صلاةٌ أو تضحيةٌ من أجل المَـيِّت

أهلا وسهلا بالأخ وليد عبدالمسيح

أرسلَ لي الأخ وليد فيديو لأبونا إرميا وطلب مني أن أشاهده وأُعطي رأيي فيه. جاءَ فيه :

ردَّ الأب المحترم على سؤال وُجِّهَ اليه يقول :” لو عملتُ خيرًا بآسم شخصٍ مَيِّتٍ ، هل هذا مقبولٌ، وينفعُ المَيِّتَ ؟”. فأجاب الأب المذكور:” لا . غيرُ مقبول . ولا ينفع”. وبرَّرَ جوابَه بشاهدٍ يقول :” ليس في الموتى من يذكرُ، ولا في الجحيم من يشكر”(مز30: 9-10). فقال ” ومتى وُجد النَّصُ بطُلَ الأجتهاد”،” فلا خلاصَ هناك. الخلاص على الأرض. بعد الموت ينتهي عملُ الخلاص. وبعد المسيح لا تضحيةٌ ولا تقدمة “، وأضاف:” مع الموت يُغلَقُ لنا بابُ الخلاص. ينتهي عمله ” . و ذكر أيضًا ردَّ ابراهيم على الغني :” بيننا وبينكم هوَّةٌ عميقة لا يمكن إجتيازها “(لو16: 26)، وقال:” تتوقف حياة الأنسان بخروج روح الميِّت”. فالصلاة من أجل الموتى تبقى تعبيرًا فقط عن تمنياتنا. لأنَّها لا ترفعُ مقام من في السماء ولا ينتقلُ إليها من في الهاوية “.

لا تضحية كفارّية بغير المسيح !

ينقلُ ابونا إرميا الأيمان البروتستانتي، وهم لا يؤمنون بغير حرف الكتاب، وينكرون وجود المطهر. نعم يؤَّكِّدُ الكتابُ المقَدَّس أن الخلاص يأتي من موت المسيح الكَفّاري من أجل البشر، وأنَّ الأيمان به، العامل بالمحبة هو الذي يقود الى الخلاص(غل5: 6)، لأنَّ يسوع وحدَه هو الوسيط بين الله والأنسان” (1طيم2: 5)، و” لا خلاصَ إلا بيسوع. إذ ما من اسمٍ آخر تحت السماء وهبه الله للناس ، نقدرُ به أن نخلص” (أع4: 12). ولا يختلفُ عليه إثنان من المُعتَمدين بآسمه. إكتفي ابونا إرميا بذكر شاهدين من الكتاب المقدس ليوَّكدَ وجهة نظره دون أن يهتم بنصوص أُخرى تُعطي كلَّ أبعاد الموضوع. والتي بدونها يظهر نقصٌ في النظرة المعلنة.

إستشهدَ بالمزمور 30 ونقله كما أعلاه. لكنَّ الترجمات الأخرى تقول :” إليك يا رب أصرخ …أيُّ نفعٍ لك من موتي؟. من هبوطي الى الهاوية؟. فهل الترابُ يُسَبِّحُ بحمدِكَ، ويُحَدِّثُ فيُخبرُ بحَقِّكَ؟ “. بينما هو المز146: 3-4، الذي يقول :” لا خلاصَ عند آبن آدم. تخرجُ روحُهُ فيعودُ الى التراب. وفي ذلك اليوم تبيدُ مطامحُهُ “. فتركيزُ المقال على المَيِّت الذي تحَّدَدَ مصيرُه وليس على الله وموقفه. وأعلن الحكم مثل أيٍّ قاضٍ أرضي وليس كمشيئة المسيح المخلِّص. كما فعل الفريسيون الذين حكموا على الزانية بالرجم، في حين، دون أن يُبَرِّرَ فعلها، عَـلَّمَ أنَّ الحلَّ ليس بإهلاكها بل بالتكفير عما سلف ودون العودة اليه. لم يحكم مثل البشر، بل كإلَـهٍ يُحِّبُ الخلاص لجميع الناس، ويساعدُهم عليه. كما يبقى المسيح المُخَّلصَ الوحيد كذلك يبقى وحده الحاكمَ العادل الرحوم. وكلُّ صلاةٍ أو تضحيةٍ تُقَرَّبُ بإيمان عن الموتى أو الأحياء تأخذ قوَّتها من ذبيحة المسيح ومن مشيئته. وقد وعد أن يستجيبَ لها (يو14: 13؛ 16: 23-24). فهو بذل حياته عنا بسبب حُبِّه العظيم لنا وطلب منا أن نُحِّبَ بعضنا مثله قائلا:” ما من حُبٍّ أعظم من حبِّ من يبذل نفسَه عن أحبائِه ” (يو15: 13). ويبقى موتانا أحِّباءَنا كالأحياء، تمامًا كما مات المسيح من أجل كلِّ الناس، الأموات والأحياء. وتقديم تضحية من أجل غيرنا ليست أعظم من تقدمة الذات والموت من أجل من نُحِّب. وهناك نصوصٌ أخرى كثيرة تُبَّينُ ما خفيَ على البشر.

