الفكرة الطقسية : الصوم والزمن : إنه زمن التـوبة
تتلى علينا اليوم القراءات : يش9: 15-27 ؛ تك16: 1-16 رم12: 1-15 ؛ يو7: 37-44
القـراءة : ايشوع 9 : 15 – 27 :– يحتالُ أهلُ جبعون على ايشوع بن نون. ولمَّا إنكشَفَت حيلتُهم وآفتضَحَ كِذبُهم عاقبَهم فأقامهم خُدًّامًا لشعب الله.
القـراءة البديلة : تكوين 16 : 1 – 16 :– يَعدُ اللهُ إبراهيم بآبنٍ. إبراهيم شيخٌ وسارة عاقر فتُعطيه خادمتَها إمرأةً لتنجبَ لهما نسلا. ولمَّا حبلت هاجر إحتقَرَتْ سَّيدَتها. عوقِبَتْ فتمَرَّدتْ وآنهَزمَتْ. أعادَدها الله الى الطاعة ليولدَ اسماعيلُ إبنُها بشكل طبيعي.
الرسالة : رومية 12 : 1 – 15 :– يدعو الرسولُ المؤمنين الى التجَّدد بروح الله. يؤكدُ أنَّ المؤمنين متساوون ولا فضلَ لأحدٍ على غيرِه. لكل واحدٍ موهبتُه الخاصّة لخدمةِ الكنيسة وبنـيانِها.
الأنجيل : يوحنا 7: 37 – 44 :– يدعو يسوع الناس الى إتَّباعِه ويَعدُهم بالتمَتَّعِ بالحياة. فيقع جدالٌ وخلافٌ بين الناس هل هو المسيح أم لاّ؟. ينقسمون إذ يُرَّكز بعضُهم على تعليمه المُدهش المُنعِش، وغيرهم على أصلِه الوضيع، أنَّه من الجليل. أمَّا القادة فآستخَّفوا بعامة الناس وطالبوا بالقبض عليه.
إن عطشَ أحـدٌ ..!
العطشُ والماءُ والروحُ والحياةُ والقيامة : عباراتٌ عزيزة على قلب يوحنا ، تسطُعُ في فكره وتتزاحمُ على يراعِه فتتكَرَّرُ كثيرًا في الأنجيل الرابع الذي لقَّبهُ قارِئوه بـ” إنجيل الحياة “. و كلُّ كلمة أو عبارة موضوعٌ واسعٌ قائمٌ بذاتِه، ومرتبطٌ جذريًا وبقُوَّة بالكلمات الأخرى. وقد أحسَّ يوحنا نفسُه بعمقِ ما تحويه من المعنى الخاص الضارب جذورَه في عمقِ الأيمان المسيحي. وحتى لا يعسرَ هضمُه على قارئِه فيتيه، صار يلجأُ من حين لآخر إلى تفسير ما عناه، حتى تسهلَ على القاريء الكريم عمليةُ إستيعابِ النص بسهولةٍ أفضل.
فليأتِ إليَّ ليشرب !
لقد جاءَ يسوع، صار اللهُ إنسانًا، ليُوَّفرَ الحياة للناس، وقد زرعَ اللهُ في الأنسان الشوْقَ إلى الحياة والتَوْقَ إلى العِزَّةِ و الهناء. ويطمحُ دومًا الى أفضَلِها. وضمَنَها المسيحُ لتلميذه فأدلاهُ على الطريق المُؤَّدي إليها، وعلى الحماية التي تتكَّفلُ تحقيق الهدف بأمان. وحتى لو كان الأنسانُ قد فَقدَ الأملَ في تحقيق أُمنيَتِه، إلاّ إنَّ اللهَ لم يفقُد رغبتَه وجُهدَه في إعادةِ الأنسان الى فردوسِه المفقود. ظلَّ اللهُ “عطشانَ” إلى إنقاذ الأنسان من ورطته وإلى تحسين ظروفِه وإعطائِه من جديد فرصةَ الحياةِ الحَّقة. لقد قالها يسوع على الصليب، في أحرج ولكن أعظم أوقاتِ حياتِه” أنا عطشان” (يو19: 28). لم يطلبْ ماءًا لأنَّه لم يكن محتاجًا اليها فلم يشرب الزوفي بالخَّل (متى27: 34؛ يو19: 29؛ مز69: 22). كان يدعو البشر اليه. سبق وطلب من السامريةِ أن تُعطيَه ماءًا ليشرب (يو4: 7). ولم يشرب أيضًا. بل هو أسقاها ماء الحياة فآمنت به مسيحًا (يو4: 10، 15، 19، 26-42). اللهُ عطشانٌ ليعودَ الأنسان الى محَّبتِه ، و الأنسانُ عطشانٌ الى الحياة الحقَّة، لكنه لا يدري أين يجدُها؟. إنَّه لا يجدها في مباديءِ العالم ولا في خيراتِه، لأنها كلَّها زائلةٌ مع الزمن. إنهارَت وعودُ البشر وقِواهُم كلُّها الواحدة تلو الأُخرى، مُبَرهِنةً عن عجزها عن إرواءِ عطش الأنسان. إنَّه يطلبُ ما يدوم للأبد. ولا شيء يدوم للأبد. لم يبقَ غيرُ الله الذي وحدَه أبدّيٌ مع خيراتِه. والمسيحُ” آتٍ. ومتى أتى أنبَأَنا بكلِّ شيء” (يو4: 25). والمسيحُ أتى :” أنا هو، أنا الذي يُكَّلمُكِ” (يو4: 26)؛ كما قال للأعمى منذ مولِدِه :” أنتَ رأيتَه، وهو الذي يُكَّلِمُكَ” (يو9: 37).
