تتلى علينا اليوم القراءات : اش28: 14-22 ؛ 2كور12: 14-20 ؛ لو16: 19-31
الرسالة : 2 كورنثية 12 : 14 – 20
يتأَّهبُ بولس لزيارة ثالثة إلى كورنثية ليُصَّفيَ الحسابَ بينه وبين المعارضين المتطاولين عليه، فيُيعيد المياه، إن أمكن، الى مجراها الطبيعي. وبما أنَّ البعضَ إتهمَه بالطمع بأموالهم فهو يؤكدُ لهم أنَّه لا يبغي منهم منفعة مادّية بل يبحثُ عنهم ليقتنيَهم للمسيح وبالتالي لينعموا براحةِ الله ومجده،” لا أطلب ما لكم، بل إِيّاكم أطلب”. لا يريدُ أن يُثَّقلَ عليهم في المصروف، بل هو مستَعِّدٌ أن يسخى بالصرف على نفسه بل حتى عليهم، وأن” يجودَ حتى بنفسِه فِدًى لنفوسِهم”. إنَّه يضعَ نفسَه تجاههم في مكانة الأب من أولاده، ويُحِّبُهم كذلك لأنه هو” ولدهم في المسيح” (1كور4: 14-15). ويتوَّقع منهم أن يُبادلوه، أقَلَّ ما يكون، الحُّبَ بالحب. ولكن ربما إتهمه مُحاربوه بأنه، وإن لم يطلب منهم بنفسِه مالاً، لكنه خدعهم إذ حلبَهم عن طر يق موفَديه إليهم. ينفي بولس التهمة، والدليل أنَّه مستعد لمواجهةٍ قضائية معهم وبشهادة شهود (2كور13: 1-4)، وعندئذٍ لن يسكتَ على تطاولهم وسوئهم بل يأخذ بحَّقهم أقسى الإجراءات عملا بسلطانه الرسولي (2كور13: 10).
تظنّون أنَّا ندافعُ عن أنفسِنا !
تمادى المُتمَّردون في غَيِّهم وإثمهم من” دعارةٍ وزنًى وفجور”، ولم يتوبوا، بعدُ، وهذا يُشَّكلُ للرسول من جهة غَمًّا وقلقًا وآنكسارًا إذ يرى ثمار تعبه تتبَّخر فجأةً لأنَّ بعضًا ممن آمن بالمسيح عادوا الى سلوك سيرة الوثنيين. وهذا أمرٌ مُحزن ومُحبِط ؛ وللكتاب تحذيرٌ عميق عنه، ويُشَّبِهُه بالبليد :” يعودُ البليدُ الى حماقتِه، كما يعودُ الكلبُ إلى قيئِه” (أم 26: 11). ومار بطرس يصفُ أمثالهم بعبيدٍ ويتحدثُ عنهم بمرارة :” بعدما إبتعدوا عن أدناس الدنيا .. عادوا إليها يقلَّبون فيها .. فصارت حالتهم الثانية أسوأَ من الأولى. وكان خيرًا لهم ألا يعرفوا مذهبَ البر من أن يعرفوهُ ثم يعرضوا عن الوصّية المقدّسة التي سُلِّمتْ إليهم. لقد صدقَ فيهم المثلُ القائل :” عادَ الكلبُ إلى قيئِه يلحَسُه:. وما إغتسلت الخنزيرة حتى تمَّرغت في الطين” (2بط2 : 20-22) ؛
ومن جهةٍ أخرى يخلقُ بين مؤمني كورنثية أنفسِهم ” خلافًا وحسَدًا وغيظًا وشجارًا ونميمةً و هَذرًا و وقاحةً وبلبلة “. بينما يريد لهم بولس أن ” يكونوا على رأيٍ واحد وأن يعيشوا بمحَبةٍ وسلام ” (2كور13: 11). يرى بولس أنَّهم لم يتمَرَّسوا كفايةً في الروحانيات ولم يهضموا بعدُ جيِّدًا مباديءَ المسيح الأخلاقية. بل ما يزالون في رؤيتهم وحكمهم” أطفالاً في المسيح” ( 1كور3: 1)، يعتبرون موقف بولس الشديد اللهجة وأحكامه القطعية ، الغير قابلة للنقاش، أنها دفاعٌ فقط عن نفسِه وكرامتِه، ” المهزوزة في نظرهم”، “شخصُه هزيل وكلامه سخيف” (2 كور10: 10). في حين يجاهدُ بولس ألا يساومَ على تعاليم المسيح ولا على الحَّق الألهي ، كما لا يرى في أُفق تبشيرِه غير” بناء ” حياتهم الروحية على صخرة الأيمان وعلى قُدرةِ الله، وليس على المنطق البشري المُزدهر في بلاد اليونان (1كور2: 5).
أخافُ ألا أجدكم على ما أُحّب !
لـقد وقف بولس ومعاونوه أنفسَهم “على خدمة البر لمجد الله” (2كور8: 19). بينما دأبَ أهلُ كورنثية على الخلاف منذ بداية هدايتهم وسلكوا درب التحَّزب والأنقسام (1كور1: 11). أمَّـا بولس فلم يشأ ” أن يعرفَ شيئًا غير يسوع المسيح المصلوب ” (1كور2: 2). لذا يكتبُ هذه الرسالة ليُهَّيئَ لزيارته فتعطي الثمار المرجُوَّة. لا يريد بولس إستعمال العنف والشّدة. فهو لا يحقد على أحد حتى ولا على الذين أهانوه. لا يريد أن يُحزنهم ويُكّدِّرَ صفوَ حياتِهم. لكنه لا يضعف أيضًا أمام تعَّسفِ بعضهم وشرِّهم. إنه مُصَّممٌ على الثبات في الحق الألهي وحازمٌ في إبلاغهم أنَّ راحتهم ليست في الشهوات المادية بل بسلوك درب المسيح الروحي، وقد قبلوه منذ عمادهم. يريدُ أن يفهموا المسيح ويتجاوبوا معه كأناسٍ بالغين. يريد أن يعرفوا الله على حقيقة فكره ورغبته لا حسب مزاجهم وشهواتهم. إنَّه مُصِّرٌ على توبة الخاطئين وعلى تغيير سيرتهم وإزالة بلبلة الأفكار المضادة لتعليم المسيح. لا جدال في الحق والبر، لأنه ” لا سبيل لنا الى مخالفة الحق، بل سبيلنا أن نؤَّيدَه” (2كور13: 8). سيدعوهم بولس الى محاسبة أنفسِهم وإلى إختبار ذواتهم في إيمانهم وأخلاقِهم. ويُذَّكرُهم أنَّ المسيح يحيا فيهم وينهى عن الشَّر. بولس لن يُغَّير إيمانه، وبَدَّل سيرته جذريًا بعدما عرف المسيح. يحدقُ الخطر بهم ألا ينقلبوا على خبرتهم مع المسيح ويتراجعوا عنه فيخسروا حياتهم. فيتمنى لهم بولس أن يستمِّروا فيتقدموا في معرفة الله ومحبته حتى يبلغوا كمال السيرة التي دعاهم إليها يسوع المسيح (متى5: 48).