تتلى علينا اليوم القراءات : بن نون4: 15-27 ؛ رم6: 1-23 ؛ متى7: 15-27
الرسالة : رومية 6 : 1 ـ 23
نحن في زمن الصوم. وفيه نتدَّربُ على إماتة الشهوات الجسدية ونحاول أن نحيا أكثر قرب المسيح لنتأهَّلَ معه أن نقومَ للراحةِ والمجد. وبعبارةٍ أخرى نتَّحدَ أكثر بالمسيح فكرًا وفعلاً. وهوذا بولس يُقَّدمُ لأهل روما عِلَّةً قوية ومُبَّرِرًا لذلك ألا هو حدث المعمودية. فيها يغطسُ المرءُ في الماء مثل المسيح، حيثُ يغرقُ فيموت، لا عن الحياة بل عن الشَّر الذي فيه. دخل يسوع الماء تائبًا، لا عن خطاياه هو القُدُّوس البار، بل بصفته إبنَ الأنسانية الخاطئة ليُغرقَ الخطيئة التي أماتت الأنسان بإبعادِه عن الله وعن خيراتِه. هناك أماتَ الأنسانية الخاطئة ثم أخرجها منها حَيَّةً تصبو نحو حياةٍ جديدة معه وفيه. فكلُّ مُعَّمَدٍ خاضَ، يوم آعتمد، عملية التنقية والتقديس فأَمات الخطيئة في جسده لينمو في النعمة والبر بقوة الروح القدس.
لا تدعوا الخطيئة تسودُ أجسادَكم !
لم تكن المعمودية موضوع الرسالة. بل كان تعليمُ بولس يدور حول الخطيئةِ والنعمة. سبق وأكَّد بولس لقارئيه أنَّ الخطيئة ليست نهاية المطاف. ولن يسمح الله للشَّر أن يقضيَ على الأنسان. فقال: ” حيث كثرت الخطيئة تفاضلت النعمة ” (رم5: 21). وذكَّرَ بالمعمودية ليُؤَّكدَ لقارئيه أنَّ الله قد غسلَ البشرية من الخطيئة التي قادته إليها الحواس فتَمَّت في الجسد. ونعمة الغفران التي نالته البشرية فاقَت خطيئته بأضعافٍ مُضاعفة. من صورة لله أصبح الأنسان بالعماد ” إبنَ الله، و وريثَ مجدِه وخيراتِه الأبدية ” (غل4: 7؛ رم8: 16-17). و لعَّلَه جال في فكر أحد : ما دام اللهُ سخِّيًا بهذا القدر فلماذا نُتعبُ أنفسَنا ونؤلِمُها بالصوم و الصلاة والصدقات، ونشقى في الجهاد ضِدَّ الشر؟. لنأكل ونشرب ونتنَّعم فننالَ من الله نعمًا كثيرة. يعترضُ بولس بشِّدة قائلاً :” أَ نخطَأُ لأننا في حكم النعمة ” (آية 15)؟.
من يحيا في النعمة هو عبدٌ لها وقد مات عن الخطيئة. والنعمة أننا أبناء الله، أي نحن مُلْكُ الله ونحيا له مع المسيح الذي أرضى الله ولم يخرج عن طاعتِه. ومن يخطأ يخرج عن طاعة الله ويُغيضُه. فرحمة الله وسخاؤُه لا يعني أن نعيشَ بعدُ للجسد وشهواتِه. لا نسمحْ للجسد أن يستَغِّلَ رجاءَنا فيُغويَنا ويجعلَنا نخسرُ من جديد حُريَّتَنا ونعود عبيدًا للجسد ولمن يدفعنا الى شهواتِه (تك3: 5-6). ما دُمنا أبناءَ الله علينا أن نسلكَ سلوكَه. وسلوكُه هو الحَّق والبر أي المحَّبة. كانت حياة يسوع كلُّها شهادة للحَّق وإِيَّاهُ علَّمَ :” الحق الحق أقول لكم ..”. جاء الى العالم ليشهدَ للحق (يو18: 37)، وليُعَّلمَ المحَّبة :” وصيَّة جديدة أُعطيكم. أحبوا بعضكم بعضًا. كما أنا أحببتكم” (يو13: 34). ومع يسوع وعلى مثاله أحبَبْنا اللهَ أبانا وأمَتْنا أجسادَنا عن الخطيئة. لذا علينا ” حَّقٌ و واجب، لا للجسد حتى نحيا حياة الجسد”، بل للروح الألهي، لأننا ” إذا حيينا حياة الجسد نموت ” (رم8: 12-13).
إجعلوا أعضاءَكم سِلاحًا للخير !
