أهلا وسهلا بالأخ أنور حــنا.
قرأ الأخ أنور رسائل مار بولس الى تلميذيه طيطس وطيمثاوس ، الأول أسقف كريت والثاني أسقف أفسس ، وآفتهمَ أنَّ الأساقفة كانوا في بدء المسيحية متزوجين ، فتسـاءَلَ :
++ ما هي الأسباب التي دفعت الكنيسة الكاثوليكية لتَّبني البتولية لرتبة الكهنوت ؟.
ماذا قالَ مار بولس ؟
ما كتبه مار بولس لتلميذه طيطس ، أسقف كريت ، هو الآتي: ” تركتك في ..لتتميم تنظيم الأمور وإقامة كهنة في كل بلدة”. يستنتجُ شُّراح الكتاب المقدس، من هذه المقدمة، أنَّ طيطس كان بمقام الأسقف ، وكان أحد معاوني بولس المعتمدين في إدارة الجماعات المؤمنة. يتابع بولس إرشادَه :” تقيمُ من كان بريئا من اللوم، لم يتزوَّج غيرَ مرَّةٍ واحدة ، وأولادُه مؤمنون ..” أما عن الأسقف فيقول :” إنَّ الأسقف ، وهو وكيلُ الله ، يجب أن يكون بريئا من اللوم ، .. قادرًا على الوعظِ في التعليم الصحيح والرَّد على المخالفين” (طي 1: 5-9).
أما لطيمثاوس التلميذ المعاون الآخر، أسقف أفسس، فكتبَ بولس يقول: ” على الأسقف ألا يناله لومٌ، وألا يكون متزّوِجًا غير مَّرةٍ واحدة ، وأن … يُحسن تدبيرَ بيتِه ، ويحملَ أولادَه بالحسنى على الخضوع. فكيفَ يُعنى بكنيسةِ الله مَن لا يُحسنُ تدبيرَ بيتِه “؟ (1طيم3: 2-7).
على هذه النصوص بنى السائل علمَه وربما على غيرها لم يُشِر إليها. والنصوص واضحة تخُّصُ أولها الكهنة وثانيها الأساقفة. إنَّ الزواجَ لا يُعارضُ الكهنوت. وبنى مار بولس رأيَه على تعليم المسيح نفسِه ، وعلى الواقع الذي عاشته الجماعة المسيحية الأولى. فالمسيح إختار رسله وتلاميذه لا على أساس البتولية أو العلم أو السمعة. بل إختارهم من بين الناس بناءًا على الحالة السائدة. وكان الناس عندئذ كلهم يتزوَّجون. ثم إختارهم لسبب إيمانهم وقوة شوقِهم إلى مجيء المسيح وبناء مملكة الله ، مملكة العدالةِ والسلام على الأرض.
وهكذا كان من بين الرسل بطرسُ، عميدُ الرسل وأولُ رئيس للكنيسة، متزوجا(متى8: 14). و كذلك كان قليوفا أحدَ تلاميذه الـ 72 (لو24: 18)، وهو زوج مريم و والد الرسولين يعقوب ويهوذا ، المعروفين بإخوة يسوع (يو19: 25؛ متى 13: 55). وأيضا فيلبس أحد الشمامسة السبعة كان متزوجا ، وله بنات عذارى يُنبِئنَ (أع21: 8-9).
لكن يسوع كان بتولا، وكذلك أمه مريم (لو1: 34). وعلى يدهما تم الخلاص وآنبنى ملكوت الله على الأرض. و ملكوت الله لا يقوم على أسس زمنية مادية كقومية ولغةٍ وجيشٍ وبلد. الكون كله بلد الله للبشر كلهم. لغة مواطنيه هي المحبة ، وقـوتهم هي الحَّق. لم تبقَ مملكة الله بحاجة الى عدد كبير من المواطنين، بقدر ما تحتاج الى نوعية أصلية وقّدوسة :” كونوا قديسين.. كونوا كاملين مثل أبيكم السماوي”(متى5: 48؛ 1تس4: 3-8). ومن أجل بناء هذه مملكة القداسة والكمال أوحى الروح الى كثيرين ” أن يخصوا أنفسهم ” (متى19: 12) ولا يتزوجوا.