نبعُ ماء الحياة هوعند يسوع. ويدعو الإنسانَ ليذهب إليه فيشرب من تعليمه وأخلاقِه فيقتنيَ الحياة التي تصبو نفسُه إليها. وقد أكد ذلك للسامرية أنه يملكُ نبعَ ماءِ الحياة الأبدية. ومن تتلمذ له لا يحتاج الى إلَهٍ آخر،” لن يعطش من جديد”. لأنَّ المسيحَ لا يُعطي قدحًا أو جَرَّةً تكفي لفترة مُؤَّقتة. إنَّما يضُّخُ فيه ” عين ماءٍ يتفجَّرُ حياةً ولا يتوَّقف” (يو4: 13-14). إنَّه يُرويه بآستمرار ومجّانًا (رؤ21: 6). إنَّها الحياة الألهية نفسُها: اللهُ غذاؤُها وماؤُها (يو4: 32-34). فلا يهُّمُ المؤمنَ بعدُ طعامٌ ماديٌّ أو ماءٌ بقدر ما ينشغلُ بوحدة الحياة مع الله. ولن يبقَ لا جوعٌ ولا عطشٌ لأنَّ ” الحمل يهديهم إلى ينابيعِ ماءِ الحياة (رؤ7: 16-17) فتفيض من صدرهم أنهارُ ماء الحياة ” (يو7: 38). لأنَّ الله الثالوث” يُقيمُ فيهم ” (يو14: 23).
وعنى بكلامه الروح .. !
هكذا فسَّر الأنجيليُّ كلامَ يسوع. لأنَّ اللهَ شاءَ فخلق الكائنات الحَّية من الماء (تك1: 20)، وغسلَ فساد البشرية بالمياه فأزال الأشرار(تك6: 11-13)، وعاد فجعل المياهَ حِضنًا لحياةٍ جديدة روحية بعماد المسيح فيها مثل خاطيءٍ تائب (متى3: 11 و13). لم يقصد المسيحُ بالماءِ أحدَ العناصرَالمُكَّونة للأرضِ حصرًا، بل عنى به ” الروحَ القدس الألهي” الذي وعدَ أن يُفيضَه من عند الآب (يو14: 26؛ أع1: 4-5) ليُطَّهرَ الناسَ ويُقَّدِسَهم فيتذكروا ويفهموا تعليمَه ويُرشِدُهم في كل وقت إلى ما هو حَّق (يو15: 26؛ 16: 13). والحياة التي يجريها الروح فهي معرفة الحقيقة في القياس الألهي، أي معرفة الله على حقيقته بالتَعَّرُفِ على مُرسِله يسوع المسيح (يو17: 3).
إنَّ موضوعَ الماءِ والروح ليس جديدًا في الوحي الألهي، فليس حديثًا على العهد الجديد، ولا غريبًا على القديم. الماءُ للتطهير والروحُ للتجديد، ومصدرُه الله والهيكل (مز51: 12-13؛ حز36: 25-27؛ زك14: 8؛ يؤ3: 1-2؛ 4: 18)، وإشعيا يقول: ” أُفيضُ المياه على العطشان كالسيول على الأرض القاحلة، وأسكبُ روحي على ذريَّتِكَ وبركتي على نسلكَ” (اش 44: 3). فكما يمكن للقاريء أن يلاحظ ذلك فإنَّ الروحَ والماءَ عطيَّةٌ في العهد القديم وقوَّةٌ داخلية تُحَّولُ الأنسان. أما الحديثُ عند يسوع فإنَّ هذه العطية أو الطاقة هي” شخصٌ إلهي”، يُرسلُهُ الله الآبُ بآسم الأبن، والأبنُ من عندِ الآب، ” ليُذَّكرَ ويُعَّلمَ ويُرشدَ“. إنَّه حضورٌ ألهي يفعلُ خلال الأنسان ومن خلاله، فيدفعُه ويسنُدُه ويُلهِمُه في مسيرة حياتِه. هذا الحضور الذي يرفعُ المؤمنَ إلى مُستوى بُـنُوَّةِ الله والمشاركة في حياة الله وفعله (رم8: 16-17)، فقد ” أرسلَ الله روحَ إبنِهِ الى قلوبنا .. لستَ بعدُ عبدًا، بل أنتَ إبنٌ. وإذا كنتَ إبنًا فأنتَ وارثٌ ..” (غل4: 6-7). يُعطي اللهُ ذاتَه للأنسان ليُحَّوِلَه الى حياتِه الألهية. نعم صار اللهُ إنسانًا وقاسمَه حياتَه ليُؤَّلِهَ الأنسانً في سلوكه وكرامتِه.
