تتلى علينا اليوم القراءات : أش1: 21-31 ؛ 1كور14: 1-5، 19 ؛ لو12: 16-34
الرسالة : 1 كورنثية : 14 : 1 – 5 ، 19
لقد مَيَّز اللهُ الأنسان عن جميع بقية الكائنات فأعطاه قوَّة يدير بها حياتَه ذاتيًا. أعطاه عقلاً به يلاحظ ويتعلم كيف تجري أمور الحياة، ويُمَّيز بين الصحيح الجَيِّدِ منها والخاطيء السَّييء. و أعطاه حرّية بها يختارُ فيعمل ما يشاء ويُقَّررُ مصيره الزمني والأبدي. وزَوَّدَه بقدراتٍ روحية كثيرة تساعدُه على تلبية حاجات حياته الأجتماعية الزمنية والروحية. دعا مار بولس هذه القدرات بـ ” المواهب الروحية “، وهي عون إلهي إضافي تُسَّهلُ خدمةَ الأنسان وتنَّظم عمل الله على يد الأنسان لبناء الحياة بشكل كاملٍ تتجاوبُ مع إرادة الله وتضمنُ راحة الأنسان . ومن جملة تلك المواهب ركَّز بولس اليوم حديثَه، بالأضافة الى المحبة التي هي جوهرية و عامة لكل المؤمنين، على موهبة النُبُّوة والتكَلُّم بلغاتٍ، غير لغة الأم، بقوة الروح القدس ، و بشكلٍ عجائبي وإعجازي.
التَـكَّلُم بلغات !
روى لوقا في أعمال الرسل (2: 4-12) خبر التكلم باللغات، لأول مرة، يوم حلَّ الروح القدس على التلاميذ. وجاءَ بشكلين: الرسل يتحَدثون الى الجمهور بلغاتٍ، “غير لغتهم”، التي لم يتعلموها أبدًا ولا مارسوها قبلا، وبدون إختيارِهم. وعزى الكاتب الأمر الى الله قائلا : ” على ما منحهم الروح القدس أن ينطقوا” (أع2: 4). ومن الجهة الثانية كان المستمعون إليهم يفهمونهم ، حتى عندما تكلم الرسل بلغتهم الأصلية، مع العلم كان المستمعون إليهم ينتمون الى سبع عشرة أُمَّةٍ، لكُّلِ واحدةٍ لغتها الخاصّة. فأستولت الدهشة على الطرفين. لقد سمعوا بآنقسام اللغة في بابل لعدم فهم وتفاهم الحضور بين بعضِهم. أمَّا عمَّا جرى في علية صهيون فكان يفوقه غرابةً وأصالة. كان معجزة من نوع جديد.
أما في أيام بولس فكان التكلم باللغات، و بولس أحد الموهوبين بها (آية 18)، قد أصبحَ لتمجيد الله أكثر مِمَّا لإبلاغ البشارة. وكان الموهوب يتحَدَّث إلى الله بلغة لا يفهمها السامعون، كما لم يفهم رفاقُه عندما دار الحديث بين يسوع وبولس وكانوا ” واقفين متَحَّيرين يسمعون الصوت ولا يرون أحدًا” (أع9: 4-7). كان الموهوبُ ” يقولُ بالروح أشياءَ خفية ” لا يفهمُها السامع ولا يستفيدُ منها شيئًا. وسوف يطلب بولس أن يقُّلَ، عند الأجتماعات الثقافية والطقسية العامة ، عددُ المُتكلمين بلغات ليقتصرعلى إثنين أو ثلاثة وبشرط أن ” يكون فيكم من يُتّرجِمْ، وإلاّ فآصمتوا في الكنيسة وحَدِّثوا أنفُسَكم وكَّلِموا الله “(1كور14: 27-28).
أُطلبوا موهبة النُبُّوة !
