تتلى علينا اليوم القراءات : اش1: 2-6 ، 16-17 ؛ 1كور9: 16-23 ؛ لو6: 12-23
الرسالة : 1 كورنثية 9 : 12 ـ 23
يُتابعُ بولس ردَّه على أسئلةِ أهل كورنثية. و يبدو من سياق الحديث أنهم وإن كانوا قد آمنوا بالمسيح إلا أنَّهم ما زالوا متَعَّلقين ببعض التقاليد الوثنية أو أقله يحُّنون الى متابعتها وحتى المشاركة فيها لأنها مُشَّوقة ومُرَّفِهة، لكنها توخزالضميرفي أداءِ بعض تفاصيلها، لأنها تحمل طابعًا وثنيًا صرفًا لا يخلو من بعض الخطورة في حمل مباديء وثنية تعارضُ الأيمان المسيحي. منها المشاركة في آحتفالاتٍ شعبية ومقاسمة أطعمة الذبائح المُقَّرَبة للآلهة الوثنية. لكن الأهم منها يتعَلَّق بخدمة البشارة والعيش منها كما كان سائدًا في البيئة الوثنية. بل حتى في اليهودية كان خَدَمَةُ الهيكل ينالون حصَّتهم من الذبائح.
الويلُ لي إن لم أُبَّشر !
يبدو بولس وكأنه يناقش فكرة ” البشارة وظيفة ” ويرفضُها. وفي نفسِ الوقت يُدافعُ عن فكرة أنَّ التبشيرَ هو فعلاً مجالُ معيشة المُبَّشرين. فيُؤَّكدُ على أنَّ من يتفَرَّغُ لعملٍ أو لخدمةٍ في أيِّ مجال كان يعيشُ منه. لأنَّ الحياة أخذٌ وعطاء. وإلاّ كيفَ يُدَّبرُ أمرَه؟.
عن البشارة قال بأنها ليست، بالنسبة إليه، لا مفخرةً ولا موردَ رزقٍ. لم يطلُبْها ليعيش منها، ولا إختارها طوعًا حتى يتباهى بها ويفتخر. إِنَّها ” فريضةٌ لابُدَّ له منها “. لقد خَصَّصه الله بها فدعاه إليها. وهذا من ضمن سياقِ متطلبات وجود الكون فلا يمكن أن يرفُضَها ولا أن يتمَلَّصَ منها. حاول يونان النبي أن يتمَلَّص من مهمة إنذار نينوى بالدمار التي كلَّفه الله بها ، وكانت تلك خطَّة الله لجَّر النينويين الى التوبة عن فسادهم وشرورهم، ولم ترُقْ ليونان فحاولَ رفض إرادة الله في خير أعدائِه. لم ينفعْهُ الهروبُ من الله حتى ولا بتفضيل الموت غرقًا على الأنصياع لله. لأنَّ كلمة الله لا تفشل وأمرُه لا يرجعُ إليه فارغًا، بل” تعملُ ما شئتُ أن تعمَلَه وتنجحُ فيما أرسَلتُها له ” (اش55: 11). ولما ندم يونان وتاب الى الله وآسترحمَه واعدًا تنفيذ المطلوب رحمه الله. فتعلمَ أنَّ تكليفَ الله فخرٌ، حَقٌّ من الله و واجبٌ على الأنسان. إنَّ بولسَ واعٍ كلَّ الوعي أنَّ مُهِمَّتَه ليست وظيفة إختارها بإرادته لتدُرَّعليه أٌجرة ، بل هي من الله” وصّيةٌ عٌهِدَتْ إليه “. وهذا شرِفٌ له لأنَّه يُؤَّدي عمل الله ويشتركُ في حياتِه فلا ينتظرُ مقابلها مُكافأةً. بل إذا لم يُؤَّدِ تلك الخدمة فـ” الويلُ له “!. فالتبشيرُ مجّانًا أشرف له وأحَّق !.
العاملُ يستحِقُّ طعامَه ! متى 10:10
لكن بولس لمْ ينسَ أنَّ الله الذي يُكَّلفُ البعضَ بخدمةٍ خاصَّة تعودُ الى تدبيره الخلاصي لن يظلِمَهم بل يُدَّبرُ أمرَ معيشتِهم. خَصَّصَ الله، في العهد القديم، للكهنة واللاويين خَدَمَةِ الهيكل العُشرَ الذي يدفعه الشعب مع جزء من تقادم القرابين (أح18: 8 و 21). ونظَّمَ يسوع خدمة البشارة في العهد الجديد بأن يعيش منها الرسل. فلمَّا أرسلَ التلاميذ يُبَّشرون المدن والقرى نهاهم عن تدبير مصدر قوتٍ لهم وقال :” العاملُ يستحقُ طعامَه “. وسيوصي بولس تلميذه أسقف أفسس بأن يُدفع للكهنة الغيورين والنشطين” إكرامًا مُضاعَفًا ” (1طيم5: 17-18). و هنا قال للكورنثيين أنَّ خدمة المذبح، مثل خدمة الهيكل، يأخذون نصيبَهم من المذبح (آية13). وسبق فبَرَّر هذا التعليم بقوله :” إنْ كُنَّا قد زرعنا فيكم الخيراتِ الروحية، فهل يبدو غريبًا أن نحصُدَ من خيراتِكم المادية “؟ (1كور9: 11).