لم يكن يسوع قد تمَّجد ..!
إرواءُ عطش الأنسان بإفاضة الروح سيَتِّمُ بعدَ القيامة. قبلها يدعو يسوعُ الناسَ الى الأيمان به ليتمَّتعوا بالحصول على هذه العطية. بالقيامة تمَّجد يسوع وختم نصرَه على عدو الأنسان ، و كسر قيود الشَّر المُكَّبلة للناس، وآستلمَ سيادتَه على الكون بصفته ” إبن الأنسان “. لقد دقَّت ساعةُ إكليل النصر وآستلام مهام قيادة الكون وإعانة الناس للسير نحو سعادة المجد الأبدي مع الله . فأفاض المسيحُ الرَّب الروحَ القدس على تلاميذه (يو20: 22)، وبواسطتهم على البشرية جمعاء (أع2: 2-4).
صار الرسلُ يتذَّكرون أقوال الرَّب (يو2: 22)، ويفهمونها على حقيقتها (يو16: 29-30)، ويتحَّركون ويعملون تحت تأثير الروح بما سكبه عليهم من أنوارٍ وقُوَّةٍ بحيثُ لم يُفَّرقوا بين أفكارِهم وبين إرشادِ الروح، وبين قوَّته وشجاعتهم. صارالروحُ يعمل فيهم وصاروا بقُوَّتِه يُجرون حتى المعجزات (أع3: 6؛ 5: 15-16). صار الروح لهم نبع ماءِ الحياة يسيلُ في داخلهم” جداول بل أنهارًا” من مواهبَ لبناء الكنيسة الفَتّية. ومن الروح الألهي الواحد نفسِه نال المؤمنون مواهبَ مختلفةً وخدماتٍ متعَّددةً، وأدَّوا أعمالاً متنَّوعة كجسمٍ واحدٍ لهُ أعضاءٌ كثيرة ومختلفة (1كور12: 1-12 و27-30). تمَّ كلُّ ذلك بعدَ القيامة وبعدَما حلَّ عليهم الروحُ في العُلِّية (أع2: 1-40).
تجري من صَدرِه .. !
لمَّا جُرحَ جنبُ يسوع خرجَ من” صدرِه ” دمٌ وماء (يو19: 34). كما تفَجَّرَت الماءُ من الصخرة لمَّا ضربَها موسى بعصاهُ (خر17: 6). وقال بولس: ” وكانت الصخرةُ المسيحَ”. وكانوا يشربون منها شرابًا روحِيًّا (1كور10: 4). وذكر أنبياءٌ أنَّ مياهَ الحياة ستخرجُ من أورشليم، من هيكل الرب (زك14: 8؛ يؤ4: 18). وأكَّدَ يسوع أنَّه هوهيكلُ الرب:” أُنقضوا هذا الهيكل وأنا سأبنيه بـ” ثلاثةِ أيَّام”، وكان يعني هيكل جسدِه (يو2: 19-21). إنَّه الهيكلُ الجديد مَسكنُ اللاهوت (يو1: 14)، ونبعُ الحياةِ الحَّي الذي لا ينضب (يو6: 54)، الحياة التي تنتقلُ منه الى المؤمنين به كإلى أغصانٍ من جِذع ِالشجر(يو15: 5). كانت البشرية تخضعُ لسلطة الجسد فالحرف، وكان العالم يتحَّكم فيه الشّرير. أما بعد نصر يسوع بالقيامة فقد دخلت البشرية، مع المسيح، إلى عالم الروح الألهي، لأنَّ ” سَيِّدَ العالم قد دين” (يو16: 11)، ولأنَّ الخطيئة قد غسلت بدم المسيح على الصليب” فحكم عليها في الجسد.. وحَرَّرنا من نير عبوديتها ومن الهلاك، فلا نسلك بعد سبيل الجسد بل سبيل الروح” (رم8: 2-16).
الأنسانُ صورة الله الروحية فلن يُريحَه ولن يكتمل إلا بالروح.
يقول العَّلامة بولس الفغالي في تفسيره للنص: ” الآن يتوَّجهُ المسيحُ المُمَّجد الى البشر و يقولُ لهم : إن عطشَ أحدٌ فليأتِ إلَيَّ. وَليَشربْ من يؤمن بي. الآن تتِمُّ كلمةُ الكتاب” من صدرالمسيح المُمَّجَد تجري أنهارُ مياهٍ حَيَّة. ويستطيعُ الأنسانُ أن يجدَ هُنا ما يُروي به عطَشَه. عطيةُ الروح هي جوابُ الله على عطش البشر، لأنَّ اللهَ نفسَه وضعَ فينا عطشًا إلى روحهِ” (إنجيل يوحنا، دراسات بيبلية رقم 2، الرابطة الكتابية، بيروت، 1992، ص242).