أهلا وسهلا بالأخ لؤي صليوا يلدو
كتب الأخ لؤي يقول :” هل يجوز للكنيسةـ أيًّا كانت، أن تتـدَّخلَ وتأخذ الريادة في الأمور السياسية ؟. أم هذه هي سياسة الأحـزاب ؟
تدّخل .. قيـادة .. أداء واجب ؟
حتى نرُّدَ على السائل الكريم يجب أن نُمَّيز أولاً فنُحَدِّدَ معنى العبارات المطروحة. ما هي السياسة؟ ما هي الأحزاب ؟ ما هي الكنيسة؟. السياسة تدبير شؤون الحياة بأساليب تحمي الحياة فالمنفعة وتضمن الكرامة فالراحة. وتتحَّكم السياسة بالعلاقات الأجتماعية بين الأفراد أو الدُول. وتختَّصُ بنوع عام بشؤون الأقتصاد وتدبير الشؤون الأدارية، وتزاولُ سلطانها من خلال ثلاث هيئات رسمية هي: التشريعية والتنفيذية والقضائية. وتستند في حكمها على دستور ونظام بشريين محدودين. وتستمدُّ قوتها وسلطانها من الشعب. ولا تؤمن إلا بما هو محسوس، ولا تهتم بغيره. وتستبيحُ كلَّ أساليب الأدارة والتعامل مع الغير بحجة أو هدف صيانة حقوق المجتمع وتحسين أحواله.
أما الأحزابُ فهي تجَّمعُ أفرادٍ تتكَّتل حول فكرة مُعَّينة ومبدأٍ خاص، يختلف عن مجموعاتٍ أخرى، لممارسة السياسة والأدارة. الأحزابُ لا تهدفُ جمعَ الشعبَ كُلِهِ ولا تُمَّثِلُه ولا تخدُم الأفراد، بل تمَّثل وتخدمُ من ينتمون الى خيمتها ويتطَّوعون للنضال تحت رايتها. أي جُزءَا فقط من الشعب. يريدون قيادة الحياة الأجتماعية في إطار رؤيتهم للزمن والأنسان ووسيلة الخدمة. يقودون السلطة حسب مبادِئهم ويفرضون رؤيتهم بغض النظر إن كانت تخدم كل المجتمع أو جُزءًا منه. لأنَّ الحزبَ مرتبطٌ ومُقَّيَدٌ بالمباديءِ التي يؤمن بها ويناضل من أجل تطبيقها ونشرِها، حتى لو عارضَه القسم الأكبر من الشعب.
أما الكنيسة فهي أيضا تصبو الى خدمةِ الأنسان والى حماية الحياة لا في إطار الإقتصاد و السياسة، إنما في إطار كرامة الأنسان وسلوكه. إنها مؤسسة روحية، إلَـهية إنسانية، تعلن الأيمان بالله الخالق والمُدَّبر والمحاسب. تهدفُ الى قيادة العالم في الأخلاق الحسنة البَّناءَة في العدل والسلم والتضامن مُستمدة سلطانها من الله مباشرة ومستندةً الى مشيئته التي هي الحَّق الذي يضمن للأنسان أفضل حياة. هكذا بينما تهتُّم الأحزاب والسياسة بالحياة الزمنية والمادية تقَّلدت الكنيسة خدمة الجانب الثقافي والروحي والأبدي من الحياة. تحملُ رسالة توجيه الحياة في تعليم الحَّق وإرشاد الأنسان الى سلوك دربه وهو المحبة.
السياسة والأحزاب لا تهمهم المحبة ولا يبتغون الحَّق. بل يتبعون فقط ما يضمن تحقيق أهدافهم. أما الكنيسة فحتى تُحَّققَ خيرَ الأنسان تتمَسَّكُ بالحق ولا تحيدُ عن المحبة. الكل يدَّعي خدمة الأنسان. لكن الواقع يكشفُ مدى التزام كل جهةٍ ومدى نجاحِها في ما تدّعيه. الكنيسةُ لا تطلبُ ولا تمارسُ السلطة السياسية. لكنَّ واجبَها يُحَّتمُ عليها أحيانًا أن تتدَّخلَ في الشؤون السياسية لصيانة الحق وخدمةِ المواطنين. مثلاً: عندما تجتهدُ السياسة في زرع الفتنةِ والأنقسام من واجب الكنيسة أن ترفعَ صوتها لتعلنَ انَّ الحقَ هو في زرع المحبة والتآخي والتوالم والتعاون والتضامن. عندما تدعو السياسة الى العنف والقتل والأرهاب من واجب الكنيسة أن تقاوم هذه السياسات وتدعو الى السلم والرحمة والمسامحة. عندما تُسَّهل السياسة الطلاق والأجهاض والتمييز العنصري من واجب الكنيسة أن تناهضَها وتدعو الى الألتزام بالشريعة الألهية في حماية الحياة والتقَّيد بطبيعة الأنسان.