هنا تتحَقَّقُ العدالة الأجتماعية والأيمانية. كلُّ فئةٍ من الناس تتخَصَّصُ بخدمةٍ محدودة تؤَّديها لمنفعةِ كلِّ الناس. و بالمقابل تستفيدُ من خدمات غيرها. وقد قسَّم الله القدرات الأنسانية و الخدمات و وهب لكل واحد منها نصيبَه ليَخدُمَ غيره ويقبلَ الخدمات الأخرى من غيرِه. هذا ما يفعله الله لمنفعة الأنسانية (1كور12: 5-11). فكلَّ إنسانٍ فرد يخدُم كلَّ البشرية. وهكذا تسودُ المحَّبةُ وينتشرُ السلامُ. فكما أنَّ السُلطة في المسيحية خِدمةٌ هكذا الخدمةُ واجبٌ لا أُجرةَ لها ولا منِّية في أدائِها.
جعلتُ نفسي عبدًا للكل !
لم يستسلم بولس للأمر الواقع رغمًا عنه ولا أُجبرَ قسرًا على ذلك. بل إفتهم أنَّ الله الخالقَ يريدُ الخير والراحة لجميع الناس. وهذان الخير والراحة يتحَقَّقان فقط عندما يُدركُ الناس أنهم مُلزمون بتسهيل راحةِ الآخرين ومدعوون إلى الأعتراف بحاجتهم إليهم وأنهم لا يمكن أن يعيشوا في الغربة عن البعض وكم بالأحرى في إقصاء الآخرين أو عِدائِهم. طريق التفاهم و الأتفاق هو” خدمة الآخرين”، فأعلن عبارته ” جعلت نفسي عبدًا للكل”، لا ليقبل منهم الذُّلَ والأهانة بل ليقودَهم في درب الحياة. أ ليس هكذا قال يسوع وفعل؟. أما أعلن أنه لم يأتِ لتخدِمَه الناس بل ليَخدُمَهم هو؟. أ لم يَغسل مثل عبد أقدام تلاميذه؟. بل لقد تجَسَّد بهذا الهدف وصَرَّح أنه جاءَ ليُخَّلِصَ ما كان هالكًا (لو19: 10). وكان كلُّ الناس هالكين بدنس الخطيئة. فلم يَختَرْ بعضًا ويَقصي غيرَهم. جعلَ نفسَه لعنةً ليُنقذ كلَّ الملعونين.
أدرك بولس هذا بعدَ أن عرفَ يسوع وآكتشفَ عمقَ تعليمه. ولما عرفَ أن يسوع يريد أن يتمَجَّد بولس معه ودعاه أن يخدم مثله قدَّم نفسَه طوعًا لتلك الخدمة لمتابعة خدمة يسوع وتوسيعها. وقال ” صرتُ لجميع الناس كلَّ شيء، لأهديَ بعضَهم مهما يكن الأمر” (آية23). لم يقُل أنَّه أدَّى واجبه بدقة يستحق عليها المدح والتقدير. لا. بل قال أنه يتسابقُ في ميدان الخدمة. ذلك بهدفٍ وبآتخاذ السبل الصحيحة والكفيلة بالنجاح ألا وهي ” نكران ذاته ” كما طلب الرب ( متى 16: 24-25)، حتى يقدر أن يهتم بغيره. لقد حرمَ ذاته كثيرًا من الراحة والملَّذات وحتى الحاجات ، كما يفعل المتسابقون، فقال :” أقمعُ جسدي وأُذيقُه العبودية مخافةَ أن أكون مرفوضًا بعد ما وعظتُ غيري” (1كور9: 24-27؛ رم2: 21). قرن القولَ بالفعل.
وما يتمناه أجرةً لخدمته هو ألا يُحرَم من ثمار البشارة، قال أنَّ كل إنسان يتمنى أن يحصد ثمار ما زرعه. ما زرعه بولس في الآخرين هو الرجاء بالحياة الأبدية في المجد والراحة و سبيل الوصول إليها. وسار بنفسِه في نفس الطريق الذي دَلَّ المؤمنين عليه. كما كان يسوع قدوة في الخدمة (يو13: 15) لبولس ولكل التلاميذ، جعل بولس من نفسِه قدوةً لمن آمنوا على يده. وطلب منهم أن يكونوا بدورهم قدوة لغير المؤمنين لتصل أشعة نور الحياة إلى كلِّ إنسان مات المسيح من أجله.