صلاة يسوع في بستان الزيتون

أهلا وسهلا بالأخ بهنام

سأل الأخ بهنام : لماذا صلَّى يسوع طالبًا أن يَصرفَ اللهُ عنه الكأس، مع العلم أنَّه أتى لذلك ؟. ولماذا لم يصرفها هونفسه عن ذاتِه وهو الألهُ المُتجَّسِد ؟. وإن كان لاهوتُه مُتَّصلاً بناسوتِه لماذا لجِيءَ الى الله وهما واحد ؟.

الذي أرسلني معي، لم يترُكني وحدي ! يو8: 29

جاء في الأنجيل أنَّ يسوع صَلَّى في بُستان الزيتون. وكانت صلاتُه حتى تعبُرَ عنه، إن كان ممكنًا، ساعة الألم، قال :” أبي أبي! أنتَ قادرٌ على كلِّ شيءٍ. فأبعِدْ عَّني هذه الكأس”، ولكن لا كما أُريدُ أنا { الأنسان } بل كما تريدُ أنت { الله }”. وأضاف :”.. الروح راغبة { جاهزة} لكنَّ الجسدَ ضعيفٌ { يرفض}” (مر14: 36-38).

ليست هذه المرَّةَ الأولى يُذَّكرُ فيها ابليسُ يسوعَ بقساوة الألم الذي ينتظره، وأنَّها لا تُجدي نفعًا لأنَّ الناس لن يُقَّدروا موقفَه، مُحاولاً بذلك ردَّ يسوع عن طاعة الله. لقد سبقَ يسوعُ فعبَّرَ عن قلقه بهذا الشأن عندما قال :” نفسي قلقة، وماذا أقول : نَجِّني من تلك الساعة “. ثمَّ يستطردُ حالاً :” ولكن ما بلغتُ تلكَ الساعة إلا من أجل ذلك”(يو12: 27). ساعة الشهادة على الحَّق ودفع ثمن ذلك بالألم والموت. الأنسان ، ويسوع يمَّثله ويتصَّرف بأسمه، يرفُضُ الألم حتى ولو ثمَنًا عن خطأِه وتمَّرُدِه. يريدُ العودة الى حياة المجد والراحة عند الله. وابليس الذي أسقطه عن مجده وآستعبَدَه يُطالبُ فِديةً مقابل تحريرعبدِه. والفديةُ دمُ الأنسان عِقابًا له. والله عادلٌ يوافقُ على الفدية. وقرر التجسدَ ليدفع بجسده الأنساني تلك الفدية ويُنقِذَ حياة الأنسان. وأفشَلَ بذلك خُطَّة ابليس في إبادة الأنسان. ويشعر يسوع في ناسوته بضراوةِ الألم وقساوته. وهو شخصيًا بريٌ من خطيئة أبِ البشرية. ولكنَّه مُستعِّدٌ، طاعة للعدل والحَّق، ولإظهار جسامة خطيئة عصيان الله، أن يدفع الثمن بدمه لآنقاذ حياة الأنسان وتحريره من قيد ابليس. ويتمَجَّد اللهُ بذلك ويخزى ابليس ويتنَعَّم الأنسان بالراحة والهناء.

فما يحدث في بستان الزيتون وعلى الصليب، وحتى ما جرى خلال حياة يسوع الأرضية ، ليس إزدواجية الحياة عند يسوع بل تواصلَ إتّحاد الناسوت باللاهوت فوحدة الإرادة والعمل في الله الواحد :”..من الله خرجتُ. وما أتيتُ من نفسي بل هو الذي أرسلني” (يو8: 42). و كذلك” لا يعملُ الأبنُ شيئًا من عنده، بل يقولُ ما علَّمه الآب “(يو8: 28). وأيضًا :” الروح المُعَّزي الذي أُرسِلُهُ إليكم منَ الآب، روحُ الحًّق المُنبثِق من الآب ..” (يو15: 26). فيسوعُ والآب واحد (يو10: 30). فما يعمله يسوع هو عمل الآب في نفس الوقت. ويجب أن يكون أيضًا عمل الأنسان لأن يسوع إبنُ الأنسان ويُمارسُ دورَه. فلجوء يسوع إلى الله يُفهمُنا أننا نحن إخوة يسوع في الناسوت نبقى صورة الله، وحيثُ تضعفُ الصورة يقدِرُ اللهُ أن يعمل. يبقى اللهُ مصدرَ قوةِ الأنسان يحميه ، يُنقِذه، يُعينُه ويُحييهِ.