حرَّضَ بولس المؤمنين على التشَّوُق إلى وطلب المواهب الروحية لينالوا منها نصيبَهم لبُنيانِ الكنيسة”. لكنَّه فَضَّلَ موهبةَ النُـبُّـوءة على غيرها، ” أرغبُ أن تتكلموا كلكم بلغات، وأكثر رغبتي في أن تُنْبِئُوا. لأنَّ المُنبيَ أفضَلُ من المتكلم بلغات “. إنه يُكَّلمُ الناس بما يوحيه اليه الروح من أجل بناء حياة الجماعة الروحية. إنَّه يبدو مثل صوفِيٍّ يقرأُ علامات الأزمنة و يُمَّيزُ مشيئة الله وسط زحمة الأفكار والمباديء الدنيوية. وهذا أيضًا يتم بقوة الروح القدس الذي، كما قال الرب،” يُعَّلمُ كلَّ شيء، ويُذَّكرُ بتعليم المسيح، يشهدُ له، ويُرشدُ الى الحَّقَ كله ” (لو14: 26؛ 15: 26؛ 16: 13). والمُنبِيُ الذي فيه ” روح الله ” يتكلَّم بما ” يبني ويَعِظُ و يُعَّزي”، لأنَّهُ ” وحيٌ ” من الروح لبنيان الكنيسة. كما سبقَ اللهُ فأوحى، في الحلم، الى يوسف الصديق تفسير حلم فرعون (تك41: 14-36)؛ والى دانيال تفسير حلم نبوخذنصر(دا4: 15-24). وذكر أعمالُ الرسل كيف كان الروح يقود بولس في رحلاته (أع16: 9-11؛ 20: 22-25؛ 21: 4، 8-14)، هكذا يستمِرُّ الروح القدس يرافقُ مسيرة الكنيسة حتى يُرشدَها، عبرَ الأجيال، إلى الحَّقِ كُلِّه. يوحي الروحُ الى مؤمنين موهوبين فكريًا أو روحيًا ليروا أمور الحياة والأيمان بمنظار الله ويَدُّلوا الكنيسة إلى درب مشيئة الله. ولم تقتصر موهبة النبوءة على الذكور بل سجَّل الكتابُ إناثًا عذارى مُنبئات أيضا (أع 21: 8).
بين اللغة والنبوءة !
قال بولس :” إذا صَلَّيتُ بلُغَةٍ فروحي يُصَّلي ولا يستفيدُ عقلي شيئًا ” (آية14). ليس الأنسان روحًا محضًا فقط. بل روحٌ وجسد. وبواسطة حواسِه يتثقَّفُ الأنسان وبواسطتها يعرفُ الله ويُحِّبُه و يتفاعلُ مع مشيئته. يريدُ الله أن يستعمل الأنسان كلَّ كيانِه، روحه وحواسَّه :” وأنا أُصَّلي بروحي وأُصَّلي بعقلي أيضًا. أُسَّبحُ بالروح وأُسَّبحُ بالعقلِ أيضًا” (آية15). هكذا يتعلم ويسلُكُ مثل الله، فـيُمَّيز ويختار ليكون صورة حقيقية له. فيجب أن يتغَذَّى فكرُه مثل روحه ليعيش بكرامة أبناء الله. وكما بيَّنَّ بولس، لا يرمي التكلمُ باللغات الى تحقيق ذلك، بعكس النبوءة. لأنَّ ” اللغات هي للكافرين،{ ليندهشوا وينبهروا بمفاعيل الأيمان الجديد}، أمَّا النبوءة فهي للمؤمنين، { ليتعلموا ما هي مشيئة الله وكيف يسلكون بروح الأيمان الجديد}” (1كور14 : 22-25). لذا فموهبة النبوءة أسمى وأنفع للكنيسة.
قال بولس أنَّ المواهب هي لبنيان الكنيسة بإنارة درب الخلاص للخارجين عنها وجذبهم إلى المسيح، وبإرشاد المؤمنين ومساندة مسيرتهم الروحية التي يحيونها بوعي ورغبة وآجتهاد. و بما أنَّ التكلم باللغات يقوم على أساس تسبيح الله وليس بنيان إيمان الجماعة بل بنيان المؤمن الفرد فقط، لذا فضَّلَ بولس موهبة النبوءة قائلا: ” أوَّدُ أن أقولَ، وأنا في الكنيسة، أي في الصلاةِ والوعظ والترتيل، خمسَ كلماتٍ بعقلي أُعَّلمُ بها الآخرين، على أن أقولَ عشرة آلاف كلمة بلغة ” (آية 18)، مع أنها تقالُ أيضًا بقوة الروح القدس ولكنها لا تثَّقفُ الجماعة لا عقليًا ولا روحيًا. ولا فقط طبَّقَ بنفسِه هذا المبدأ بل طلبَ من المؤمنين أيضًا أن يقتدوا به بآستعمال منطق العقل في الخدمة الروحية، فقال :” أيُّها الإخوة لا تكونوا أطفالا .. بل كونوا راشدين في الرأي … ليعرفَ الناسُ أنَّ الله حقًّا حاضرٌ بينكم ” (1كور14: 20-25).
هكذا ترمي تعاليم الكنيسة وطقوسِها وتوجيهاتِها إلى بناء الحياة الألهية في الأنسان المؤمن بالمسيح أو حتى المُلحِد، ولذا تستعملُ كلَّ إطارٍ ينفعُ ويخدُمُ الهدف أكثر من غيره. لا تعيقها خصوصية اللغات أو التراث أو الثقافة أو الحضارة. بل تستثمرُ كلَّها لإيصال كلمة الله و إنعاش روح المسيح في أبنائها. وتفعلُ ذلك عقليًا و روحيًا.