البتــولية !
وبعد مريم العذراء ، ربما كان بولس أهمَّ من إفتهم قوة الحياة مع الله فآختار أن يُكَّرسَ نفسه لخدمةِ الله. وإذ رأى أنَّ البتولية أفضل السبل للتعَّلق بحب الله والسماء فقد دعا إليها بقوة ولم يخجل بقوله :” أود لو كان جميع الناس مثلي ” (1كور7: 6). ويُفصح عن كلامه حتى لا يكون مُبهَما على أحد :” إذا دُعيتَ ولم تكن مرتبطا بآمرأة فلا تطلب امرأة “(أية 37). و يُفَّسرُ سبب تفضيله البتولية على الزواج فيقول :” إنَّ غيرَ المتزوج يصرفُ هَّمَه الى أمور الرب والوسائل التي يُرضي بها الرب .. (غير المتزوج ) يُصرفُ هَّمَه لينال القداسةَ جسدًا وروحًا .. المتزوجُ منقسم .. أقول هذا..لأحملكم على الشيء الحسن ، الذي يجعلكم تتصلون بالرَّب إتّصالا غيرَ مُنقسم “( آيات 32-35).
شريان البتولية : القداسة في المحَّــبة !
والأتصال بالرب لا ينبني على ترديد صلواتٍ حرفية ، ولا على أداءِ أصوام ظاهرية. بل يقوم على ــ// المحَّــبة \ــ >{ أحبب الرَّبَ الهك من كل قلبك ، وكل ذهنكَ ، وكل نفسك }< (تث6: 5)، و>{ أحبب قريبك كنفسك }< (أح19: 18). والمحبة هي تحمل المؤمن على أن يحفظَ كلامَ الله و وصاياه (يو14: 21-24). وقد إقتصر دستورُ المسيح على -\ المحَّبة //-، وجعلها شعارا وعلامة مميزة لمواطني مملكة الله (يو13: 34-35)، لأنه بها يرتبطُ كلامُ الشريعةِ كلها والأنبياء (متى22: 40). الله مصدر الحياة وهدف الخليقة والكون. والله هو محَّبة (1يو4: 8). ولا يريد من الأنسان غير محَّبتِه هو. ويريدُ محَّبة تفوقُ كلَّ حَّد. تفوقُ حتى محبة الوالدين أو الأولاد(متى10: 37). المحبة هي غذاءُ المسيحي ودربه الى القداسة.
ولا توجد قوة في الكون تفصلُنا عن محّبةِ الله لنا ، ولا توجد حالة تقوى أن تمنعنا عن حُّبنا له (رم8: 35-39).
الكنيسة والبتولية !
هذه هي التعاليم التي لم تكن في بدء المسيحية قد وصلت بعدُ الى كل الأذهان. ولما تعَّمقت هذه التعاليم عبر السنين ، وجاءَت الأضطهاداتُ ، غربًا وشرقا، لتثبتَّ حقيقة زوال العالم ، والمُلكُ والخلود لله وحده وللذين يُعجنون على القداسة بخميرة المحبة ، عندئذ تبلورت أكثر، لا فقط أفضلية البتولية ، ولكن أيضا حاجةُ الكنيسة اليها وضرورة عيش حياة القداسة في التكريس الكلي لله ، من الآن وللأبد. فتعَّمقت النفوس في التكَّرُس لمحبة الله وترك العالم. بدأت قداسة الكهنوت تغزو العقول وبدأت الأنظمة أولا تدعو الى عدم ممارسة الأكليريكيين المتزوجين حقهم الشرعي في العلاقة الزوجية. سَّنَ ذلك مجمع إلفيرا في أسبانيا سنة 303م. ثم صارت البتولية حياة مُتَّبعة من قبل عمال الملكوت قبلَ أن تُصبحَ قانونًا منذ سنة 314م في مجمع أرل.
إستـنـتاجان !