وما حدَثَ في بستان الزيتون يعني أيضًا الأعترافَ بأنَّ الله أدرى بحقيقة كلِّ شيء وبما هو حَقًّا مصلحة الأنسان، فعليه أن يثق بالله ولا يستسلمَ لإغراءات الشيطان، بل يُتَمِّمَ مشيئة الله ويتشَبَّثَ بالمجد الذي يَعِدُهُ به. وأن يتعَّلم الناسُ ذلك من يسوع الذي صمد في الحق وفضَّلَ الطاعة لله، وتَحَّدى الموت. ويتعلموا أيضًا أن يلجَأُوا الى الله، في ضيقهم وشِدَّتِهم، ويتشَدَّدوا بإيمانهم، ولا يتخاذلوا أمام آلام الزمن العابرة مهما ثقُلَتْ أو قسَتْ، لأنَّ حضورَ اللهِ معهم يُغَّلبُهم عليها، والمجدُ الذي ينتظرهم يُخَّفف وطأَتَها.

لماذا لم يصرفها بنفسِه عن نفسِه ؟

 وكما يبقى لاهوت يسوع مُتَّصِلا بناسوتِه، يبقى ناسوتُه أيضًا قادرًا بلاهوتِه على كلِّ شيء. فلا شَّكَ من أنَّ يسوعَ كان قادرًا على إنقاذ نفسِه. وقد أكَّدَ مِرارًا بأنْ ” ما من أحدٍ ينتزعُ حياتي منّي. بل أنا أُضَّحي بها راضيًا. فلي القدرةُ على أن أُضَّحيَ بها، ولي القُدرةٌ على أنْ أسترِدَّها. هذه الوصية تلقيتها من أبي” (يو10: 18). ولكن لماذا لن يُسعفْ نفسَه بنفسِه ليتمَّلَصَ من الموت كما سبقَ وفعلَ مرّاتٍ عديدة ؟(يو10: 39؛ 8: 59؛ لو4: 29-30). أو لماذا لم يستجبْ له الآب، كما إستجاب له فأقام لعازر بناءًا على طلبه؟. ويسوع واثقٌ من أنَّ يستجيبُ له دائمًا؟ (يو11: 42). هنا على المؤمن أن يختليَ في داخِلِهِ ويتأمَّلَ في شخص يسوع ورسالته لـيجدَ الجوابَ الشافي لكل أسئِلتِه.

ها أنا آتٍ لأعمل مشيئتك !

صرَّح يسوع مرارًا أنه سيتعَذَّب ويموتُ صلبًا ويقوم، وكأنَّ هذه الأفعال كلَّها فعلٌ واحد. ومَيَّز وأكَّدَ أنَّه ” ينبغي لآبن الأنسان أن يُكابدَ الألم والموت ليتسنى له دخول المجد” ذاكرًا النبوءات التي تحَدَّثت عنها (لو24: 26-27، 44-46) ومُشَّدِدًا على وجوب إتمام تلك النبوءات (متى26: 54). يسوع يدخل حلبة الآلام عن معرفة ورضًى وتصميم. وهو يعرفُ أنَّ آلامه عنصرٌ أساسيٌّ يدخل قلب التصميم الألهي به يُتِّمُ الفِداء، وبه أيضًا تُمَّددُ الكنيسة الفداء لجميع القبائل والأجيال البشرية (كول1: 24؛ في1: 29-30). لو لم يشرب يسوع كأس الآلام ولم يمُتْ لما تَّمَ الفداء. ومُهِّمةُ يسوع، الذي أرسله الآب، أنْ يُخَّلِصَ العالم (يو1: 17؛ 12: 47). هكذا آمن به الرسل والذين آمنوا على يدهم أومن بعدهم :” نراه مُكَلّلاً  بالمجد والكرامة لأنه إحتمل ألم الموت. وكان عليه أن يَذوقَ الموتَ بنعمةِ الله لخيرِ كلِّ إنسان” (عب2: 9؛ يو4: 42).

وكان الفداءُ يتطلبُ ذبيحة إذ ” لا مغفرة ـ فداء ـ بدون إراقةِ دم” (عب9: 22؛ أح9: 15-18). وإذ لم يرتضِ اللهُ المُحرقات والذبائح الحيوانية كَفّارةً للخطايا، عندئذٍ قلتُ: ها أنا آتٍ لأعمل مشيئتك” (عب10: 6-7). فالرب يسوع، الأبن الألهي، قدَّم نفسَه منذ الأزل قربانًا كفّاريًا عن البشر. وقدَّمه بصموده في الحق وتحَّديه للكذب والكُرهِ والعنف عارفًا أنه يدفع ثمن ذلك للناس الجهلة والقادة العميان والمنافقين. وقرَّب ذبيحتَه ليُزيل خطايانا ويفتح لنا طريق نور الحق والبر(عب2: 17-18؛ 7: 27؛ 9: 28). نعم بقربانه الدموي كسب لنا فداءَا أبديًا (عب9: 12). لقد تعَّلم ” بما لقيه من الألم ” الطاعة لله و” صار لجميع من يُطيعونه عِلَّة خلاص”(عب5: 8-9؛ 7: 25)،لأنَّ طاعة الله أفضل ذبيحةٍ (1صم15: 22). وكيف بالطاعة إذا رافقتها ذبيحةُ الأرادة حتى سفك الدم؟.       

