كم هي أبعـادُ الأنسان

أهلا وسهلاً بالأخ نوري كريم داود.

سؤال بحثه الأخ نوري، قبل 12 سنة، في مقال جميل، وعَلَّقتُ عليه في حينه توضيحًا لبعض الألتباسات. ضاع المقال بسبب قرصنة الكومبيوتر بقي عندي التعليق عليه. أنشره للفائدة. كتبتُ عنه في منتديات أخوية بولس الرسول ما يلي :

مقال قَيِّمٌ أتحَفَنا به الأخ نوري، كما عوَّدنا من حينٍ لآخر، وليتَ الشبابَ يتشَجَّعون فيُطالعوا

الكُتبَ لتثقيفِ ذواتِهم ويُنَّوروا إيمانَهم ويُشاركوا غيرَهم بما لهم من مواهبَ، فيبنوا بذلك مجتمعهم، أو أقَّله رعِيَّتَهم وكنيستهم.

روحًا ، نفسًا ، وجسـدًا !

كتبَ الأخ نوري أنَّ للأنسان ثلاثة مكَّونات، بينما يُعَّرَفُ عادَةً بِـمُكَّونين” جسدي وروحي”. إلاّ إنَّ ما كتبه ليسَ فارغًا من كلِّ صِحَّةٍ  أو تأكيد. خاصَّةً بالنسبة الى المؤمن بالمسيح. فـقد كتب مار بولس لأهل تسالونيقي :” قَدَّسَكم إِلَهُ السلام نفسُه تقديسًا تامًّا ، وحفظكم مُنَزَّهينَ عن اللوم، سالمينَ” روحًا ونفسًا وجسدًا “، يوم يجيءُ ربُّنا ..” (1تس5: 23). من هنا بدأ آلألتباس الذي ذكره المقال، وكأن بولس يقسم الأنسان الى ثلاثة أقسام، بينما المتداولُ هو أنَّ الأنسان نفْسٌ من مادّةٍ وروح. ولا يمكن العبور على هذه التعابير بدون محاولةِ إستيعاب معناها. لاسيَّما وأنَّ العبارةَ نصٌّ وجزءٌ من الرسالة، وهذه ضمن الكتاب الذي يشملُ الوحيُ كلَّ أجزائِه.

وقد قوَّى موقفَ علماءِ الكتاب المقدَّس ما جاءَ بعدَه في الرسالة الى العبرانيين حيث مكتوبٌ : ” كلمةُ اللهِ حَيَّةٌ فاعلة ، أمضى من كلِّ سيفٍ ذي حَدَّين ، تنفذُ في الأعماق الى < ما بين النفسِ والجسد ، والروح والمفاصِل ومِخاخ العظام >، وتحكمُ على خواطر القلب وأفكاره” (عب4: 12). يبدو هنا أيضًا شيءٌ أعمق وأبعدَ مما قد تعَوَّدنا عليه. ومبدأُ تفسير الكتاب المقدَّس ليس إهمال جزءٍ منه ، قصيرًا كان أو طويلاً ، بل وكلِّ جملةٍ قائمةٍ بذاتِها ، على ضوءِ ما سبقها أو تبعَها ، من نَصٍّ ، وعلى ضوء خلفيةِ الكاتبِ وثقافتِه أو المحيط الذي جاءَ منه ، أو الجماعة التي يكتب إليها ، لاسيَّما على ضوءِ ما نؤمنُ به. يستغِلُّ الكاتبُ كلَّ هذه الأبعاد لأجل إيصالِ ما يُريدُه من تعليم. هكذا فعل بولس مع الكورنثيين ذاكرًا خلافَهم وقِلَّةَ حكمتِهم (1كور1: 11 و26) ، خاصَّةً أنهم غرباءُ عن فكر المسيح (2: 16). بينما وصفَ الغلاطيين بالأغبياء ومتقَّلبين (غل3: 1-5) ، وآلكريتيين بكَّذابين وخُبثاء (طي1: 10-15).

تفاسيرُ علماء الكتاب !

