أهلا وسهلا بالأخ وليد عبدالمسيح
كتب الأخ وليد ما يلي : لماذا، حسبَ رأيك، إختارَ المسيحيون الأوائلُ أربعة أناجيل مختلفة وضُّموها الى الكتاب المقدَّس ؟
ما هو النفعٌ المرجو والخسـارة الكبيرة ، في آمتلاكِ هذه البشائر المختلفة ؟
قراءة الأناجيل ؟
المسيحيون الأوائل إستمعوا الى بشارة الرسل، لا فقط عند جولاتهم التبشيرية، بل بنوع خاص ومُكَّثف عند إقامةِ قداس الأحد كجزءٍ أساس منه، كما جاءَ في أعمال الرسل:” فآنضَّمَ في ذلك اليوم الى الكنيسة زهاءَ ثلاثةِ آلافِ نفس. وكانوا يُتابعون تعليمَ الرسل، والحياةَ المشنركة، وكسر الخبز والصلاة” (أع2: 41-42؛ 5: 42). وماتَ الكثيرون منهم ولم تُكتبْ بعدُ الأناجيلُ. بل مات رسلٌ عديدون قبلَ أنْ يُكتبَ حرفٌ من الأنجيل. منهم يعقوب وبطرس و بولس وغيرهم من التلاميذ. أول إنجيل كُتبَ هو لمرقس بعد إستشهاد بطرس بسنين. وربما كتبه مرقس لُيبقيَ حَيَّةً كرازةَ بطرس وتُعَّوضَ قراءَتُها عن حضور بطرس الشخصي. وكان بولس قد عَوَّدهم على قراءةِ رسائله في إجتماعات الكنائس، يقول :” سَّلموا على نيمفاس وعلى الكنيسة المجتمعة في بيتِه. فإذا قُرئَت هذه الرسالة عليكم دعوها تُقرأ أيضا في كنيسةَ اللاذقية, وآلتمسوا رسالة اللاذقية لتقرأُوها أنتم أيضا “(كو4: 15-16). وقد إبتدأ بولس بهذا الأسلوب منذ أن كتبَ أولى رسائله، وهي أول سفر كُتِبَ من العهد الجديد، فكتب لأهل تسالونيقي :” أستحلِفُكم بالرَّب أن تُتلى هذه الرسالة على الأخوة أجمعين “(1تس5: 27). فآندرجت قراءة مؤلفات الرسل والتلاميذ. وقراءَتُها تعني إتخاذَها مقامَ الرسول نفسِه. وإذا إختاروا أربعة فلأنهم حسبوها تمثلُ وحدَها وأربعتها شخصَ الرسل فبَجَّلوها كذلك.
لماذا أربعة أناجيل ؟
أربعة أناجيل وليس أَكثر لأنها :
1- هي من تأليف شهود عيان. فمتى ويوحنا رسولان من الأثني عشر. ومرقس تلميذ من الأثني والسبعين الذين دَرَّبَهم يسوع على الرسالة. بينما لوقا تلميذ لبولس ومعاون له. و إن لم يكن قد إلتقى بيسوع نفسه لكنه سمع الرسلَ أنفسَهم وآستقى معلوماته من مصادر نبع الوحي الحي مباشرة :” أخذَ كثيرون يُدَّونون رواية الأحداث التي جرت بيننا، كما نقلها الينا الذين كانوا منذ البدءِ شهود عيانٍ للكلمة، ثم صاروا عاملين لها، رأيتُ أنا أيضا، وقد تتَّـبعتُها من أصولِها غاية التتبع ، أن أكتبها ..”(لو1: 1-3).
2- فالرسل أصحاب الثقة وختموا شهادتهم بالدم ولم يتراجعوا عن البشارة أمام كرههم وآضطهادهم ، فشهادتهم موثوقٌ بها. لاسيما وأنَّ بعضًا من الذين أصغوا الى الأناجيل كانوا قد عايشوا الرسل فترةً و تأكدوا من أنَّ محتوى الأناجيل ينقل اليهم بصدق أقوال الرسل.
3- لأنَّ المسيحيين الأوائل لا فقط تعرَّفوا على المحتوى المطابق لكرازة الرسل ولكن لأنهم تأكدوا أيضًا من أنه مكتوبٌ من قبل هولاء الأشخاص رغم أنَّ الأنجيليين لم يختموا مؤَّلَفَهم بتوقيعهم.