لقد قبل يسوع بحكم الله لمحو شَّر الأنسان بأقسى الآلام، وكان لصُّ اليمين النموذجَ الأمثل لهذا الحكم. بآلامه على الصليب كفَّرعن ذنوبه، وبإيمانه بالمسيح واللجوءِ إليه نال الخلاص . لذا رضيَ يسوع أن يتحَمَّل حالة البُعدِ  والتخَّلي والنبذ في أقصى مرارتها. لقد “إمتحنه الله في كلِّ شيء، ليكون شبيهًا بإخوته، فيُمكنُه أن يُغيثَ المبتلين بما أُبْتُليَ به هو نفسُه ” (عب4 :15). ويُصبحُ المؤمنون به شُركاءَه فيتقاسم معهم الكفّارة والفداء والمجد (عب3: 14). فقد  إتَّحدوا به منذ أن لبسوه بالمعمودية (غل3: 27)، فماتوا عندئذٍ معه (رم6: 3-4)، وصلبوا جسدهم بكل ما فيه من أهواء وشهوات (غل5: 24)، ليقوموا معه أيضًا لحياةٍ جديدة (رم6: 4-5؛ في3: 11). فمن المسيح ومثله يتعَّلمُ المؤمن أن يطيع الحَّق ولا يترَّدد حتى أمام الموت لأنه يعلم أنه ينالُ عندئذ مع المسيح، مثل لص اليمين، المجد والكرامة.

لا كما أريد أنا بل كما تريد أنت !       

كانت عبارة ” أبعد عني هذه الكأس” صرخة إيمان وتوسُّل. ودعوة لكل مظلوم متألم و متضايق أن يستغيث بالله في معاناته وعندما يشعر أنَّه سيغرق إذا لم تصِلهُ نجدةٌ. ويستغيث بالمسيح نفسِه هو الذي أُبتُليَ قبله وعرف سبيل النجاة: الألتجاء الى الله. خلق الله الأنسان للراحة والفرح. وإذا وقع في ضيق وتاه وكاد أن يفقد الحياة، بسبب أخطائه أو لعِداء ابليس له، فلن يُنقِذَه غيرالله الذي يُحِّبُه. لكن الله لا يتحَّملُ عوضًا عنه عقاب شروره التي نهاه عنها بل يقبل آلامه تكفيرًا عن آثامه فيُنقذُه الله من الهلاك الأبدي. لصُّ اليمين إعترف لرفيقه أنهما يتعَّذبان عدلا ويدفعان ثمن آثامهما. رضيَ بحاله وقبل تحَّدي الشَّرعليه بالموت. لكنَّه إلتجأ الى يسوع/ الله ليرحمه فلا يخسر الحياة الأبدية. فعَّبرَ يسوع عن هذه الحالة التي قد يمُرُّ بها كثيرون، لاسيما عند ساعة الموت، وهي أضعف وقت في الحياة. يسوع قَبِلَ الألم تحَّديًا للشر وتكفيرًا عن خطايا البشرية جمعاء، وطلب العون من الله. إعترف بضعف الأنسان حتى عرقَ دمًا لشدة الألم وبعدالةِ الله فآستسلم لأرادته حتى جاءه العون،” ملاكٌ من السماء يُشَّددُ عزيمته” (لو22: 43-44). وأعطى بذلك مثلاً رائعًا للأنسان في الثقة بالله و الأستسلام لمشيئته والصمود في صراعاته من أجل الحق لاسيما في أقسى أوقات حياته و أضعَفها.

ونتيجة لهذا الصمود في تكميل مشيئة الله إنتصر يسوع على الشر وآستمَّر يدوسه، فطلب إخلاء سبيل تلاميذه لأنهم ليسوا معنيين بالقضية (يو18: 8)، ومنع مقاومة الشر بشر (متى 5: 38-39) وآستعمال العنف (متى26: 52)، وسَلَّى المبتلين والمحزونين (لو23: 28)، و أعاد الرجاء للبائسين اليائسين في الحياة (لو23: 42-43)،وغفر حتى لأعدائِه (لو23: 34) ، وضمن مجد القيامة لنفسِه ولكل الراقدين على رجاء قيامته هو.