عـيد القيامة المجـيدة
إِختلفَ المسيحيون الأوائل في تثبيت تأريخ تعييد القيامة. منهم من أراد الأحتفال به مع فصح اليهود، لاسيما المتنّصرون من يهود فلسطين، لكن بقية المناطق رفضوا ذلك منذ البداية بسبب عدم ثبوت وقوعه يوم الأحد. إشترطت القيادة العليا للكنيسة أن يكون العيد في الربيع ويُحتفلُ به يوم الأحد. لم يتم الأتفاقُ على أيِّ أحد، والسبب الأضطهاد الواقع على الكنيسة أولاً، وثانيًا بسبب الشرق والغرب. ربيع الشرق ينتهي بشهر نيسان حيثُ يبدأُ في الغرب. ولمَّا إستراحت الكنيسة من بلية الأضطهاد إجتهدت في تثبيت تأريخ العيد. وتحَّققَ ذلك في أول مجمعٍ مسكوني عقدته الكنيسة في نيقية من أعمال تركيا، على زمن قسطنطين الملك ، سنة 325م، فأوحى إليهم الروح القدس فثَبَّتوا تاريخ العيد بالأحد الذي يلي الأعتدال الربيعي، 21 آذار الشمسي. ولكن بسبب إختلاف المناخ بين الشرق والغرب إتفقوا على قاعدةٍ تريحُ الكل، هي : أول أحد بعد البدر (إكتمال القمر) الذي يلي الأعتدال. وعلى أن يتم البدر قبل الأحد، وليس يوم الأحد نفسه. وإذا إكتمل البدرُ يوم الأحد ( ليلة السبت على الأحد) ويأكلُ اليهودُ فصحَهم ، وحتى لا يختلط العيدان ، إرتأوا تأجيل العيد ، في تلك السنة إلى الأحد الذي يليه.
أما الأختلاف الحالي بين الكنائس فمَرَّدُه ” التقويم “. التقويم القديم اليولياني ، و المدعو خطأًا بالشرقي ، و تتمَّسك به الكنائس الشرقية الأرثذوكسية ، و التقويم الغريغوري الكاثوليكي ويتبعه العالم الكنسي والمدني بسبب صحته العلمية، في حين يُعاني القديم من خطأٍ علمي. والتقويم الغريغوري تصحيحٌ للتقويم اليولياني تمَّ سنة 1582م. يتخَّلفُ التقويم القديم اليولياني عن الغريغوري حاليًا بثلاثة عشر يومًا ، ويزدادُ يومًا آخر حوالي كل 122 سنة. وإذا لم يُعَّدَلْ سيأتي زمنٌ تُعَّيدُ فيه القيامة صيفًا أو خريفًا أوشتاءًا.
تتلى علينا اليوم القراءات : اش60: 1-7 ؛ رم5: 20 – 6: 14 ؛ يو20: 1-18
الرسالة : رومية 5 : 20 – 6 : 14
القيامة عيد الحياة. والحياة لا فقط بالجسد فتؤولُ الى الزوال، بل الحياة الأبدية. والحياة لا بالتمتُّع بالخيرات الأرضية بل بمشاركة مجد الله وراحته كما كان الأنسان في الفردوس. تلك الحياة خسرتها الأنسانية بسبب خطيئة الأنسان الأول، آدم. تمَرَّد جذعُ البشرية على الله الخالق. ولكونه الجذع صارت خاطئة كل الأغصان التي تفَرَّعت عنه. كل الناس أخطأوا في آدم الذي كان يحملهم في صلبِه. تشَّوهت طبيعة الأنسان، لذا يولد كلُّ إنسان في هذه الحالة المُشَّوهة. ولمَّا أتت الشريعة على يد موسى كثرت أسبابُ الخطيئة بسبب االممنوعات والمُحَّرمات. وكانت الشريعة غير قادرة على إنقاذ الأنسان بإزالة خطيئته. ولكن لكثرة الخطيئة تفاضلت نعمة الله فكان التجَّسدُ والفداء.
