الفكرة الطقسية : بالصوم نكتشفُ حكمـة الله
تتلى علينا اليوم القراءات : يش6: 27-7: 15 ؛ تك11: 1-9 رم8: 12-27 ؛ متى 21: 23-32
القـراءة : إيشوع 6 : 27 – 7 : 1 – 15 :– تسقط اريحا لأنَّ الشعبَ نفَّذَ تعليمات لله. لكن البعض أخذ غنائمَ خلافًا للتعليمات. فلمَّا حاربوا عاي فشلوا فشَلاً ذريعًا. كان الله قد فارقهم. ثم كشف خيانتَهم وطمَعَ بعضهم. كشف اللهُ المخالف وأدفعهُ ثمنًا باهظًا بحياته مع أسرته وكلِّ مُقتناه.
القـراءة البديلة : تكوين 11 : 1 – 9 :– لمْ يُنهِ الطوفان الشَّرَ عندما قضى على الناسِ الأشرار. ينبُتُ الشَّرُ من داخل الأنسان: من فكره ومن قلبه. ولم يطُـلِ الزمنُ حتى عاد الناس في بابل الى الكبرياء وأرادوا هذه المرة تحَّدي الله.لكنهم فشلوا فآنقسموا وتشَّردوا.
الرسالة : رومية 8 : 12 – 27 :– يدعو الرسول إلى إماتةِ الجسد بأعمال الروح. و هذا يُكَّلفُ ألمًا وتضحية. لكنَّ اللهَ يُعينُ أبناءَه على ذلك.
الأنجيل : متى 21 : 23 – 32 :– يُطالبُ الكهنةُ وقادةُ الهيكل يسوعَ أن يُبَّررَ تصَّرُفَه القيادي في الهيكل والمخالف لأحكامِهم. أمَّا يسوع فيفضَحُ مكرَهم ويدينُهم لعدم إيمانهم به.
إطار الحدث !
سبق يسوع فطرد من الهيكل تُجَّارًا حَوَّلوا الهيكل الى سوق. فآمتعضَ القائمون على شؤونه من ذلك لاسيما وأنَّ سمعتَه طغت عليهم وكشفت زيفَهم. فلمَّا عاد يسوع في اليوم الثاني الى الهيكل وبدأ يُعَّلمُ دون إستئذانهم إعتبروا ذلك لا فقط تحَّديًا لسُلطتهم بل ومنافيًا للشريعة. فأتوه من باب الأستفسار والتحقيق ناوين أن يُحرجوه فيكتشفوا نواياه وربمَّا يصطادوه أيضًا بكلمة تسمحُ لهم أن يُقاضوه.
رئيسٌ أم رؤساء الكهنة ؟
تحَدَّثَ الأنجيلُ عن ” رؤساء الكهنة وشيوخِ الشعب”. يُشَّكلُ هؤلاء مع الكتبة، أي مُعَّلمي الشريعة، المجلسَ الأعلى لليهود لآتّخاذِ القرارات المصيرية. هذا المجلس حكم على يسوع بالموت (متى26: 57-66)، وأنذر الرسل وهدَّدهم (أع4: 5؛ 5: 21)، وحكم بالرجم على اسطيفانوس (أع6: 15؛ 7: 1). كان الشيوخُ ” ذَقنيم ” أي ذوي اللحية، يُختارون من بين أعيان الشعب، من عهد موسى (عدد11: 16-30). لهم رئيسٌ يقودُه هو” عظيمُ الأحبار” أو رئيسُ الكهنة. وكان رئيسُ الكهنة من نسل هارون، يخلِفُه بعد موته إبنُه الأكبر. كانت رئاسةً مدى الحياة (خر29: 29؛ عدد20: 26-28). لكنَّ تدَّخلَ السُلطة الزمنية الحاكمة، أيًّا كانت، أجبر بعض الرؤساء غير الموالين على التقاعد وتعيين غيرهم رئيسًا جديدًا مواليًا لحكمهم. هكذا فقد تواجد في سنة موت يسوع رئيسان للكهنة: الفعلي وهو فيَّافا والمخلوع وهو حنَّان (يو18: 12-14 ، 24-28).
