للعلم :- عندما تتقدم القيامة نحو شهرآذار، وتقعُ فيه ، يحصلُ فراغٌ بين سابوعَي إيليا و الكنيسة. ولملئ الفراغ نظَّمَ الطقسُ وأوجبَ إقامة عدد من الآحاد، حسب حاجة كل سنة، تقريبًا بعددِ الآحاد المحذوفة من سابوع دنحا ، وسَمَّاها ” آحاد موسى”. لأنَّها تأتي بعد إيليا ولأنَّ موسى وايليا رافقا معًا يسوع عند تجَّليه، ويُهَّيئان لآنتصاره النهائي. إيليا ممثلا للنبوة وموسى للعهد والشريعة. ولا يُصَّلى منها أكثر من أربعة آحاد. لذا هيَّأَ الآباءُ صلواتٍ لأربعة آحاد فقط. ويحدثُ نادرًا وقوعُ أربعة آحاد. حصلَ ذلك سنة 2008م عندما وقعت القيامة في أقصى حَدٍّ لها من آذار، وكانت يوم 23/ 3آذار/ 2008. وهذا يحصلُ مرَّةً كل ألف سنة!.
تتلى علينا اليوم القراءات : اش40: 1-8 ؛ تث11: 1-12 2كور1: 23- 2: 11؛ متى20: 1-16
القـراءة : إشَعْيا 40 : 1 – 8 :– يذكرُ النبي تعَّثُرَ اليهود بين الآمال والخيبات، و وعد الرب بأن يُنقذَهم بغفران الخطايا على يد المسيح الآتي.
القـراءة البديلة : تثنية 11 : 1 – 12 :– يُذَّكرُ الرب الشعبَ بالآيات التي أجراها لهم ، فيُطالبُهم بالأمانةِ وحِفظِ وصاياهُ.
الرسالة : 2 كورنثية 1 : 23 – 2 : 11 :– يذكرُ بولس غَمَّهُ الشديد لأهانته في كورنثية، وعزل الجماعة للمخالِف، فيطلبُ إعفاءَه وإعطاءَه فرصةَ التوبة.
الأنجيل : متى 20 : 1 – 16 :– يذكُرُ متى خبرَ العُمَّال المُستأجرين في ساعاتٍ متفاوتةٍ ، وكيف فاقت رحمةُ الله عدالتَه، بإِعطائهم أُجرةً كاملة عادلة كريمة، خاصَّةً عمال الساعات المتأَّخرة بدون تقصير منهم.
أحْزَنَكم كُلَّكم !
وقع خلافٌ بين بولس وأهل كورنثية، فأهانه أحدُهم. ردعَه الكورنثيون وعزلوه عن الجماعة ، كما فعلوا مع صاحب حادث الزنى فطلب بولس عزله وحرمانه خيرات الحياة الروحية ليتأَّدبَ و يُصلحَ سلوكه (1كور5: 4-5، 9-11). وحزن الكُلُّ وتأَّسفَ لما حصل. فيوازنُ بولس الإجراءَ المُتَّخَذَ بعظمة ما حدث ، فيُصَّورُ جسامة الفعل السَّيئ، الذي يسري مفعولُه في جسم الرعية كالخميرة في العجين (1كور 5: 6)، ويوازيه بالهدف المنشود من العقاب المُنْزَلِ بالخاطيء، وهو الأبتعادُ عن سلوك أهل العالم الموروث بالعادة من البيئة والتحَّول الى السلوك بروح يسوع المسيح. وسَمَّى الرسول هذه العملية تركَ ” خميرةِ الشَّرِ والفساد ” والعيش بـ ” بفطيرِ النقاوةِ و الحَّق ” (1كور5: 8).
وقد إستعملت الكنيسة أحيانًا هذا أسلوبَ العزلِ الروحي والأجتماعي بحَّق مؤمنين خالفوا تعليم المسيح وتصَّرفوا، علنًا وبإصرار، ضِدَّ توجيهِ الكنيسة وطلبها. دُعيَ الإجراءُ بـ” الحَرَم”، أي حِرمانُ المخالف والعاصي من مشاركة الإجتماعات الدينية وقبول الأسرار. وعلى غرار مار بولس وصَّت الكنيسة بقية المؤمنين بأن ” يتجَّنبوه ليخجلَ” فيُصلحَ موقفَه، ولكنها رفضت أن ” تُعامِلَه كعدو” بل أن ينصحوهُ كأخ (2تس3: 14-15). هكذا تصّرَفَ بولسُ أيضًا مع الكورنثي المخالف فقال: ” يكفي هذا الرجلَ من العِقاب.. أُريد أن تزيدوه محَّبةً .. فتَصْفَحوا عنه وتُشَّجعوهُ لئلا يبتلعَهُ الغَمُّ الشديد”.
بين العقابِ والعدالة !
تعَوَّدنا على إنزال العقاب بالمخالفين ولم نُعِر الأهتمام بالنتيجة. عَرَّفنا العقاب بأنَّه ردعٌ للأشرار ودرسُ لغيرهم بهدف إيقاف الشر. ولم يرتدع الأشرار ولا إنتهى الشر. وهل عملنا مرَّةً لإعادة الشَّرير إلى طريق الصواب، أو ساعدْناه على تغيير السلوك؟. حسبنا العقابَ عدلاً وكم تشَّفينا بعذاب المخالف دون أن نهتَّم بمردوده وبواجبنا، واجب المجتمع، لكيفية إصلاح الشَّرير والتقليل من حدوث الشر. أمَّا بولس فيُعَّلمُنا عكسَ مبدأ العالم، تثبيتًا لتعليم يسوع. رفضَ السامريون أن يبيتَ يسوعُ عندهم فطالب تلاميذُه بإنزال العقابِ فيهم، كما فعل إيليا النبي وأنزل النار من السماء وآلتهمَت رجال الملك الشّرير(2مل1: 10-12). لكن يسوع رفضَ و” إنتهرَهم” (لو9: 55). كما لم يُوافق على رجم الزانية بل طلب منها أن تتوب (يو8: 10-11).