أولا : كلام مار بولس عن الزواج مرة واحدة وعادة الزواج العامة لكل الناس لا تعني أن الزواج ضروريٌ ولا أنه خاطيء. إنه سُّنة الطبيعة لآكتمال الأنسان ، ولتمديد الحياة. و الحياة من الله ، وكمال الأنسان ان يُحَّقق صورةَ خالقِه. وإذا وُجد زواجٌ وآكتمالٌ مادي فهناك زواجٌ وآكتمالٌ روحيٌ مع الله مباشرة. والأكتمال مع الله روحيا أقوى وأفضل من الزواج. وقد شَّبهَ الله علاقته بالأنسان بالعلاقة بين الزوجين. وسَّمى عدم محبة الأنسان له زنىً (هو2 : 4-15). وكما تزولُ حياة الأرض هكذا سوفَ يبطلُ الزواج ولن يتواجد بين أبناء القيامة في الملكوت (متى20: 35). فما كان من البدء ، كزواج الأخوة من بعضهم ، زال مع تقدم الزمن وكثرة البشر. وما كان هدفًا يُحَّققه الزواج الأول، يُحَّققه في الخليقة الجديدة بالمسيح الزواج الروحي وحبُّ الله فوقَ كلّ شيء.
ولهذا كانت المسيحية تمنعُ أصلاً زواجا ثانيا للأرامل (1طيم5: 9)، مع أنَّ بولس فضَّله و شَّجعه للنساء الأرامل الشابات (1طيم 5: 11-15).
ثانيًا : ليست الكنيسة الكاثوليكية وحدها تنادي بالبتولية. كل الكنائس الرسولية شرقية كانت أم غربية ترفضُ زواجَ الأساقفة. هذا تراثُ الكنيسة العامة حتى بعد حدوث آنشقاقات داخل الكنيسة في الشرق. ولم يدخل زواج الأساقفة الى النظام إلا بعد الأنشقاق الغربي ، أى بعد إنقسام لوثر، الذي نكرَ وجود الكنيسة ولم ينقسم عليها أصلا إلا بسبب معاناتِه الجنسية التي لم يقوَ على التغَّلبِ عليها، والتي حَّذرَه منها والده وحاولَ أن يمنعه بسببها من التَّرهُب.
فأسبابُ البتولية هي إذن قداسة السيرة والتكَّرس الكلي لله في المحَّبة. وهذا الأمر تنادي به كل الكنائس. وكلها تقَّدسُ البتولية وتكَّرمها حتى إذا كانت لا تمارسُها. وما تدعو اليه الكاثوليكية يتماشى ودعـوة يسوع وحياتُه وتعاليمَه. وما تدعو اليه لا تفرُضُه.
بل تشَّجعُه لأنها تعتقدُ أنَّ الرَّبَ هو الذي أرادَ البتولية بل وحتى يكون قد طلبَها من رسله. و يبدو أن بطرس ترك زوجته حتى قال ليسوع :” هوذا قد تركنا نحن كلَّ شيءٍ وتبعناك “. و رَّد عليه يسوع :” ما من أحد ترك بيتا أو إمرأة أو إخوة أو والدين أو بنين من أجل ملكوتِ الله .. نال في الآخرة الحياة الأبدية “(مر10: 28؛ لو18: 29-30). تؤمن الكنيسة أيضا بأنَّ دعوة يسوع رُسُلَ اليوم هي نفس الدعوة التي وجَّهها الى بطرس ورفاقِه ، والتي إختصَرتها عبارة يسوع :” دع الموتى يدفنون موتاهم. أما أنت فآمضِ وبَّشر بملكوتِ الله ” (لو9: 60). يقول الرب لمن يقيمه كاهنا : دع أهلَ العالم ومبادئَهم وعاداتِهم وتقاليدَهم وحتى خيراتهم. لأن ما للعالم هو للجسد. و” الجسد ينزع الى الموت. ..ونزوع الجسد تمَّرُدٌ على الله. .. فمن يسلكون سبيل الجسد لا يستطيعون أن يُرضوا الله “(رم 8: 6-8).
وهكذا تكون دعوة الكنيسة الى البتولية هي مثل دعوة يسوع الى قطع كلِّ صلة للرسول مع أعداءِ الرسالة الإلهية الخالدة. وأعتقد أنها أسبابٌ لآ تقُّلُ قيمة ً عن مُبّررات الطبيعةِ في الزواج ، بل تفوقُها ما دامت دعـوةٌ من اللـه نفسِه.