بأَّيَّةِ سُلطةٍ تفعلُ هــذا ؟
يبدو السؤال، لأول وهلةٍ، مجَّردَ فضوليةٍ إن لم يكن تحقيقًا أمنّيًا، يطرحُه كلُّ مسؤولٍ عن مؤسَّسةٍ ما أجرى غيرُه فيها أُمورًا تبقى حصرًا من إختصاص الأدارة المسؤولة مباشرةً. ولكن يبدو أن السؤالَ إحتوى أبعادًا أوسع وأعمق. إنَّه إنتقادٌ وآعتراضٌ شديد ولكن بلهجةٍ حكمية ونبرةٍ قانونية. إنَّهم هم المسؤولون عن الهيكل. وما يجري فيه سبق ونال رضاهم، و بقُوَّةِ الشريعة. لقد حدثَ وأنَّ أنبياءَ معروفين رسميًا تدخلوا وآنتقدوا. لكنَّ هذا الناصري من يكون” من يحسبُ نفسَه ؟. هذا ليس بالتأكيد رجُلَ الله، إنَّه لا يحفظ السبت. وأكثر من ذلك إنَّه كافرٌ مُجَّدف. سمعوا عنه أنه يساوي نفسَه بالله. هذا يستفِزُّهم ويُثيرُ غضبَهم. حاولوا مرارًا أن يقبضوا عليه بل وحتى أن يقتلوه. فعل من يتَّكلُ بتصَّرُفِه الأستفزازي في طردِه الباعةَ من الهيكل؟. لا يُصَّدقون بأنَّه ذلك بإيعاز من الله. إنَّهم هم وكلاءُ الله على الهيكل. لا أحد يقدر أن يتدخل في شؤونهم غير أعضاء المجلس ورئيس الكهنة!. بماذا يبَّرِرُ الناصريُّ فعله وهو ليس لا كاهنًا ولا عضوًا في المجلس؟. بل حتى لم يتعَّلم في مدارسهم (يو7: 15) . أَ تكون سُلطة بشرية، عصابةٌ مثلاً، أو دولة أجنبية هي التي تدفعُه الى خلقِ الفوضى لجَّر الشعبِ ألى تهلكةٍ جديدة؟. أ يكون أنَّه يعتبر نفسَه المسيح؟ ليست هذه الأحتمالات بعيدة عن الممكن. وهذا أمرٌ خطير. فعلا سيُفكّرُ قيّافا علنًا بهذا ويَحُّثُ المجلس على الحكم عليه بالموت (يو11: 48-50).
يريدُ اليهود أن يدفعوا يسوعَ إلى فَخّ ٍ يُرغِمُه على كشفِ هوّيتِه. وإذ يتصَّورون أنَّه مُخالِفٌ وأنَّ كيلَ مخالفاته قد طفح يأملون أن يحصلوا منه على كشفٍ جديد يدينونَه به، مُعلنين للناسِ سوءَه وإلحادَه فيتخَّلصون منه دون أن تحميَه قوَّةٌ ما أو الجماهيرُ فتنتقمَ له منهم. فقد أبطنَ سؤالُهم خبثًا به حاولوا إيقاعَه. إنَّه لُغمٌ يأملون منه كثيرًا. فإذا جدَّف أو خان الشريعة وكشف بنفسِه أنَّه ليس من الله فسيكون قد حكم على نفسِه. فإذا آفتضحَ أمرُه وغلبوه فأوقعوه ينتهي أمرُه فتتركه الجموع ويستعيدون كرامتهم وسُلطانهم. حسدٌ وفشلٌ فصراعٌ مميت.
بأَيَّةِ سُلطةٍ عمَّدَ يوحــنا ؟
لم يتَّعظِ الرؤساءُ عن مناوراتهم الفاشلة سابقًا. لكن يسوع لا يجهلُ ما في داخلهم . فرَدَّ إليهم السهم المُصَّوَب إليه فاضِحًا جهلهم وخُبثَهم ، ونفاقَهم وزيفَهم. إنَّهم يعتبرون أنفسَهم وكلاءَ الله وأُمناءَ شريعتِه. ليُبَرهِنوا ذلك. فالشريعة أُعطيت على يد موسى. وتبعَه أنبياءٌ ذكَّروا بها الشعبَ ودعوا الى الأمانة لها. لأَيِّ واحدٍ منهم سمعوا؟. هل لأيليا أم لأليشع؟ أم لأشعيا أم لأرَميا؟. بل هم” قتلة الأنبياء” (متى23: 34-37). وأين أمانتهم للشريعة؟. تمَّسكوا بالظاهر
الحرفي منها وأهملوا جوهرها “القداسة والعدل والرحمة والصدق”، فهم قادة عُميان (متى 23: 24). لا نذهب بعيدًا: ماذا كان موقفُهم من يوحنا المعمدان؟ كيف قابلوه؟. هل إعترفوا به نبّيًا؟ وهل سمعوا كلامه؟. سألهم يسوع: ” من أين كانت معموديةُ يوحنا، من السماء أم من البشر؟. هل تعتبرونه نبيًّا عَمَّد بأمرٍ من الله؟. أم ترونه إنسانًا عادّيًا، ناسِكًا متهَّورًا، عمل برأيه الخاص ؟.