أعطى اللهُ، عند خلقِه الكون وما فيه، الحياة وزَوَّد كائناته الحَّية بالخيرات لحفظ حياتها مع أنواع المواهب المختلفة لتسهيل تكامل الخدمات. شَغَّلَ اللهُ وجودَه وغناه لمنفعة الأنسان و راحتِه، وضمان بقائه في الفردوس لمجده وهنائِه. وخلقَ له حوَّاس الجسد ليتمكَّن من تدبير شؤونِه الزمنية في المعرفة وتمديد الحياة وآستجابة مطاليب نفسِه الخالدة. أَساءَ الأنسانُ في البدء إستعمالَ قواه العقلية والحٍّسية وأخطأَ هدفَه، الذي أُغْوِيَ وغُشَّ به من قبل عدُّوه. تسَّلطَ عليه وعَّودَه على آتّباع شهواتِه الحسيَّة، وخسر بذلك إمتيازه بصداقة الله ومشاركة خيراتِه. ثمَّ جاء المسيحُ المُخَّلصُ. وفي رسالة اليوم دعا بولس تلاميذَ المسيح كما يُذَّكرُ قرَّاءَه في كلِّ زمان ومكان أنَّهم ليسوا بعد عبيدًا للشر. لقد حَرَّرَهم يسوع وجعلهم أبناء الله، في مستوًى أرفعَ من الخِلقةِ الأولى. وأنَّهم قادرون على التغَّلب على الشَّر فلا يليقُ بهم أن يسلكوا درب الخطيئة، درب أعمال الشهوات الحِسِّية، فنهاهم عنها، بل أن يستعملوا كلَّ طاقاتهم الفكرية وإمكاناتهم الحسيَّة لأجل متابعة عمل الله بحفظ الحياة في حالة القداسة والبر التي خلَقهم عليها. لا يليقُ بمن فداه إبنُ الله بذبيحةِ حياتِه أن يُشَّوهَ، بعد ما حصلَ عليها، تلك الحياة وأنَّ يَرُّدَها له في النهاية نجسة، يرذُلها الله.
ربمَّا كان للأنسان الأول عُذرٌ في سقوطِه لأنه لم يكن قد إختبر الحياة ولاعرفَ بدجل الحَّية االقديمة وكذبها. أمَّا الآن فلا عذرَ له بعد خبرة ملايين السنين ولاسيما بعدَ أن عرفَ الحقيقةَ ونال من الله سِلاحًا لا يقوى ابليس على مجابهتَه. إِنَّ صليب المسيح وغفرانه وحُبَّه العارم سيفٌ على رقبة الشّرير ورمحٌ في نحرِه. وقد ذكر يسوع أن لا عذرَ بعدُ لمن سمعه وتتلمذ وعاد فأخطأَ (يو15: 22). وعليه ذكَّر الرسول أهل روما، إذا أخطأوا لن يكونوا أفضل من الذين سبقوهم فهلكوا، قائلا: ” لقد بات الناس بلا عذر, لقد عرفوا الله لكنَّهم لم يُمَجَّدوهٍ ولا شكروه كإِلَه، بل زاغت عقولهم وملأ الظلامُ قلوبَهم الغبيَّة ” (رم1: 20-21). وكذلك قال عمَّن يدينون غيرهم ولا يُحاسبون أنفسَهم المنافقة: ” لا عُذرَلكَ أيًّا كنتَ، يا من تدينُ آخرين وتعملُ أعمالهم، لأنك حين تدينُهم تدينُ نفسَك ” (رم2: 1). وصَّى الرسول :” إستعمِلْ أعضاءَك وقواك، الروحية والجسدية، سِلاحًا لعمل الخير”. وهو لا يعني ما قاله مثلٌ عاميٌّ قديم ” إبتعِد عن الشَّر وغَّنِ لُهْ “. سلاح المسيح الذي بيد تلاميذه ليس للدفاع فقط عن الذات ولا هو سحرٌ يُبعِدُ العدو. بل هو سلاحٌ به نحاربُ الشر كما قال الرسول: ” تسَّلحوا بسلاح الله الكامل لتقدروا أن تقاوموا مكايدَ ابليس. فنحن نحاربُ أعداء لا من لحم ودم بل أصحابَ الرئاسة والسلطان والسيادة على هذا العالم وعلى الظلام، و الأرواح الشّريرة..” ويذكرُ ما هو سلاحُ الله :” تمنطقوا بالحَّق لابسين درعَ الأستقامة، و آنتعِلوا بالغيرة في إعلان بشارةِ السلام، وآحملوا الأيمان ترسًا في كلِّ وقت،..وآلبسوا خوذة الخلاص، وتقَّلدوا سيفَ الروح الذي هو كلامُ الله، وصَّلوا كلَّ حين” (أف6: 11-18). وما كتبه مار بولس قبل ألفي عام بإلهام الروح القدس يبقى مفعولُه قائِمًا الى نهاية الدهر. لأنَّ المُعَّمدَ تلميذُ المسيح وإبنُ الله فلا يليقُ به أن يتصَّرف كأبناء الدنيا أو يعيشُ في الخطيئة بوعيِه ، بل يجب أن يُحاربَها ويُميتَها في جسدِه، لأنَّه مجبول بقداسةِ الحَّق والبر، ويُعيدَ روحَه الى باريها طاهرةً نقية.