يبدأ اليومَ الصومُ الأربعيني. نصوم صومَ المسيح ومعه. ينتهي في جمعة لعازر الآحاد حُسبَت ضمن الصوم حتى إذا لم نصُم
الرسالة : أفسس 4 : 17 ـ 32
يدعو بولس أهل أفسس، الذين آمنوا بالمسيح، إلى أن يتبَّنوا ضمن إيمانهم حياةً جديدة لا تستمرُّ على نمط الحياة السابقة وعاداتها ومفاهيمها، بل تُغَّير سلوكها وتتبَّنى نموذج حياة المسيح نفسِه. فالمسيح نفسُه حقيقة جديدة لم يعرف التأريخ مثلها. إنسان تراه يعيشُ مثلك لكنه يفوقُ كلَّ إنسان وبكل شيء لاسيما بالسلوك. إنسانٌ ظاهرٌ مثلك لكنه يخفي في ذاتِه الله الخالق نفسَه. إنسان يتفاعلُ كليًّا مع نظام الطبيعة لكنه يختلفُ عنه بالأخلاق. إذ لم يُسمَع قط أحدٌ يدعو إلى” محبة العدو” المسيء إليكَ. ربما حدَثَ وأن لم يثأر أحدٌ للظلم الواقع عليه، و أمَّا أن يتبَّنى الغفران مبدَءًا للسلوك العام فهذا شيءٌ جديد. ربمَّا تدَّخلَ إنسانٌ ليُصالحَ و يُوَّفقَ بين إثنين متخاصمين، ولكن أن يُصالح بين” الله والأنسان”، وأنْ يُؤَّكدَ أنَّ اللهَ أبٌ مُحّب ، و أنَّ الآخرَ أخٌ وليسَ غريبًا، كلُّ هذا جديدٌ على الساحة البشرية. وكلًّ جديد يتطلبُ التفاعلَ معه بشكل يُسَّهلُ تحقيقَه ليظهرَ ثمرُهُ ويجريَ خيرُه. فالمسيح يطلبُ حياةً جديدة.
إنزعوا عنكم سيرتكم الأولى !
عندما نأخذُ قدحًا لنملأَه سائلا، يجب أولاً أن يكون فارغًا أو أن نُفرِغَه مما فيه؛ وثانيًا أن نغسِله فيتطهر مما ملأَه سابقًا فلا يتشَوَّه المشروب الجديد، بل يُعطي طعمَه ولاسيما نفعَه الخاص به. هكذا بالنسبة الى المسيح. فمن آمنَ به وقبلَه مخَّلِصًا لنفسِه يجب أن يُجريَ على نفسِه عملية التطهير مما علقَ به من فكرٍ وعادة وتقليد وتراثٍ. لأنَّ المباديءَ الأخلاقية التي سادت الحياة قبل المسيح لم تكن في المستوى المطلوب لتساعد الأنسان على الخلاص. قال يسوع :” سمعتم أنَّه قيل لكم ..أمَّا أنا فأقولُ لكم..”(متى5: 21-48). جاءَ المسيح ليُعَّدل مسارالنظام الخلقي. لذا قال عنه الأنجيل:” كان يُعَّلمُ كمن له سلطان لا مثل معَّلمي الشريعة” (متى7: 29).
وقد أكَّدَ يسوع أن التعليم الجديد الذي يُلقيه على الناس، مؤمنين كانوا أم وثنيين، لا يقبلُ الترقيع على ذهنيةٍ وسيرةٍ قديمة. إنه خمرٌ جديدة تتطلبُ أوانيَ جديدة. والتعَّلقُ بالخمر القديمة “المُعَّتقة” لا يسمح بآستذواق الجديدة غير المُختَبَرة بعدُ. فالتعليم الجديد يتطلبُ ذهنية جديدة وتصميمًا قوّيًا ليظهرَ مفعولُه (لو5: 36-39). وتطبيقًا لهذه الحقيقة ينصحُ بولس ألمؤمنين بالمسيح، لاسيما الجدد، ألا يتشَبَّثوا بما قد تعَوَّدوا عليه من سلوك أو تقليدٍ لا يتوالم مع إرادة المسيح. ليس للمؤمنين به مثالٌ ونموذج يقتدون به غير المسيح. وإزاءَ سلوك المسيح تسقطُ كلُّ نماذج أو مباديء أخرى. ولا يمكن فهم المسيح إلا بآتّباعه بقناعةٍ دربَ القداسةِ بسلوك درب الحَّق والمحبة البارزين في حياته. وكلُّ ما يُعارضُه هو من الشَّرير، ابليس عدُّو الأنسان.