فالخطيئة لم تُمِت الأنسان في حياته الزمنية، وإلا لما أنجب آدم نسلاً إنسانيًا. لأنه لم يخطأ في طبيعته بل في إرادته. لقد سها شخصُ آدم لا طبيعته. ففصَلته الخطيئة عن الله، أخرجته من الفردوس (تك3: 23-24)، وصارَ مُهَّددًا بالهلاك الأبدي. لكن الله تحَنَّنَ عليه فوعده بمُخَّلِصٍ من صُلبِه، يدفع ثمن الخطيئة، ويُعيدُ إليه حَقَّ المشاركة في حياة الله، مجدًا وراحةً. فما تشَّوه من الأنسان كان فكره ورغبتُه. لكنَّه أثَّرَ على طبيعته التي إستعمَلها لتتميم مشيئَنِه. أمَّا المخَّلص من نسل آدم فسيحملُ صفات أبيه الطبيعية البارة، دون أن يحمل خطيئته ، لأنه يكون كلمة الله القدوس نفسُه الذي يتخذ جسدًا من طبيعة آدم بإرادةٍ إلَهية. وبآتحاده بالأنسان في طبيعته ، لا في إرادتِه ، سيدفعُ عنه دينَه ، ثم يرفعُ فكره وإرادته الى المستوى الروحي الذي خُلقَ عليه ، فيستعيدُ قدرته على الفكر والسلوك المستقيمَين. وهكذا سيُعيدُ المسيح المخَّلص الحياة الروحية الألهية للأنسان، بعد أن يؤمن به ويغتسل مثله،” من آمن وآعتمد” (مر16: 16). المسيح إغتسل في عماد، الأردن رمزًا لتوبة الأنسان، لذا سيجعلُ المعمودية بابًا لدخول درب الحياة. وأفواجُ المُهتَدين الأوائل إلى المسيحية كانوا يُثَّقَفون في الأيمان و يعتمدون عشية القيامة ليشتركوا بنور خلاص المسيح ويقتاتوا بخبز الحياة. لأنه كما لبس المسيح طبيعتنا البشرية يلبسُ المُعتَمِدُ شخصية المسيح الألهية (غل 3: 27).
الموت والحياة مع المسيح !
قال يسوع لمرتا ” أنا القيامةُ والحياة.. ومن يحيا مؤمنًا بي لا يموتُ أبدًا” (يو11: 25-26). فحياة المؤمن بالمسيح هي بقدر إتّحاده به، إلى درجة أنَّ الحياة تصبح بينهما مشتركة. هكذا قال بولس:” لستُ أنا الحي بل المسيحُ يحيا فيَّ” (غل2: 20). فحياة بولس المؤمن هي من المسيح وبه وله (رم11: 26). المسيح تاب عن الخطيئة ومات عنها. ونحن أيضًا المُعَّمَدين بآسم المسيح إغتسلنا عن الخطيئة في معموديتنا وصلبناها في ناسوتنا المشترك معه على الصليب، وآستطعنا بذلك أن نشترك معه في قيامتِه. كما دُفن يسوع في القبر دُفنا نحن أيضًا في جرن المعمودية. وخرجنا منه أحياء كما خرج المسيح من القبر، ذلك بقوة تضامنه معنا وآتحادنا به.
تابَ لصُّ اليمين عن خطاياه وآعتمد في دمه التكفيري عنها على الصليب، مع كفّارة يسوع عن خطايا البشرية، فآستحَّقَ رحمة الله. ولمَّا شاركَ آلام المسيح تهَّيأَ للمشاركة أيضًا في قيامتِه، في حياة مجده وراحتِه. مثل لص اليمين صُلب إنساننا الخاطيء مع المسيح وقامَ معه للحياة. ولمَّا متنا مع المسيح عن الخطيئة فقدت الخطيئة سُلطانَها علينا. لقد تحَرَّرنا من قيودها. خرجنا من سجنها. إسترجعنا حُرّيَتَنا كأبناء الله لنتمتَّع بحياة جديدة، حياة القداسةِ و البِّر التي خلقنا الله فيها، والتي عاينّا نموذجها في سيرة المسيح نفسِه.
لا تسودُ الخطيئة أجسادكم !