وإذ جاءَ جوابُهم تهَّرُبًا من الأعترافِ بالحقيقة رَدَّ عليهم يسوع أنَّهم منافقون يرفضون الحقيقة فلا يستحقون أن يعرفوا ما سألوا عنه لأنَّ نيّاتِهم سَيِّئة. لا فقط نياتُهم بل أعمالهم أيضًا النابعة من نيّاتِهم. يفتخرون علَنًا بموسى، ولكنَّ موسى نفسَه سيكون أولَّ من يفضحُ خيانتَهم ويدينُهم (يو5: 45). هل يفتخرون بيوحنا، سيَدينُهم العشَّارون والبغايا، لأنَّهم لم يؤمنوا به. لقد أداروا الظهر لمرسلي الله وأهملوا شريعته وأقاموا لأنفسهم شريعتهم الخاصّة (مر7: 8-9). فلو إعترفوا بموسى ويوحنا لكانوا آمنوا به هو يسوع ، لأنَّ كليهما تحَّدَّثا و أنبَآآ عنه. وإذا لم يكونوا يؤمنون به فلماذا يسألونه، إذا لم يُبيتوا نيَّةً سَيِّئة؟. وإذا كانوا خُدَّامًا أُمناء فكيف لا يتعَّرفون الى ما يقرأونه في كتاب الله، إلى الآيات التي تدُّلُ على أنَّه المسيح؟ وكيف يُبَّررون عِداءَهم له وهو الذي يعملُ أعمال الله ؟.
إنتقال الموازنة !
لقد إنقلبَ السحرُعلى الساحر. فرأى الرؤساءُ والشيوخ، من جديد، أنفسَهم في قفص الإتّهام. وهذه المَرَّة في قفصٍ أكبر وأقسى. لقد أصبحوا، في عين الله، أدنى مرتبَةً من أدنى إنسان، في نظرهم،: البغايا وجُباة الضرائب (آية31). لقد إنقلبت الموازين عليهم. بحثوا عن حُجَّةٍ عليه ليتَّهموه، وإذا بهم يُعطون لزمةً أقوى تدينُهم وتُقَّوِضُ أساسَ إمتيازاتِهم وتُفَّندُ إدّعاءاتِهم . إنَّهم لا يخافون من الله بل من البشر. فيطمسون الحقيقة وينكرونها إرضاءًا للبشر دون إقامةِ حسابٍ لمشيئةِ الله وشريعتِه. ولا يخجلون، رغمًا عن ذلك، من أن ينتقدوا من أرسله الله، من يعملُ أعمال الله، ومن يُبَّلِغُهم كلام الله!. ولا يتوَّرعون إذ يكذبون وهم ينسبون إلى الله ما هو من رأيهم ومن رغبتهم ومن قرارهم.
فإذا كانوا يسألون عن هل يعمل يسوعُ بقوة الله أم بقوة البشر فالجوابُ عندهم في الكتاب. و إن كانوا يرفضون يسوع فهم يرفضون الله. وإن كان يسوع هو المسيح الآتي، وقد صاروا لا يَسْتبعدون كثيرًا ذلك (يو10: 24؛ أع5: 39-40)، إنَّما ليسوا مُستَعِّدين أن يتنازلوا عن إمتيازاتهم ومجدهم ، وعن مبادئهم التي تتناقضُ مع تعليم يسوع وأخلاقِه.
النتيجة !
لم يكتُبْ متى ليلوم اليهود. ولا ليَقُّصَ لنا أخبارًا مُفرحة بآنتصارات يسوع على مناوئيه وخصومه الأشِدّاء. وليس هدفُ يسوع إفحامَهم وفضحَهم. بل يسوع يشهد للحق. ويُسمعُنا صوتَه المُجَلجِل في الضمير والوُجدان قائلاً لنا : تُرى كم وكم تعترضون على الله وتنتقدونه وتعزون إليه كلَّ فشلٍ أو ضيقٍ أو بليَّةٍ أو كارثة إنسانية؟. كم وكم نتمَّسك بتعليم خاطيءٍ أو خُلُقٍ مُلتوٍ نعتبره الحق ولا نكَّلف أنفسَنا أن نفحصه على ضوء إيماننا قبل أن نتبَّناه؟. وهل نحن على حق كما نتصَّورُه؟. لنراجع أنفسنا بحِسٍّ توبوي، وقد طلب منا يسوع ذلك (متى 4: 17)، ونفحص سلوكنا وننظر: من في قفص الأتّهام، نحن أم الله؟.