ويذكرُ بولس الأخلاق المعادية لنموذج المسيح ودعاها “سيرة الوثنيين”، أي الذين لم يعرفوا الله، حتى لو إدَّعوا الأيمان به (يو8: 55)، فعاشوا في ظلمة الفكر وقساوة القلب و قدَّسوا الشهوات الجسدية، الفاسدة منها كالكذب والغضب والسرقة وخشونة الكلام والعنف والأنتقام ، وتبعوا سُنن البشر(مر7: 8). وهذه سُنَّةُ كلِّ الناس وليس الأفسسين فقط. فمن خلال هؤلاء يوَّجه الرسول كلامه الى كل الناس، في كلّ زمان ومكان. فالمسيحي، أيًّا كان وأينما كان، هو مدعو إلى عملية تنقية الذات من الأخطاء والشوائب التي تُعارضُ قداسة نموذج سلوك المسيح. إنها أجزاءٌ وبقايا حالة الخطيئة القديمة التي ورثناها بالولادة أي قبل إنتمائنا الى المسيح بالمعمودية. ولا تتلاءمُ مُطلقًا مع روح المسيح وآدابه ومبادئه الألهية. وهي لا فقط تعارضُ المسيح بل وتُعرقِلُ عملية نضوج مبادئِه وروحيتِه، ثم ترَّسُخها في حياة المؤمنين العملية. والصوم فرصةٌ لآجراء هذه التنقية عن القديم والتأَقلم على الجديد.
تجَّددوا روحًا وعقلاً !
قرأنا في تأَمل الأحد السابق ما سبقَ وذكَّر به بولس أهل أفسس بأننا لمَّا إعتمدنا فآنتمينا إلى المسيح مُتنا عن الحياة القديمة، حياة الأنسان الخاطيء، ورفعنا المسيح معه إلى مستوى جديد من الحياة، إلى المستوى الألهي لها، لأننا قبل صُنعنا الجسدي كنا نحيا في الله ثم نفخنا في الجسد لنُحييه بحياة الله السامية والخالدة. ولمَّا فقدناها بالخطيئة أعادها إلينا يسوع بالعماد بعد أن إشترانا بثمنٍ غالٍ، بذبيحة دمه القدوس البار( 1كور7: 23؛ رؤ5: 9). ولهذا أصبَحَ المُعَّمَد في المسيح مُلكًا له حتى قال الرسول “: ما أنتم لأنفسكم، بل لله. هو إشتراكم ودفعَ الثمن. فمَّجدوا اللهَ إذًا في أجسادِكم ” (1كور6: 20؛ 2بط2: 1). جَدَّدَ يسوع جُبلَتَنا وقُبلَتنا و سَيَّرنا في درب الله. ولهذا بدأ الرسول قوله: ” لا يليقُ بكم أن تسيروا بعدَ الآن {بعدَ العماد} سيرةَ الوثنيين (آية 17). وبالمقابل عرضَ تجديدًا يشملُ الحياة كلَّها ” روحًا وعقلاً، وآلبسوا الأنسان الجديد الذي خلقَه الله على صورته في البِرِّ وقداسةِ الحَّق” (آية 24). ليس التجديدُ شهادةً نفتخرُ بها و نبرزُها لنَّعلن أفضليتنا على غيرِنا. ولا هو منصبٌ نفاخرُ به غيرَنا. بل هو سلوكٌ يشُّذُ عن قاعدة أهل العالم ويكبحُ الشهوات الثائرة ويُنيرُ للعالم طريق الأمن والسلام. نمارسُ هذا السلوك طوعًا لا كُرهًا لنتوازى مع حياة المسيح ونشهد للعالم أنَّه ممكنٌ، وأنَّه يتماشى مع جوهر طبيعتنا، وأنَّه السبيل والضمان الوحيد للخلاص، أي العيش براحة وكرامة وسعادةٍ ومجد من الآن وللأبد. سيرتنا تكون شهادةً على إيماننا و وحدتنا مع المسيح. وهذه كانت آخر توصيةٍ لتلاميذه :” أنتم شهودٌ لي .. إلى أقاصي الأرض” (أع1: 8). شهادتنا تنطلق من سيرتنا قبل كلامنا. بسيرتنا نُبرهن أننا للمسيح وفيه، وأننا نعيشُ بقوَّةِ روحه القدوس.
لا تُحزنوا الروح !
لم يكن الأنسان بطبيعته المُلَوَّثة قادرًا أن يسلك سبيل الله. غسله يسوع منها وأزال ضعفَ الطبيعة لمَّا أفاضَ عليها روحَه الألهي. فمثل يسوع ينالُ المُعَّمَد التثبيت بالروح الألهي. و دورُ الروح أن يُنير طريق الحَّق فيكشفه للمؤمن وأن يُحَّررَ إرادة الأنسان من الميل إلى الشَّر بتذَّوق البر الألهي ويدفعه فيسنده لمقاومة الشَّر والأشرار. فالروح الحالُ في المُعَّمَد والمُثَّبَتْ ترسٌ للمؤمن في مقاومةِ الخطيئة ورمحٌ على الشَّر في عقرِ مَلجَإِه. لكنَّ الترسَ والرمحَ يحتاجان إلى فارسٍ يحملُهما ويستعملُهما. أما إذا عافَ الفارسُ سِلاحَه وآختبَأَ فلن يفلحَ في التخَّلص من حربِ الأعداء ويسقط أسيرًا للسيرة القديمة. لهذا شَجَّع بولس قارئيه أن يَدَعوا الروح يعملُ فيهم وأن يستجيبوا لإيحاءاتِه ويتبعوا توجيهاته ولا يُهملوه فيحزن.