الباعوثة : بين اللهِ والأنسان !

تقع دائمًا ، حسب الطقس الكلداني، غداة الأحد الخامس للدنح

تتلى علينا اليوم القراءات : يو3: 1-4: 11؛  رم9: 14-10: 17  ؛ متى6: 1-18

يــونان  !

يونانُ إبن أَمِتّاي، من جَتَّ حافِر، نبيُّ الله (2مل14: 25) عاشَ بين 800-750 ق.م. إنَّه عنصُرِيٌّ مُتعَّصبٌ لقومِه. يُكَّلِفُه اللهُ برسالةٍ لآشور عدوَّةِ دولة إسرائيل، يدعو فيها أشرار الدولة إلى التوبة، و يُنذِرُهم، إن لم يفعلوا، بهلاكِ عاصمتهم نينوى بمن فيها من الناس. يرفضُ يونانُ الطاعةَ لله لأنَّه واثقٌ من أنَّ اللهَ رحومٌ جِدًّا ويرأفُ بكلِّ الناس، وأنَّه يغفرُ لمن يتوب. ويونان لا يريدُ أن يرى أعداءَه الآثوريين على نفس المستوى معه، ويدَّعي فيُطالبُ بآمتياز شعبِه، لذا يرفُضُ أن يُعاملَ اللهُ الآثوريين مثل اليهود ويُساويَهم بهم في خيراتِه. هذه الفكرة الدينية غَذّاها اليهود بعد سبيِ الآثوريين لهم ثم الكلدان إلى أرضِ العراق، أرض جَدِّهم إبراهيم. ظلوا يُقَّدسون أمجادَ موسى ويجتَّرونها حالمين بأن يقفَ اللهُ إلى جانبهم فقط، وأن يفعلَ ذلك حتى لو كانوا خونَةً لعهدِه وشريعتِه، وضدَّ جميعِ الشعوب حتى لو كان هؤلاء صالحين. لا يجوز أن يغفرَ اللهُ ظلمَ أعداءِ إسرائيل.

يحاولُ يونان أن يتمَلَّصَ من أداءِ المهّمة التي يُكَّلِفُه اللهُ بها، فيتهَرَّب منهُ. لكنه يفشلُ. وكم بالأحرى لن يفلحَ في أن يفرِضَ هو مشيئتَه على الله. لن يستطيعَ أن يُجبرَ اللهَ على أن يتراجعَ عمَّا نواه وأمرَه به. شاءَ يونان أم أبى، إقتنعَ أو لم يقتنع، غضبَ أم فرِحَ، فسوفَ تكتملُ مشيئةُ الله، وعلى يد من إختارَه وكلَّفه بالخدمة، حتى لو إقتضى الأمر أن يُنقِذَه من الغرق بتوفيرِ حوتٍ يبلعُه، دون أن يهضَمَه ثم يُعيدُه الى اليابسة لتنفيذ المهمة.

اللـــــه  !

أمَّا الله ” فليس إنسانًا فيكذب، ولا كبني البشر فيندم. هل تراه يقولُ ولا يفعل، أو يتكلم ولا يُتَّمم كلامه “؟ (عدد23: 19). قال الله على فم اشعيا :” كلمتَي لا ترجعُ فارغةً إليه، بل تعملُ ما شئتُ أن تعملَه، وتنجحُ فيما أَرسلتُها إليه” (اش55: 11). ليس الله ضعيفًا ليساير الناس ويتخَّلى عن الحَّق، أوجاهلا فيتعلم ويُغَّير رأيه، ولا يُرائي الأقوياء فيُبَّررَ أخطاءَ المتسَّلطين والمتنفذين ومظالمهم على حساب العدالة والمظلومين والمغلوبين على أمرِهم. الله يعرفُ كلَّ شيء ويقدر على كلِّ شيء فلا يتوهم في أوامره ولا يغلط. إنَّه الكاملُ في كلِّ شيء (كو1: 19)، فلا :” يتغَّير ولا يدورُ فيرمي ظِلًّا” (يع1: 17). وعدَ الله أنه يغفر لمن يتوبُ عن آثامِه لأنَّه ” لا يُسَّرُ بموت الخاطي، بل بأن يتوبَ أمامه فيحيا “(حز18: 23).

و اللهُ أمينٌ لوعوده. فهل يُهلكُ مئات الألوف ممن ” لا يعرفون شمالهم عن يمينهم” أي لم يُلَّقِنْهم أحدٌ شريعةَ الله؟. هل يُحاسبُ ويقاصصُ جُهلاءَ لم تُعطَ لهم فرصةٌ ليتثَّقفوا، ولا أنار أحدٌ دربَهم، ويَغُّضُ الطرْفَ عمن كان يجب أن يكونوا نورًا ومنارةَ حَّقٍ وتخاذلوا ولم يُؤَّدوا واجبَهم؟. عرفَ يونان أنَّ الله لا يتصَّرفُ هكذا. بل يتصَّرف بعدلٍ ورحمة. ورفضَ مع ذلك الإنصياعَ لمشيئةِ الله. أرادَ أن يخضعَ اللهُ لرغبتِه هو. وأما هكذا تصَّرفَ بنو قومِه مع يسوع فارضين عليه ” سُنَّتَهم ” البشرية، نابذين شريعتَه الألهية؟ (متى 15: 3-9؛ مر7: 5-8).

