جمعة الموتى !
الجمعة القادمة، 25/ 2، تحتفلُ الكنائسُ الشرقية الكاثوليكية بذكرى موتانا المؤمنين ونُصَّلي من أجلهم ليرحمهم عند دينونتهم. ويعتقد الكثيرون منَّا انّهم ينتظرون يوم القيامة، مجيء المسيح الثاني عند نهاية العالم ، ليجتازوا تلك الدينونة، التي نتصَّوَرُها جلسة قضائية، كما في محاكمنا البشرية. لا يبدو انَّ ذلك الأعتقاد مستقيمٌ. ولا تقول الكنيسة ذلك في تعليمها. و تعليمُ الكنيسة مبنيٌّ على الأنجيل وبقية أسفار العهد الجديد. ماذا قال الأنجيل؟.
يوحنا 5: 24-25
جاء فيه ما يلي :” الحَّقَ الحَّقَ اقولُ لكم ، من يسمعُ لي ويُؤمنُ بمن أرسلني ، فله الحياُةُ الأبدية، ولا يحضَرُ الدينونة، لأنّه إنتقلَ من آلموت إلى الحياة… ستجيءُ ساعةٌ ، بل جاءَتِ الآن، يسمعُ فيها الأمواتُ صوتَ آبن الله. وكُلُّ من يُصغي إليه يحيا “.
ليست الدينونة هنا في خانة القضاء، بل في خانة الأيمان والأفعال من عدمها. أمّا الدينونة العّامة عند مجيء المسيح فهي إعلانٌ كوني عّام للبشرية جمعاء، بعد نهاية الحياة الزمنية ، لحصيلة الحياة ، ما فعله الناسُ فيها وبها. وكلام الرب واضحٌ وصريح :” ومتى جاءَ إبنُ الأنسان في مجدِه … تحتشِدُ أمامه جميعُ الشعوب، فيُمّيز بعَضَهمُ عن بعض…ويقولُ للذين عن يمينه تعالوا.. رثوا المُلكَ المُعَدَّ لكم منذ إنشاء العالم…؛ ويقول للذين عن يساره إبتعِدوا عنّي يا ملاعين، الى النار الأبدية المُهَيَّأَةِ لأبليس وأعوانه..” (متى25: 31-46). سبق وقد إنفصل الأبرارُ عن الأشرار. والكلُّ عرفَ مصيرَ الكل. لقد تحدّد المصير قبل الآن. لا أحد يقدر أن يعترضَ أو يسـأل. والكل يحيا ويُؤَّبدُ. إنمّا دعا الأبرارَ بالأحياء لأنهم حافظوا على الحياة القدوسة التي منحهم الله ، بينما دعا الأشرار بالمُتعَذّبين لانهم يُحَسُّون بخسارتهم الفادحة للمجد الذي ولدوا فيه و شَوَّهوه ولم يُحافظوا عليه لغبائِهم.
الأبرار آمنوا بالمسيح وسمعوا كلامه، والأشرار رفضوا المسيحَ وشريعتَه. طلب الأشرارُ، في حياتهم، خيرات الدنيا والمجد الزمني، بينما أصابت الأبرارَ المصائبُ والبلايا. هؤلاء يتعَّزون الآن واولئك يتعذَّبون (لو16: 25). هي إعلان الحالة في بعدها الكوني. أمّا مصيرُ الأفراد فقد تقرَّرَ وثبُتَ، بالنسبة للموتى، حال موتهم. يتقرَّر ويُعلن فقط للأحياء عند مجيء المسيح. هذا ما يُؤّكدُه مار بولس لأهل تسالونيقي : ” يقومُ أولا الذين ماتوا في المسيح {ويعني المُخّلصين } ، ثم نُخطفُ معهم في السماء نحن الأحياء الباقين { الأبرار، بدون دينونة} ، لمُلاقاة الرب في الفضاء ” (1تس4: 6-7).
الموت حـدٌّ لجهد الانسان !
يثبُتَ مصيرُ كل انسان ساعة موته ” بارًّا كان أم شِرّيرًا”. فلعازر إشترك ساعة موته بالراحةِ والنعيم، والغنيُّ الشِرّير باشر العذاب (لو16: 22-23). لم تدرس محكمةٌ سجِلّهما حتى تُقرِّرَ مصيرَهما. بل أعمالُهما ثبَّتت حكمَهما قبل لحظة موتهما. كما حدثَ للعذارى الحكيمات والجاهلات أيضًا بموتهن. كانت أعمال سيرة كل فـئةٍ ميزان القرار(متى25: 5-9). يرى كلُّ مائتٍ ذاته في نور مجد المسيح ويعرفُ مصيرَه. فمن سلك طريق حياة السماء الألهية هو حيٌّ، ومن نبذَها هو مَيِّت. والحَيُّ لا يُدان ، والميِّتُ لا أمل في إنقاذه. كان ذلك ممكنًا فقط قبل موته بتوبته وإصلاح سلوكِه. أمَّا بعد الموت ودخول الأبدية فلا مجال للتغيير.
