم الرسل، من البداية كما رأينا، أن تختَّصُ السلطة الكنسية العامة بالأشراف على تنسيق الخدمة الجماعية وأدائها. وتُصبحُ بذلك صلاة الشعب المسيحي برُمَّتِه تُؤَّدى في أصقاع المعمورة كلِّها بفكر واحد وقلبٍ واحد ونمطٍ واحد. وكل خدمة مُقامة جماعيًا في الكنيسة وبآسمها تخضعُ لنظامٍ تُثَّبتُه السُلطة الكنسية الخاصّة وتُحَّددُ أبعادَه، ومطلوبٌ من المشتركين فيها أن يتبعوا التعليمات والأرشادات التي تساعدُهم على جنيِ ثمار تلك الخدمة.
تسهرُ الكنيسة ألا يتخَللَ العبادة الجماعية ما لا ينفع، لا يبني ولا يتماشى مع الأيمان المستقيم. هكذا منع بولس المُتكلمين بلغات أن يتكلموا إثناء العبادة إذا لم يكن منهم من يُترجم ليفهم غيرهم ويستفيدوا. فمن شروط الخدمة الجماعية، كما تعَّلمُ الكنيسة، أن تؤَّدى بلغة مفهومة من أغلبية الحاضرين تُعينهم على المشاركة في العبادة. ليست الرتب الدينية فرصةً لتعلم اللغة ، ولا لتمجيد قوميةٍ معَّينة، ولا حتى حصرًا على أُمَّةٍ واحدة، بل هي فرصة عيش الأيمان و الإخاء والمحبة مع المسيح وذلك لجميع الناس. وحيثُ يجتمع مؤمنون من لغات متعَدّدة يطلب الإخاء أن تُستعملَ أكثر من لغة واحدة لتسهيل العبادة إلى أن تجمعهم بعده لغة واحدة. هكذا فعل الروح القدس يوم العنصرة حيث لم يُلزم الحاضرين بتعلم لغة الرسل بل أعطاهم أن يفهموا لغتهم، كما أعطى الرسل أن يتكلموا بلغات الحاضرين ليُعَّلم الكنيسة كيف تتعامل مع أبنائها من خلفيات مختلفة لغويًا، حضاريًا وآجتماعيًا. أي أن تجمَع ولا تُفَّرقْ.