1* تقديم ذبيحة خطيئة عن الموتى ( 2مكابيين 12: 39-45)

إكتشف القائذ يهوذا المكّابي ” تحت كل جُثَّةٍ (من جنوده القتلى ) تماثيل صغيرة من أصنام آلِهَةِ يَمْنـيَّا مما تُحَّرمُه الشريعةُ “. بجانبِ إيمانهم بالله الواحد إلتجأوا في الحرب الى تعويذة شعبية دون أن يعوا جسامة فعلهم. لم يَدِنْهم قائدُهم حَدَّ نبذِهم. لم يَرمِهم على المزبلة. بل :” أخذوا يُصَّلون و يبتهلون الى الله أن يمحوَ تلك الخطيئة “. كانوا يُدافعون عن وطنهم وعن شريعة الله، ببراءة النيّة. ثمَّ ” جمَّعَ من كل الحاضرين تَبَّرُعًا … وأرسله الى أورشليم ليُقَدَّم بها ذبيحةً عن الخطيئة، وكان ذلك خير عملٍ وأتقاهُ لأيمانه بقيامةِ الموتى … ولو لم يعتبر أنَّ الذين ماتوا أتقياءٌ، رغم فعلهم، ينالون جزاءًا حسَنًا، وهو رأيٌ مُقدَّس وتقي، لهذا قدَّم الكفارةَ عن الموتى ليغفِرَ الرَبُّ خطاياهم”. صلاة وذبيحةٌ تكفيرية من الجنود عن رفاقهم الشهداء. أ ليسَ هذا أيضًا نصٌّ يُبطلُ الأجتهاد ؟!.

2* يخلُصُ كمَن ينجو من خلال النار !

بالمقابل كتب مار بولس للكورنثيين أنَّ الأعمالَ بالنيَّات:” يُمتَحَنُ عملُ كلِّ واحد. فمن بقيَ عملُه الذي بناه نالَ أجرَهُ (خَلُصَ). ومن إحترقَ عملُه خسِرَ أجرَه (لم يكن جهادُه مبنيًّا على أساس متين. لكن نيَّته كانت صافية وصادقة. لم تكن خطيئته عظيمة. أو تاب عنها، ولم يلحق أن يُحَّسِنها). وأمَّا هذا فيَخلُصُ، ولكن كمَن ينجو من خلال النار” (1كور3: 13-15). أي يتألم ويُكَّفر عن جهلِه وغبائِه، مثل جنود يهوذا الأغبياء. هكذا قد لا يكون فعلُ المؤمن بالمسيح ، جهادُه، جَيِّدًا أو صحيحًا لكنه ليس أثيمًا لدرجة الحكم عليه بالهلاك الأبدي. خطيئته قد غُفرت له لكن تبعياتها تُكَّلفهُ التنقية والتطهير من شوائبها التي شوَّهت صورة اللهِ فيه فيُنَّقيها قبل ” المشاهدة وجهًا لوجه ” (1كور13: 12). وهذا أيضًا نصٌّ يُبطلُ الأجتهاد.

3* بالموت يتقرر مصيرُ الأنسان !

لا شكَّ انَ الموت حَدٌّ فاصلٌ بين حياة الأرض ومستلزماتها، والأبدية. هنا حياةٌ جسدية، أمَّا هناك فحياةٌ روحية. لمَّا أوجدَ الله الأنسان خلقه صورة له وأعطاه حُرَّية الأختيار بين أن يعيش كالملائكة فيُنَّفذَ مشيئته التي تضمن له الحياة السعيدة والنعيم المنشود، أو أن يتصَرَّفَ برغبته الخاصّة ويختار أفعاله ويحَقِّقَ ذاته ويكون مسؤولا عن أفعاله. طالُبه الله أن يحترمَ حياته ويحميها لكي يبقى صديقًا له ومرافقًا في الفردوس، وإذا أخطأ فسيُحاسبُه على ذلك. ولمَّا أخطأ الأنسان لم يُبِدْهُ ولا حكم عليه بالعذاب الأبدي. لأنه عرفَ أن نيَّته كانت صافية وأنَّ ابليس دفعه الى الشر ليُبيدَه. غفر له سلوكه وتركه يُكَّفر عن خطيئته و وعدّه بمُخلص يُكَّفرُ عن خطيئته ويُعيدُه الى صداقة الله بوعيه ورغبته الحُرَّة. وموت الجسد سيقوده إمَّا الى الحياة مع الله ( في ملكوت السماء) أو بعيدًا عنه إلى الهلاك مع عذاب الندم المُحرق و المُستَّمر(في الجهنم).