يعتبرُ الأنسانُ العقابَ عدلاً يحمي الحقوق والأخلاق الحميدة. ونسي أنَّ العقاب يشمل الجسد والحواس ويُثيرُ الكراهية والحقد فيزدادُ المرءُ السَّيئ سوءًا. بينما ينبعثُ الشر والفساد من الفكر والقلب (متى15: 19). و نادرًا ما عالجهما العقاب أو غيَّرَهما. لأنَّ الفكر والقلب يحتاجان الى التنوير والتشجيع لا الى التحطيم.
أمَّا الله، الذي يفحصُ الكلى والقلوب، فهو أدرى بعدم جدوى العقاب الإنتقامي. هو يعلم أنَّ كلَّ شرٍّ أو فساد ينالُ عقابَه دون أن يُنزَلَ به قسرًا. فالأرضُ هي طالبت الثأر من دم هابيل وطاردته وليس الله. الله دعاه الى التوبة ومنع قتله (تك4: 7-16). ويعلم أن العدلَ هو بتفَّهم الحالة وتقييم ظروفها ومساعدة الأنسان في الخروج منها سالمًا، فأعلن الرب أنَّ رحمته لا ترضى بهلاك أيِّ إنسان خاطيء،” كلا، بل بتوبتِه عن شَّرِه فيحيا “(حز18: 23). من هذا القبيل لم يُطالب بولس بعقوبة المخالف، بل بالإعتزال عنه، لجعله يشعر، هو نفسُه، بجسامة ما فعل ويتوبَ، ويساعدوه على الشفاء من مرضه الروحي. سبق وكتب للكورنثيين بخصوص عقاب الزاني:” سَلِّموا هذا الرجل الى الشيطان، حتى يهلكَ جسدُه، وتخلصَ روحُه في يوم الرَّب” (1كور5: 5). للشيطان يدٌ في الشر والفساد، ويدفعُ الجسدُ الثمنَ مهما طال الزمن. أمَّا هذه المرَّة فيذكرهم بألا يسمحوا للشيطان أن يتغَلَّب على فكره وروحه، لأنه يُحاولُ بذلك إهلاكه الأبدي. فالرحمة تريد إنقاذه من هذا الهلاك والعذاب الأبدي، وتسمح للعدالة أن تأخذ حَقَّها وتكتفيَ بعذاب الجسد الزمني.
بين الإهانة والسماح !
يشعر الأنسان سريعًا بالإهانة عندما يُشتَمُ أو يُظلم أو يُساءُ إليه أو يُجرى بحَّقِه أيُّ تقليل من شأنِه. وإذا نصحته بالسماح عن الجاني يستثقلُ ذلك، لاسيما إذا أُسيءَ إليه في حياته أو ماله و خيراته. لا شخصَ أُهين أكثر من يسوع وأُسيءَ إليه وظُلِم حتى قتلوه صلبًا زيادةً في الإهانة و كأنَّه أَجرمُ إنسان حتى لعنَه اللهُ نفسُه فصُلِب (تث21: 23غل3: 13). ومع ذلك سامح من كل قلبه وطلب لهم الغفران من الآب السماوي (لو23: 34)، وعلمنا أن نسامح فنغفر للمُسيئين إلينا (لو11: 4)، و على دربه سار أول شهيد المسيحية (أع7: 60).
للإهانة والسماح وجهٌ آخر. راجعَ خاطيءٌ كبير كاهن الرعية وقال له: لقد أهنت ناسًا كثيرين بالنميمة والإفتراء والشتيمة والإزدراء، فماذا أفعل وكيفَ أُكَّفر عن خطيئتي العظيمة؟. فقال له إذهب الى المقبرة وآلعن الأموات بأقبح الشتائم والإهانات وعُد إلَيَّ. نفَّذَ الخاطيءُ ما أُمِرَ به. و سأله الكاهن بماذا ردَّوا عليك، أو ماذا فعلوا بك؟. أَجاب لا شيء. قال له: إرجع وكِلْ لهم هذه المرَّة أمجد الفضائل والألقاب، وعُد إليَّ. نفَّذَ من جديد المطلوب وعاد الى الكاهن. فسأله: ماذا قالوا لك، أو ماذا حدث لك؟. أجاب لا شيء فقط عَيَّرني الناس وآدَّعوا أني مجنون. فقال له: لا قَدْحُكَ أثَّر بالموتى ولا مَدْحُكَ. الإهانة والظلم وكل سوء نفعلُه للآخرين لن يُغَّير شيئًا فيهم. نحن فقط نتوسَّخ ونقللْ من قيمتنا وقدرنا. أنت صورة الله. عِش كإبنٍ له. غَيِّر سلوكك وآنزل من كبريائك فآعتذر طالبًا عفو من أسأتَ إليهم، وقَدِّرْ كلَّ إنسان وتصَّرفْ مع الجميع بعلاقة محَّبة وآحترام.
وفي حالة المخالف الكورنثي لم يتأثَّر بولس نفسُه بشيء بقدر ما تألَّم لضعف المُسيء ومصيرِه ولتأثير مَثَلِهِ على الآخرين ولآستغلال ابليس هذا الضعيف لتخريب الرعية وزرع الفساد فيها. فجاءت كلُّ إجراءاته لآحتواء الحالة من كلِّ جوانبها الأخلاقية لحماية نقاوةِ الإيمان وتوجيه المؤمنين بالمسيح في الدرب الصحيح للشهادة ليسوع.