ومن إختبر حياة السجنَ وأُطلقَ سراحُه عنه، لا يرغبُ العودةَ إليه، لأن حياتَه مُذِّلةٌ ومُؤلمة. إنَّه موتٌ بطيء. لذا يُنَّددُ بولس بالخطيئة قائلاً :” كيف نعود ثانية ونحيا في الخطيئة ” بعد أن حاربناها وكسرنا قيدَها ؟. لا. لا يليقُ ذلك. لذا تابع خطابَه ونصح أهل روما ” لا تدعوا الخطيئة تسودُ جسَدَكم الفاني فتنقادوا لشهواتِه” (آية6: 12). لقد تخَّلصنا منها وآتّحدنا بنبع القداسة المسيح فكيف نتدَّنس فيها من جديد ؟. لقد تمَّتعنا معه بالمجد والكرامة فكيف نتنازل عنها؟. لأنَّ من تمتَّع بالمجد والنعيم لا يقبلُ العودة الى الشقاءِ والذل. وبقيامتنا مع المسيح نلنا” نعمةً فوقَ نعمة”. إسترجعنا كرامة حُرّيتنا وعرفنا الحقَّ والبِرَّ(يو1: 14-17) وآختبرنا الراحة في الضمير و القلب والفكر. فلا يليق أن نتهاون فنخسرها من جديد بسلوك سبيل الخطيئة.
فكما لا يموتُ المسيح ثانيةً هكذا نتذكَّر أننا ” أمواتٌ عنا الخطيئة وأحياءُ لله في ربّنا يسوع المسيح “(آية11). لقد تحَرَّرنا بالمسيح من حكم الخطيئة وأصبحنا تحت حكم النعمة. لكن الجسد لم يمُتْ. يستمِرُّ في الضغط الحسّي ويثيرُ الشهوات ويطالبُ بالأستمتاع بها. والجسد لا صلاح فيه وسيفنى، وشهواته تقودُ إلى الهلاك لأنَّ” الأهتمام بالجسد موتٌ” (رم8: 6). و لا يزالُ الشَّرُ قائمًا ولن يتوقَّفَ عن الصراع ضد الحق والبر. ولكن المؤمن نال بالمقابل معرفة الحق والقدرة الألهية، الحالة فيه بالمعمودية، لكي تسند جهاده وتضمن له الغلبة. فهو يقوى على كلِّ شيء بالله الذي يُقَّويه (في4: 13). لذا على المؤمن ألا يخضع للجسد ولا يتبع شهواتِه، بل أن ينظر الى المجد الموعود به. ويستعمل جسدَه ” سلاحًا للخير في سبيل الله ” (آية 13).
فالقيامة مع المسيح بالمعمودية لا تعني عصمة المؤمن من الخطيئة. بل تعني إنتشالُه من بئر الهلاك وتزويده بسلاح الروح ليقوى على مقارعة ابليس والأنتصار عليه. لقد تبع الناس كثيرًا أهواءَهم، كانوا أسرىً لها. أما الآن وقد تحرروا منها فقد آن الأوان ليسلكوا طريق البر والصلاح. أن ألأوان ليشتركوا في الجهادَ ضدَّ الشّر، ويقودوا حملتهم بنفسِهم ، وأن يغلبوه بالخير والبر(رم12: 21)، وينالوا أجرهم إكليل المجد (2طيم4: 7-8).
سبق بولس وقال أن الشريعة سببت تضاعف الخطايا. ولكن” حيث كثرت الخطيئة تفاضلت النعمة” (آية 5: 21)، لكنَّ هذا لا يعني ولا يُبَّررُ الأستمرار في الخطأ بحجة أو رغبة تكاثر النعمة. إنَّ كثرة الزّلات البدائية حصلت نتيجة جهل الأنسان للحَّق. لأنَّه ما أن خُلق وقبل أن يختبر الحياة جُرِّب فسقط في الأختبار الأول. أما الآن وقد إختبرَ مغَّبة إتّباع الشهوات ونال المعرفة الكاملة مع قوةٍ الهية إضافية تسنُدُ جهادَه ، فلا مُبَرِّرَ لآستمرار السقوط في الزَّلات. لأنَّ الله “خلقَنا في المسيح يسوع للأعمال الصالحة التي أعَّدَها سابقًا لنُمارسَها “(أف2: 10 ). خلقنا الله إبرارًا قدّيسين على صورته، أخطأنا وشَوَّهنا تلك الصورة. إبتعدنا عن الله، لكنه وعدنا بأن يُنقِذَنا من ورطتنا عندما نكون قادرين على إستيعاب الفكر الألهي ونشعر بحُّبِه العظيم لنا. وقد تمَّ ذلك بموت المسيح يسوع وقيامته مُعيدًا إلينا بهاء الروح وسمُّوِها على الجسد. أعادنا قديسين مُؤَّهلين ليسيرزا في موكب المسيح على الأرض وفي السماء.
هذه هي قيامتنا : عيدنا ، فرحنا وراحتنا وسلامنا.