يهلك الخطأةُ الكبار المُصِرَّون على رفض الله، ولا يندمون على أفعالهم السيئة، خطاياهم، ومَثلُ لعازر والغني واضحٌ. كما عاش كلُّ واحدٍ منهما في صِلةٍ مع الله ومشيئته ، أو بعيدًا عنه وفي ملذات الدنيا الجسدية، نال ما صبا إليه. لصُّ اليمين عاش شرّيرًا لكنه عن جهلٍ وليس عن تصميم رافضًا الله. على الصليب إعترف بخطاياه وتاب وطلب الرحمة فخلص (لو23: 40-43)، كذلك الأبن الضال خطيءَ، تاب وكَفَّر(لو15: 20-24). أمَّا لعازر أخ مرتا ومريم ، فكان إنسانًا بارًّا. مات ولم يدخل الأبدية. بعد أربعة أيام، كاد فيها أن ينتن،

عاد الى الحياة بأمر إلهي (يو11: 38-44). والسؤال أين كان في تلك الأيام الأربعة؟. كيفَ قضاها؟. لا كان في السماء ولا في الجهنم!. مثله أين كان أبرارُ العهد القديم وهم لم يهلكوا ولا عاينوا وجه الله ؟!. لا بُدَّ وكانوا في حالةٍ مختلفة عن كلا الخلاص والهلاك. لا ينعمون بل يتألمون لآنهم لا يرون الله بسبب تمَرُّدهم القديم. لكنهم لا ييأسون. وفي نفس الوقت يتعَزَّون لأنهم لم يهلكوا وخلاصُهم مضمون. سيقومون للحياة. فالأسفُ والرجاء يتداخلان. قال أبونا إرميا أن مَن ليس في السماء لن يرجع للحياة. لكنَّ هؤلاء عادوا. قال مار بطرس :” مات يسوع في الجسد (كما مات أولئك الأبرار)، لكنَّ اللهَ أحياهُ في الروح، فآنطلق بهذا الروح يبَّشرُ الأرواح السجينة فيما مضى حين تمَهَّلَ صبرُ الله ..” (1بط3: 18-20). وقال عنهم متى :” تشَّققت الصخور، وآنفتحت القبور فقامت أجسادُ كثيرين من القِدّيسين الراقدين ، وبعد قيامة يسوع خرجوا من القبور ودخلوا الى المدينة المقَدَّسة وظهروا لأناس كثيرين “(متى27: 52-53). وهذه ايضًا نصوصٌ تبطلُ الأجتهاد. من أين أتوا إذا كانوا لا هالكين ولا خالصين؟. لا في السماء ولا في الجهنم؟.

إذا يجب أن نُفَّكر ونُدرك تعليم الوحي أنَّه هناك حالة خاصَّة ومؤَّقتة: لا هي حلٌّ ثالث ولا بديلٌ عن الأساسيين، حيثُ لا يهلكون، ولا ينعمون بالخلاص حالاً بعد موتهم. هم مبدئيًا خالصون ولكن لا ينعمون رأسًا بالراحة و المجد السماويين، لا يشاهدون الله وجهًا لوجه، بل ينتظرون برجاء دخول حياة السماء مع المسيح والقديسين المُخَّلصين. وهذا التأخير ليُكَّفروا عن ذنوبهم التي تابوا عنها ولكن لم يلحقوا أن يتطهروا من وسخها، فيتلظون بنار الأسف والأسى. يكونون كالسجناء الذين ينتظرون الفرج بعد دفع ديون خطاياهم، بعد أن يستعيدوا قداسة نفوسهم كما خلقت عليه. كما يلبق بالله الذي ينتطر رجوع  أمانتِه وهبَتِه يوم خلقهم. هذه الحالة تُسَّميها الكنيسة ” المطهر”. سماها مار بطرس ” سجنًا” (لأن السجين لم يُحكم عليه بالموت وسينتهي سجنه، يخرج منه). كما قال يسوع نفسُه :” سارع الى إرضاء خصمك.. لئلا يسَّلمك الى القاضي والقاضي الى الشرطي فتُلقى في السجن. الحَّقَ أقول لك لن تخرجَ منن هناك قبلَ ما توفي آخر درهم ” (متى5: 25-26). إنه حالةُ وفاء الدين. هذا أيضًا نصٌّ يُبطلُ الأجتهاد.