هذا ما يقوله مار بولس :” الذين رقدوا في يسوع ، سينقلهم الله إليه مع يسوع ” (1تس4: 14). تأكيدًا لتعليم يسوع بانَّ من آمن به وسمع كلامه قد ” إنتقل من الموت الى الحياة.. فله الحياة ولا يحضر الدينونة “. هكذا قابل الربُ يسوع الحياة بالدينونة. فكلمة الدينونة تُعَّبرُ عن التشهير بالشَّر والأشرار ومصيرهم المُخزي والمؤلم. وكلمة الحياة لا تعني الوجود، بل تدُّلُ على حالة الراحة والهناء التي يتمتع بها من آمن بيسوع وسمع كلامه، لأنَّه لا يخجلُ لا من عمله ولا من مصيره ، بل يفتخرُ و يفرح. وهذه الحالة لا تبدأ مع الموت الجسدي بل من لحظة الأيمان والرجاء بسعادة الحياة مع الله ومجدها. فالمؤمن والشاهدُ للمسيح هو حيٌّ ، في حين من رفضَ المسيح فقد إختار طريق الموت فهو ميِّت. كان الابن الضال مائتًا في الخطيئة بعيدًا عن الله، ولمَّا تاب إحتيا وعاش وفرح (لو15: 24). مثله إنتعشَ لصُّ اليمين وآستعاد الحياة عند توبته على الصليب. لم ينتظر نهاية العالم ولا سيُدان مرَّةً ثانية. بينما لو مات قبل التوبة كان سيظَلُّ تعيسًا هالكًا، كان بالروح ميِّتًا يستحِّقُ الدينونة.
من آمن وسمع هو حَـيٌّ !
فالمسيحي أَهَّله العمادُ للحياة إذ أقامه من موت الخطيئة. بدات ساعة الحياة تجري. والطوبى له إذا إستطاعَ أن يُحافظ على تلك الحالة التي تضمن له السماء. إنَّما يتطلبُ ذلك منه السهرَ والجهاد. وإذا ظلَّ أمينًا لعهده فلا دينونة عليه. وحالما تدُّقُ ساعة موته الجسدي يدخلُ إلى راحة المسيح ومجده. وبعكسِه يكون مصيرُ من رفضَ المسيح. وقد لا يدري الأحياءُ ولا يعرفون من يُشاركُهم المصير، ومن هم الهالكون. هذا الأمر سينكشفُ عند نهاية العالم. إنَّ أولادَ الله يكونون معًا معروفين لبعضِهم، وبالتالي يعرفون من هلك من الذين عاشروهم على الأرض. وهذه المعرفة تكون بمثابة ” دينونة عّامة “، لعامة البشرية، كعائلة واحدة خلقها الله بمحبته قدّيسة وهَيَّأَ لها المجد، حفظ بعضُ الناس أمانتهم نقيَّة طاهرة ، وخان غيرهم تلك الأمانة فيدفع ثمن سوئِه ورفِضِه حَّقَ الله. أمَّا اللهُ فبقيَ أمينًا لموهبته ولن يُرغمَ أحدًا على حُـبِّهِ وسماع كلامه.
وإذا كُنَّا نُصَّلي لأجل الموتى فليس ذلك ليُغّيرَ الله مصيرَ الهالكين أو يكون رحومًا في حكمه . لسنا نحن من نُعّلم الله ما هو الحق وما هو العدل وما هو الغفران، هو الذي كلُّه محّبة و رحمة، وأعطانا الحياة ، ودفع ثمن خطايانا مجّاَنًا، و وعدنا بالغفران إذا تُبنا. لا ! الله لا يندم على عمله لأنه هو الحّق، ولا يجهل ولا يتقاعس عن إعانتنا وحمايتنا وآستجابتنا. إننا نُصّلي من أجل من تابوا عن شرورهم لكنهم لم يلحقوا التكفير عنها والسُمُّو في محبة الله، و هم في حالة التطهير كي تقصُرَ أيّامُ آلام تنقيتهم، ويستمتعوا الحياة مع بقية المُخَلَّصين. لمَّا ظهرت مريم العذراء في فاتيما، سنة 1917م ، للرؤاة الثلاثة لوسيا، وفرانسوا وهياسنت ، أرتهم منظرًا من المطهر وعذاباته وطلبت الصلاة وتقديم إماتاتٍ من أجلهم. وبهذا ثِبَّتت السماءُ إيمانَ الكنيسة وسلوكَها بخصوص الحالة المؤقتة للتكفير عن الخطايا بعد الموت ، كما نَوَّهَ الرب يسوع (متى12: 32).