نريدُ : أن نعرفَ كلَّ شيء، أن يلَّبيَ اللهُ كلَّ مطاليبِنا، أن يتكَفَّلَ لنا كلَّ عافيةٍ وخيرٍ وبركةٍ و أمان، أن يُسَّهلَ لنا كلَّ أمرٍ صعب، أن يُحَّققَ لنا كلَّ أُمنياتِنا!. أمَّا نحن فـنرفضُ : أن نُصغيَ إليه، أن نُكَّملَ ولو جُزءًا مما ينصَحُنا به، أن نتجاوبَ ونتفاعلَ مع نِعَمِه وأفضالِه!. ندَّعي أننا أبرارٌ ومستقيمون وما هو قياسُنا ؟ وأننا عادلون وفاضلون وما هو ميزاننا ؟. وأننا نعرفُ جَيِّدًا خيرَنا، ومن أين لنا العقل وكم مرَّة نفشل ونخطأ؟ وأننا قادرون على كلَّ شيء وكم خلّية خلقنا وكم مَيِّتًا أقمنا أو منازعًا أنقذناه من براثن الموت؟ وأننا نحِّب بصدق وكم عدّوًا قَبَّلنا ومُسيئًا ساعدنا وكم حقودًا سامحنا؟. وأننا نسلك دربَ الحَّق وكم حقيقةً شوَّهنا؟. هكذا بَرَّر اليهودُ أنفسهم : نحن أولاد إبراهيم!. لنا أب واحد هو الله!. ويوحنا المعمدان إبنُ الأُمَّة وصفَ أقرانَه ومعَّلميهم بـ:” أولاد الأفاعي” (متى3: 7)، وسمَّى يسوع قادتهم بـ :” مرائين .. قادة عميان .. حَّيات أولاد الأفاعي ” (متى23: 13-33).
وهل نحن متأكدون بأننا أفضل منهم؟. أما رسمنا لأنفسنا مسيحًا حسب مزاجنا و مصالحنا؟. أما نتبع مباديء العالم عوض تعاليم الكنيسة؟. أما نقتنع بمنطقنا البشري الفلسفي ونهمل منطق الكتاب المقدس ، وأقمنا بذلك لأنفسنا سُنَـنًا وشرائع لا علاقة لها بالله؟. هذا طبعُ كلِّ إنسان، والشَّرُ ينبتُ من داخله. لكن يسوع حَذَّرنا منه وطلب منا أن نُغَّيره فنتوب لأنه يُعادي النظام الذي وضعه الله فينا، نظام الملكوت، فقال :” توبوا فقد إقترب ملكوت الله” (متى4: 17). فهل نبقى متقوقعين على ذواتنا رافضين التسامي بالروح على نظام الحواس الحرفي كما دَلَّت عليه الكنيسة بفم الرسول :” نحن نسلك سبيل الروح لا سبيل الجسد”؟ (رم8: 4). ألا نأخذ الدرسَ من الشعب المختار وقادته العميان؟. بل ألا نتعلم من يسوع الذي خرج من ذاته ومجده الألهيين ونقتدي به فنخرج عن ذواتنا البشرية لنتأَّله مع يسوع، فنصبح أبناءَ الله ؟ (يو1: 12) .
يُحاسبُ الأنسانُ اللهَ كثيرًا. ويطالبه بكل شيء. ويلومه على كل مرض أو مصيبة. ويرفضُ أن يتحاور معه ويُصغي إليه. في حين ليس الأنسان سوى خليقة صنعها الله. وهل” تقولُ الجبلة لجابلها لماذا صنعتني هكذا ” (رم9: 20). يفتخر بنفسه ويتعالى على غيره وهو لا يقوى على حماية نفسه حتى ولا من عضَّةِ بعوضة. ينكرُ الله ويُجَّدفُ عليه في حين لا وجودَ له من دونه، وكلُّ خيرٍ يتنعَّم به هو هِبةٌ منه تعالى (يع1: 17). أمَّا الأمراضُ والبلايا فسببها الخطيئة، وأمَّا الظلم والفساد فمصدره الأنسان بتحريك ابليس. ورغم كل ذلك لا يُعاقبُ الله الخطأة بل يصبر عليهم ويمنحهم فرصة التوبة ويستمِرُّ في محَّبتِه لهم حتى إذا تابوا يغفر لهم ويشملهم برعايته (لو15: 20-24).
ولكي لا ينقلب حُكمنا علينا، فنقع في نفس حفرة قادة الهيكل، لنتُبْ ونسألِ الرَّبَ بإيمان، و لنصغ ِ إليه برجاء، ولنقبلْ رَدَّه علينا بتواضع، ولْنُقَّـيِمْه بثقة، فيُباركُ الربُّ صومنا ويُقَّدسه.