في حالة المطهر لا فقط لا يقوى الميِّتُ نفسُه أن يُغَّير وضعَه ويُحَسِّنَ سلوكه، بل لا يمكن أيضًا غيره من الموتى أن يُسعفوهُ. هكذا قال ابراهيم للغني الهالك بعد أن أُعلن حكمُه و إستقَّر حالُه. ولكن ايضًا حالا بعد الموت وقبل صدور الحكم. كما قالت العذارى الحكيمات للجاهلات، بعد موتهن وقبل صدور الحكم بوصول الختن وغلق باب العرس، أنه لا يُمكنهن أن يساعدنَهن. وبعدما رُفِضَت الجاهلات لم يتغير الوضع. نوَّهَ ابونا إرميا بأنَّ الكنيسة تقدر وحدها أن تُصَّلي من أجلهم ، إنَّما حدد الصلاة أيضًا بأنها لا تتعَدَّى حدود” التعبير” فقط ، صلاتها لا تنفع إلا لتكحيل رجاءٍ ميؤوسٍ منه. فقال :” تشبه باقة ورد نقدمها للمريض . الورد لا يُشفي، هكذا الصلاة والتضحيات من أجل الموتى لا تنفع” ؟!.

أمَّا الكنيسة الكاثوليكية فتؤمن بحالة التطهير وإستنادًا الى الكتاب. إضافة الى النصوص المذكورة  ذكر مار بولس حالة مارستها كنيسة كورنثية وهي أن يعتمد ثانيةً مسيحي مُعَمَّد من أجل قريب أو صديق مات بدون عماد (1كور15: 29)؟. وليست هذه التصَرُّفات إجتهادًا بل ثمرة الأيمان بكلام الوحي. فقد قال الرب:” كلُّ خطيئةٍ وتجديف يُغفرُ للناس. أمَّا التجديفُ على الروح القدس فلن يُغفرُ لهم… لا في هذه الدنيا ولا في الآخرة ” (متى12: 31-32؛ 2مكا12: 45). وهذا أيضًا نصٌّ يُبطلُ الأجتهاد.

الخطيئة تُغفرُ هنا بالتوبة قبل الموت. فماذا بقي ليُغفرَ بعدَ الموت إن لم يكن سوى تقليص مدَّة العذاب في المطهر أو العفو عنه ؟. وبما أنَّ الميِّت لا يقدر أن يستحِّقَ بجهده الشخصي هذا العفو، فلا بُدَّ من وجود جهةٍ تقدر أن تُسعفَه مثل الكنيسة أو الأقرباء والأصدقاء بتحَمُّل جزءٍ من عبئِه!. وكذلك لماذا يُصلِّي القديسون والمخَّلَصون ويرفع الملاك صلوات الموتى مثل البخور أمام الله في كؤوس من ذهب (رؤ4: 8) إذا لم تكن تنفع البشرية؟. وإن كان مَن في السماء يقدر أن يتشفعَ فينا بصلواته عند الحمل الألهي نقدر نحن أيضًا أن نُسعفَ الأنفس المطهرية عن طريق نفس الحمل الألهي، رأس جسدنا السرّي يسوع المسيح، الذي يربطنا مع الأموات في كنيسةٍ واحدة لا تنفصم.

ولمَّا ظهرت مريم العذراء سنة 1917 في فاتيما للرؤاة الثلاثة أرتهم يوم 13 تموز منظرًا من المطهر للحظاتٍ فرأوا نفوسًا تتألم، وطلبت منهم أن يُصَّلوا من أجلهم لينتهي عذابُهم سريعًا، وأن يُقَدِموا أيضًا، لتخفيف آلامهم، تضحياتٍ تُكَّلفهم مالاً أو راحةً، برغبة مشاركة الحياة في السَرّاءِ والضَرّاء، كما نفعله مع أحياءٍ هم في حاجة.

فالأنفس المطهرية سجناءٌ لوقتٍ محدد يدفعون فيه دينهم ويخرجون. وكما يمكن للسجين أن يُسعِفَه أهله وأصدقاؤُه، أن يدفعوا غرامةً عوض السجن، هكذا يقدر المؤمن أن يُخَّفف من عذاب أنفس المطهر بتحمُّل بعض العذاب بآسمهم. هكذا وصَّت مريم العذراء نفسُها. وبعمل ذلك نشبه  القائد يهوذا المكّابي. نحن البشر نرى سوءَ الناس وشَرَّهم، ونُسرع في محاسبتهم وعقابهم لأننا لا نعرفُ داخل المذنب ومدى مسؤوليته عن ذنبه، وما هي ظروفه. نُطَّبق عليه ” سُنَّـتَنا “. أما الله الذي يفحصُ الكلى والقلوب ويُمَّيز حَقًا الرحمة من العدالة، ومحبته أعظم من محَّبتنا، فقد أوحى إلينا بعض الخطوط لحقائق ما بعد القبر، وعلينا أن ننتبه إليها ولا نتقوقع في فكرنا ومنطقنا الأنساني المحض.