إن الحقيقة التي ندعوها أفخارستيا تتأصل في العشاء السري (لو22/19، اكو 11/23، مر14/22). هنا وبكلمات المسيح بالذات، يعطي يسوع جسده مأكلاً، ودمه مشرباً تحت أشكال الخبز والخمر الملموسين. إن الجسد، حسب الأستعمال السامي، يعني الحقيقة الجسدية الملموسة في شخص يسوع. وانطلاقاً من الكلمة عن الخبز، إن يسوع يُدعى عبد يهوة الأسمى (أش 35/4-12). ومعنى الدم يُعطى بصورة أدق، هو الدم الذي اراقه يسوع، ليؤسس عهداً جديداً مع الله (أش 42/6؛49/8). ويسوع هو في آن واحد معتبر كمستوجب الموت، موت الدم.
عندما نعمل الأفخارستيا ونقبلها، فإن الكنيسة (وكل المؤمنين) تعمل حقاً افخارستيا، أي أنها تقدم فعل عرفان جميل وشكر، كنسياً مميزاً وأعلى ما يكون من الأفعال، بمعنى أنه لا يمكن ذلك إلا بالكنيسة، إنما هو مفروض عليها أساساً كشريعتها الأساسية. فإذا كان المسيح حقاً يقربها وبقبولها له حتماً كطعام، فإنها تعطي وتكمل جواباً شكرياً لتقدمة النعمة الإلهية التي هي أقوى ما يكون، لأن حياة يسوع المحبوب منذ الأبد والمقبول نهائياً في الجسد والدم تعبر عنها التعبير الصادق.
إن نتيجة الأفخارستيا ليس لنا أن نصورها كنتيجة مجرد فردية تتأتى في كل مؤمن وبها كل واحد يشترك شخصياً في حياة يسوع المسيح ويقبل النعمة لتحقيق هذه الشركة في حياة مسيحية (أي محورها المسيح في المعنى الحصري، حياة تمثل حياة المسيح بالمحبة والطاعة والعرفان تجاه الآب بالغفران والصبر). هذه النتيجة هي قبل كل شيء كنسية (اجتماعية): في الأفخارستيا إن نعمة الإرادة الإلهية الخلاصية الشاملة والتي لا يعود عنها الله، هي حاضرة في هذا العالم، ملموسة ومنظورة، فإن الأفخارستيا هي التي تجعل من جماعة المؤمنين المنظورة (الكنيسة) علامة لا تعني النعمة والإرادة الإلهية الخلاصية الممكنة فحسب، بل هي الحقيقة الملموسة والدائمة لهذه النعمة ولهذا الخلاص. إن سر الأفخارستيا وسرية الكنيسة هما في ارتباط وثيق جداً.
الأفخارستيا في قلب الكنيسة والمسيحية، بها يحضر المسيح شخصياً لشعبه في السر الفصحي. يقول المجمع الفاتيكاني الثاني: (في الليلة التي أسلم فيها، ليلة العشاء الأخير، وضع مخلصنا ذبيحة جسده ودمه الأفخارستيا، كي تستمر ذبيحة الصليب عبر الأجيال حتى مجيئه، وكي يستودع كنيسته ذكرى موته وقيامته سر الحب وعلامة الوحدة، ورباط المحبة بوليمة فصحية حيث يؤكل المسيح فتمتلئ النفس نعمة وتعطى عربون المجد الآتي) ل.47.
فلما كان المسيح هو قلب الحياة الكنسية والمسيحية، إذ إنه، بتجسده وعمله الفدائي شفانا ودعنا إلى الأشتراك في حياة جديدة، تربطنا بعضنا ببعضن كأبناء الله معدين للأشتراك في حياة الثالوث، أصبحت الأفخارستيا هي محور الحياة المسيحية، فيها يعطينا ذاته شخصياً، ونستولي عليه شخصياً. لهذا السبب، فإن “ما تبقى من الأسرار وكل الخدم الكنيسة وأعمال الرسالة، له صلة وثيقة مع القربان المقدس، وإليه يتجه. فالقربان المقدس يحوي كل خير الكنيسة الروحي، أي إن المسيح هو فصحنا، وهو الخبز الحي، وهو الذي يهب الحياة للبشر بواسطة جسده الحي والمحي بالروح القدس، داعياً وحاملاً إياهم إلى أن يقرّبوا بالاتحاد معه ذواتهم وأعمالهم والخليقة كلها”. ح ك خ5
إن النعمة التي وهبت في العماد، وتقوّت في التثبيت، موجهة إلى الاتحاد بالمسيح القرباني والاشتراك في القداس، ذبيحة الخلاص، والأفخارستيا كما يقول القديس أغناطيوس الأنطاكي: “دواء الخلود”. فهي تكمل مفاعيل الشفاء الكائنة في سري التوبة ومسحة المرضى. أما سر الكهنوت، فهو موجّه إلى تقدمة الذبيحة القربانية، وأما سر الزواج فإنه يرمز إلى الأتحاد القائم بين المسيح والكنيسة بفضل الأفخارستيا..
من هنا يصح القول إن الأفخارستيا هي “سر الأسرار”. فإنها تدخلنا في سر الفداء كله، وتسلمنا كافة كنوزه، إذ هي تحقق حضور المسيح المائت، والقائم من الموت لأجلنا. وكما أن الأفخارستيا هي “ينبوع كل حياة مسيحية وقمتها ومحورها” (ك11، م أ ر 30/2) كذلك هي أيضاً ينبوع وقمة ومحور سائر الاحتفالات السرية والطقسية، بحيث إن هذه تفصل كنوز القربان اللامتناهية وتُجزّؤها، كما وهي تمديدٌ لغايات الذبيحة وتوسعٌ فيها: التسبيح، الشكر، التقدمة، الذبيحة، المطلب، الغفران.