حاول مُفَسِّروا الكتابِ المقدَّس أن يدرسوا فيفهموا ما تعنيه العبارة. الكلُّ مُتَّفقٌ على أنَّ الأنسانَ لا يتكوَّنُ من ثلاثة عناصر. إنَّما الكلامُ هنا ليس عن أيِّ إنسانٍ بشكل عام، بل عن الأنسان المؤمن بيسوع المسيح، والمُنتظرِ رجاءَ القيامة. والنَصُّ نفسُه جاءَ في سياقِ الحديث عن ” القيامة “، أي ما بعدَ الموت، وعن الأستعداد لها.

لقد جاءَ في الكتاب المقدَّس، الطبعة الكاثوليكية لسنة 1961م المعروفة بالأورشليمية، والتي قام بترجمتها وطبعها نخبةٌ من علماءِ الكتاب المقدس على المستوى الدولي، تعليقًا على الآية : 1تس 5: 23، ما يلي :” هذا التقسيمُ الثلاثي للأنسان هو فريدٌ من نوعِه لدى بولس. ولا شبيهَ له بشكل نظامي ومتناغم تمامًا. في الأنسان جسدٌ (رم7: 24) ونفسٌ (1كور15: 44). يظهرُ إضافةً اليها ” الروح”. والروح يمكن أن يكون، في أقوال بولس، ” المبدَأَ الألهي للحياةِ الجديدة في المسيح يسوع (رم5: 5). أو هو بالأكثر الجزءُ الأسمى من الأنسان وما يجعلُه أهلا لتَقَّبُل الروح القدس ” (رم1: 9).

سارت على هذا المنوال أغلبيةُ التفسيراتِ الكاثوليكية في الطبعاتِ اللآحقة باللغاتِ الغربية أو العربية، ومنها طبعة الآباء اليسوعيين سنة 1999م، وقبلها طبعة الكسليك سنة 1991م، والطبعة الفرنسية المسكونية سنة 1976. وشَدَّدوا على أنَّ بولس يُرَّكزُ على الأنسان كلِّه. و أضافت الطبعة الفرنسية ما يلي :” هذا التقسيمُ الثلاثي يعزوهُ البعضُ الى الفلسفة اليونانية. إنَّما ليست مألوفةً لدى بولس. فاليهودية وبولس يتصَوَّرون الأنسان هكذا : كُلًّا واحدًا ، من روحٍ وجسد (رم5: 6-7 و15-25). وقد تعني كلُّ كلمة عند بولس : الأنسانَ كلَّهُ ، خَصَّ ذلك الروحَ أو النفسَ أو الجسد “.

أمَّا بولس الفغالي ففي ترجمتِه “قراءة راعوية ” للعهد الجديد، طبعة مسكونية سنة 2004، فعَلَّقَ على نفس الآية كما يلي :” هذا ما يدُّلُ على الأنسانِ كلِّه. ويمكننا أن نجعلَ :

  • الجسدَ ، على مستوى المخلوقات حتى الجامدة منها  ؛
  • النفس ، على مستوى الحيوان مع التنَّفس والشعور بالوجع والـنمُّو  ؛
  • أمَّا الروح ، فهو يرفعُ الأنسان فوق جميع الخلائق، ويجعله على مستوى الروح القدس “.

وليس هذا ببعيد عن التفسير البروتستانتي الذي يرتقي الى سنة 1877م، مع إعادةِ الطبع سنة 1987 باللغة العربية حاملاً التفسير التالي : ” تُقسَمُ الطبيعةُ البشرية أحيانًا الى قسمٍ مادّي وقسمٍ غير مادّي هما الجسد والروح (1كور5: 3). وأحيانًا يُقسَمُ غيرُ المادّي الى ” القِوى العاقلة العالية ” وهي الروح، و” القِوى الحيوانية الدُنية ” وهي النفس (1كور15: 44). لقد راعى الرسولُ هذا التقسيم “.