4- وإن كانت نصوص الأناجيل الأربعة مختلفةً عن بعضِها ، وذلك دليلٌ على أنها ليست نقلا الواحد عن الآخر، لكنها لا تختلفُ بحيثُ تتضادد و يُعارضُ الواحدُ الآخرين. حتى لو إختلفَ المحتوى أحيانًا، بحيثُ إنفرَدَ كلُ واحد وذكرَ أحداثًا وأقوالا لم يذكرها الآخرون، إلا إنَّ ذلك يُكَّملُ الآخرين. لأنَّ كلَّ واحد كتبَ لبيئةٍ وشعبٍ معَّين مختلف عن الآخرين بحيثُ قدَّم يسوع لجزءٍ من البشر وذكر لهم عنه ما يساعدهم على الأيمان به. و هكذا إكتملت صورة يسوع للعالم. مع ذلك إتفقت الأناجيل الأربعة على تقديم شخص يسوع الألهي والأنساني، وتثبيت تعليمه الأساس في تحديد سبيل خلاص الناس. وقد إتفقوا على عماده وبشارته وتأييد أقواله بالمعجزات والآيات لاسيما تكثير الخبز وإشباع الآلاف من بضعة سمكات وخمسة أقراص من الخبز، تأسيسه الكنيسة ، تأسيس سر القربان المقدس، و آلامه وموته وقيامته.
5- ولو كتبَ غيرُهم مثلهم وآحتوت مؤلفاتُهم حقيقة المسيح الأيمانية والأخلاقية لكانوا قبلوا بها وكان سيكون لنا خمسة أناجيل. لكن لا ننسى أنَّ كتابة الأناجيل موحاةٌ من الروح القدس. وسبق روح القدس فأشار الى الأناجيل منذ العهد القديم حيث ذكرَت بالرموز التي تُعرفُ بها لأنَّ الروحَ نفسَه كشفَها للمؤمنين. جاءَ في حزقيال:” في وسط العاصفة تراءى لي شيءٌ كأنه أربعُ كائناتٍ حَّية تُشبهُ البشر.. لها وجوهٌ وأجنحة..ولوجوهها الأربعة ما يُشبِه وجهَ بشر من الأمام، و وجه أسدٍ عن اليمين، و وجه ثور عن الشمال، و وجه نسرٍ من الوراء.. كان كلَّ واحد منها يسيرُ في آتجاهِ وجهِه، وهكذا كانت كلها تسيرُ الى حيثُ يشاء الروح “(حز1: 5- 12). وجه البشر هو رمز انجيل متى. وجه الأسد رمز انجيل مرقس. وجه الثور رمز انجيل لوقا. و وجه النسر رمز انجيل يوحنا. وسيُؤَّيدُ سفرُ الرؤيا هذه الأية ويتحدث رؤيا يوحنا عن” كائنات أربع رآها في وسطِ عرش الله وحوله. الكائن الحيًّ الأول يُشبهُ الأسد (مرقس، الأنجيل الأول حسب تأريخ كتابتِه). والثاني يُشبهُ العجلَ (لوقا، الثاني) . الثالث له وجه ٌكوجه الأنسان(متى ، الثالث). والرابع يشبه النسر الطائر(يوحنا، الرابع) (رؤ4: 5-7).
حكمة الله وتدبيره شاءتا أن يكتبَ أخبارَ يسوع السارة ( الأنجيل) أربعةٌ من المقرَّبين إليه ، يتجه كل واحد صوب شعوبٍ مختلفة، لكنهم كلهم يوصلون الى الهدف نفسه : مجد الله و خلاض البشر. وقد كتبَ غيرُهم، بعدهم، أناجيلَ لم تعترفَ بها المسيحية الأولى لأنها لم ترَ فيها وجه يسوع ولا تعليمه ، فدُعيت منحولة ورُفِضت.
النفعُ أو الخسارة !
أما الخسارةُ فلا توجد ما دام لا تتعارضُ الأناجيل فيما بينها. بقيَ أنَّ لها منفعَة كبرى لأنَّ كلَّ إنجيل رَكَّزَ، كما نوهت أعلاه، على جانبٍ من شخص المسيح ومن تعاليمه، دون أن ينكرَ أو يُهملَ الوجهَ الكامل والتعليم الأجمالي. ركَّز مرقس، بالتوافق مع قرائِه، على لاهوت يسوع وقدرته فائقة الطبيعة بحيث تنحني إزاءَها قوة أعظم امبراطورية بشرية و أقواها و أقساها في ذلك العهد. أما لوقا فيُجسد في صورة يسوع الطيبَ والرحمة الألهية. في حين شَدَّدَ متى على الوجه الكتابي ليسوع الذي طبَّقَ كلَّ النبوءات وتمسَّك بشريعةِ الله نابذًا سُـنَّةَ البشر. أما يوحنا فنفذ الى العمق الألهي والروحاني ليسوع ، كلمة الحياة ونور العالم. بهذا الشكل تكتمل صورة الله المتجَّسد رحمةً ومحبةً ، القادر على شيء والطبيب الشافي للأنسان الذي يريد عبادة روحية ، لا بكلام الشفاهِ وحدَه، بل بالروح والحق، بالفكر والقلب.
لو كانت كلُّ الأناجيلِ متشابهة ومتطابقة حرفيا لكنا قد حصلنا على صورة ناقصة ” لله بين البشر”، وتلك خسارة. أما الآن ولنا صورة كاملة من كل الأوجه فنحن محظوظون إذ لا ينقصنا شيء، بل بإمكاننا أن نتعرَّف على الله ونُحَبَّه ونشهدَ له في العالم ونشاركَ حياته من الآن وللأبد.