إنَّ الكنيسة هي مندوبة الله على الأرض ورسالتها أن تعلن وتدافع عما هو حقُ وبِرٌّ ومشيئة الهية. هذا لا يعني أنها تريدُ أنْ تتحَّكم بحُرَّية الأنسان كما تفعل السياسة والأحزاب. والدليل أنها لا تُقاصصُ من يُخالفُ تعليمها. وإن كان قد فعلها بعضُ القادة ، حتى بآسم الكنيسة، إلا إنَّ الكنيسة لم تنادِ يومًا بكذا تعليم، حتى ولا في زمن محاكم التفتيش. ولكن وجودَ الساسة والحزبيين في الساحة لا يعني أن يكُّموا فمَ الكنيسة. إن كان كلُّ واحدٍ من طرفه يخدمُ الناس ، يحُّقُ لكل واحد أن يؤَّديَ دورَه ويتعاون الجميعُ ” على البر والتقوى”. وبما أنَّ السياسة و الأحزاب، حتى القمعية، تؤمن وتعلن إحترامها لحرية الفرد فإذًا يحُّقُ لكل جهةٍ اجتماعية و هيئة نظامية أن تُبديَ رأيَها في ما يجري ، وتدلو دلوها في العمل ، وتعرُضَ خدماتها من أجل الحياة الأفضل. ليس كلُّ تدَّخلٍ سَّيئًا، إنما يكون أحيانًا لا فقط جَيِّدًا بل ضروريًا.
الريادة للأحزاب أم للكنيسة ؟
أمَّا القيادة المُباشرة للسلطة فما أعتقد أنّ يومًا ما طالبت بها الكنيسة. أما أن يكون قد وصلَ الى سُدَّة الحكم رئيسٌ روحيٌّ في ظروفٍ إستثنائية شاذة لمصلحةِ البلد فهذا لم يحصل نتيجة مبدأٍ إيماني بقدر ما فرضته الظروف الطارئة. أتذكرمثلاً المطران مكاريوس رئيس قبرص الذي إستلمَ قيادة البلد وأنقذه من خطر الأنقسام. وما أنْ ترك الرئاسة حتى تدهور الوضعُ السياسي، بسبب سوء الرؤية والنية لساسةٍ جدد، فآنقسمَ البلد. فريادة البلدان ليست حصرًا من حَّق الأحزاب. إنها من حَّق الناس / الأفراد الأولى بها رؤيةً وتنفيذًا. وهذه ميزةٌ في الأشخاص لا في المباديء.
إنَّ تعليمَ الكنيسة المُعلَنْ أنَّ مهمة رجل الدين المسيحي، أقله من وجهة نظرالكاثوليك، ليست قيادة السلطة بل الشهادة للمسيح بأسلوبٍ مُعَّين للعيش المشترك ، وإعلان الحق الذي يخدم الأنسان. للعالم قادةٌ مدنيين كفاية بل وأكثر من اللازم. إنه بحاجة الى قادة روحيين، شهود للمسيح على حقيقة الله وسيادته. و الشهادة واجبٌ وليس من حَّق البشر أن يُعيقوها عن أدائها. وأداؤُها ليس تدَّخلا في شؤون غيرها بقدر ما هي رسالة تُؤَّديها. وآستنادًا الى هذا التعليم، ترفُض الكنيسة لإكليروسِها الأنتماء الى أحزابٍ مُعَّينة لأنَّه مدعوٌ أن يُمَثِّلَ المسيح فيحتضن كلَّ الفئات الأجتماعية حتى الملحدة منها و يخدمها بإخلاصٍ ومحَّبة. إنه مدعُّوٌ الى توحيد صفوف الناس حول الله لا الى تجزئَتهم وتشتيتهم.
ما زلتُ أتكلم عن الكنيسة المؤَّسسة وليس عن أفرادٍ منها قد يخرجون عن هذا الطريق و يُسيئون التصَّرُف. وربما لا يسيئون التصَّرف لكن الساسة الذين يُحاولون أن يُحَّجموا الكنيسة ويُخرسوا صوتَها حتى لا تقلقهم بتوبيخ ضمائرهم يصرخون ويتهمون الكنيسة لتبرير أخطائهم وتمرير خِدَعهم وتحقيق أهدافهم. الكنيسة تشجبُ المواقف المشابهة و تدعو رجالها الى تجسيد حياة المسيح وسلوكه في مواقفهم وآلتزاماتهم. تدعوهم الى النضال من أجل الحق والى الجهاد في سبيل العدالة والسلام والى المنافسةِ في إظهار المحَّبة تحت راية المسيح وضمن قيادة الكنيسة. ومن يسلك هذا السبيل يُمَّثلُ الكنيسة لأنه يلتزمُ بتعليمها. وأما الذين يخالفونه فهم ليسوا منها، وليس عدلاً أن يُحسبوا على مِلاكِها ويُعكَسُ مردودُهم عليها حتى لو ظلوا يتزَّيون بِـزّيها.