أتصَّورُ أننا ، لو أردنا أن نفهمَ فحوى ما يقصُدُه بولس، علينا الرجوعَ الى كلامِه الآخر عندما يُشَّبهُ جسدَ الأنسان ببيتٍ، فيقول :” إذا هُدِمَ بيتُنا الأرضي، وهو أشبهُ بالخيمة الوقتية (2بط1: 13-14)، فلنا في السماوات بيتٌ من بناءِ الله ” (2كور5: 1). ولا فقط سنلبسُ صورةَ السماوي بجسد روحاني بعدَ الموت (1كور15: 49)، وإنَّما نبني لنا من الآن وعلى الأرض بيتًا روحانيًّا (1بط2: 5). والبيتُ يتكَّونُ دومًا من :

1-   أجزاء مبنيّة  ؛

2-   فضاءات أو فراغات ندعوها ” الغُرَف ” ؛

3-   والجزءُ المبني يكون : من ترابٍ، أو خشبٍ ، أو حجارةٍ أو كونكريت  ؛

وهذا الجسد/ البيت يُحييه روحٌ أي له حياة. وهذه الحياة هي ” نَفَسٌ”، جمعُه ” أنفاس”. عندما يفحصُ الطبيبُ المريضَ يطلبُ منه ” نَفَس”.، أي أن يتنَفَّس بشهيقٍ وزفير. وإذا توَّقفَ النَفَسُ توَّقفت الحياة. وكلُّ نَفَسٍ كما نفخَه الله في الأنسان يُشَّكلُ فردّا قائمًا بذاتِه، أي “< نَفْسٌ ” وجمعُها ” نفوس”. وكلُّ إنسانٍ هو نَفْسٌ، يَتَنَّفسُ ويختلفُ عن غيره.

إذن قد تعني ” النَفْسُ ” في 1تس5: 23 :

1-   الشخصَ! أو الفردَ كلُّه، جسدًا وروحًا، مثل البيت بنايةً وفضاءات ؛

2-   أو الحياةَ روحيًا، أي بالعلاقة بالروح القُدس الحالِّ في المؤمن، وبالعلاقة بالحياة

الطبيعية الفيزيولوجية (جسدًا ونَـفَسًا). أي يمكنُ القول أنَّ هناكَ بُعدين روحيين، هما : البُعدُ البشري الطبيعي (النَفَسُ، وهو روحي) ، والبُعدُ الألهي الذي يُكَّونُهُ حضورُ الروح القُدُس في المؤمن، جاعِلا إِيّاهُه إبنَ الله. وقد يكون كلامُ يسوع نفسِه يعني هذا عندما قال :” إِلّا إنَّ الروحَ هو الذي يُحيي، أمَّا الجسد فلا ينفعُ شيئًا. وآلكلام الذي كلمتكم به روحٌ وحياة “(يو6: 63).

فإذا كان النفخُ الأوَّلُ (تك2: 7) في الأنسان، آدم، هو إعطاءُ الحياة الزمنية، فالنفخُ الثاني في الرسل بعدَ القيامة (يو20: 22) كانَ لأعطاءِ الروح القدس، وإضافةِ حياةٍ روحية جديدة من نوع الهي على الأولى البشرية المحضَة. قد يكون الأنسان هادئًا بطبعه إِنَّما ينتقمُ لحَقِّه المسلوب، لكنه يُصبحُ أيضًا مسالمًا وغفورًا تشَّبُهًا بسلوك الله وتقَيُّدًا بشريعته ” إِغفروا يُغفرُ لكم” (لو7: 37). بطبيعته يُحِّبُ الأنسانُ أقرباءَه وأصدقاءَه ، لكن الروح القدس الألهي يدفعُه الى محَّبة حتى أعدائِه ومُبغِضيه (لو7: 27). لذا إن كان الأنسانُ فقط صورَةَ الله في النفخ الأول فقد أصبح في النفخ الثاني إبنًا لله ” يتخَلَّقُ بأخلاقِ إِبنه المسيح (في2: 5).  

هذا هو الأنسان الجديد في المسيح. فإذا لم يكُن للأنسان مُكَّوناتُ أو عناصرُ ثلاثة، إِلّا إنَّ المؤمن بالمسيح يملكُ ” أبعادًا ثلاثة ” ، هي : المادّية ( الجسد )، والروحية ( النَفَسُ ) والألهية ( الروح ) أي ” روحًا ونفسًا وجسَدًا “. إنَّها أبعادُ حياةِ الأنسان المؤمن العائش على رجاء القيامة في فردوس الله.