اللهُ قادرٌ على تحقيقِ ما نواه حتى لو رفضَ كلُّ البشر ذلك. أما كان يسوعُ وحدَه واقفًا أمام حكّامِه، وحدَه يحملُ الصليب ويسيرُ به نحو الجلجلة، وحدَه مُعَّلَقًا على الصليب بسبب إصرارِه على قول الحق والعدلِ وخدمة الآخرين؟. أ  لم يقفْ وحدَه يُنادي بالمحبَّة والغفران بينما رفعَ الآخرون سيفَ الثارِ والأنتقام ورمحَ الحِقدِ والضغينةِ بوجهِ كلِّ من شَّقَ عليهم عصا الطاعة؟. أ  لم يعترض حتى تلاميذُه على كلامه وتخَّلى بعضُهم عنه بينما ظلَّ هو ثابتًا على أنَّ ما يقوله” هو روحٌ وحياة “؟ (يو6: 63). الله لا يخاف ولا يُحابي. لا يُبغضُ ولا يُهمل. ولا يبحث عن مصلحة ولا يتهَرَّبُ من واجب. فهو لا يقول إلا الحق، ولا يعمل إلا الخير. إنَّه أبُ الجميع ويريدُ لهم كلِّهم الحياة والخلاص. فلا توجد قوَّةٌ  تقدر أن تقفَ بوجه الله وتمنعُه عن تحقيق رغبتِه. لأنَّ رغبَتَه نفسَها لا تؤذي أحدًا بل تنفعُ الجميع. وهو أعطى شريعَته لكل البشر ويدعوهم جميعا الى الراحة (متى11: 27-30)، والتنَّعم معه في ملكوتِه (متى22: 2-14). ولأنَّ البشرَ كلَّهم يخطأون لا يتكلُ الله على حكم البشر ودينونتهم ليتعامل مع الناس،” من كان منكم بلا خطيئة فليتقدَّم ويرمِها بحجر” (يو8: 7). تعاملُه مبْنِيٌّ على حُبِّه الأبوي وصبره اللامتناهي وغفرانه، لاسيما على مقابلةِ الأنسان لله ومبادلتِه الحُبَّ بالحب، والتخَّلق بأخلاقِه (في2: 5)، والتحَّلي بأعمالِه (متى7: 21).

يـونـــان  !

إهتَّمَ يونان بـ” يقطينةٍ ” برّية، لم يزرعها ولا أسقاها ماءًا، بل فقط إستفادَ من ظِلِّها. ولمَّا يبِسَتْ تأَلَّمَ وتذَمَّرَ وتشَّكى لأنَّه خسرَ نعمةً جاءَتْه مجّانًا. ولم يُفَكِّرْ بعذاب آلافِ مئات الناس عند هلاكهم إذا آنقلبت نينوى!، ولا هَمَّهُ مصيرُهم. لأنه لم يكن يحملُ في قلبِه رحمةً ولا شفقة. كلن خاليًا حتى من المحَّبة الأنسانية. لم يكونوا أقرباءَه: لا أولادَه ولا إخوته ليَوَّدهم. لم يكونوا لا جيرانَه ولا شُركاءَه في العمل ولا من بني قومِه. كانوا أعداءَه. فحقدَ عليهم. بينما وصَّى الرب منذ زمن موسى ” أحبب قريبك كنفسِك” (أح19: 18). سيُكَّملُها الرَّبُ يسوع : ” أحبوا أعداءَكم، أحسنوا الى مبغضيكم، باركوا لاعنيكم “(لو6: 27).

تعَّلم يونان وآختبرَأنَّ اللهَ ليس بشرًا ليتعاملَ مع الناس بشريعة “العين بالعين والسنُّ بالسن”. تعَّلمَ أنَّ للأنسان قيمةً عند الله أكثر من أيِّ شيءٍ آخر. تعَّلم الدرسَ أنْ مهما كان الأنسان شرّيرًا، فإن عرفَ الحقيقية وقبلها وتابَ فأصلحَ سيرَتَه فهذا عزيزٌ وغالٍ في عين الرب وعلى قلبه فلن يُفَّرِطَ به. تعَّلم أن رحمة اللهِ فوقَ عدالتِه وأنَّه لا يكمنُ للخاطيء ليُعاقِبَه بل يُرشدُه الى سواءِ السبيل ويُعطيه فُرَصًا مُتكَّررة للحياة: ” قصبةً مرضوضة لا يكسِرُ وفتيلةً مُدَّخِنةً لا يُطفيءُ” (متى12: 20). كما تعَّلم أيضًا :” إذهبي ولا تعودي إلى الخطيئة ” (يو8 :11؛ 5: 14).

حاسبَ يونانُ اللهَ وغضبَ عليه لأنَّه أفشَلَه أمام عيونِ الآثوريين. لم يُفَّكرْ أنَّه هو يونانُ شَوَّهَ صورةَ الله أمام الوثنيين. ولم يُحاسبْ نفسَه وأُمَّتَه أنَّهم خالفوا أمرَ الله ولم يُخبروا الأمم عنه ولا كانوا نورًا لهم يُهديهم إليه. نسوا أو تناسوا بأنَّ الله جعلَ اسرائيلَ” عهدًا للشعوبِ ونورًا لهدايةِ الأمم” (اش42: 6). لا يبالِ يونانُ بأن يكون مُقَّصِرًا. بل يُبَّررُ نفسَه بإلقاءِ اللوم على الله أنه لم يَحْمِ اليقطينة ، متناسيًا أنَّه أنقذه من الغرق ومن بطن الحوت ومن لفحةِ الشمس (يون4: 6). كناكرٍ للجميل يُعلنُ بوقاحة في وجه الله: ” يحُّقُ لي أن أغضَبَ إلى الموت”!. لا يحاسبُ نفسَه فلا يرى نواقصَه ومخالفاتِه. لم يُرِد أن يفشل أمام أعدائه  فلم يفرح بتوبتهم فآستفرغَ لُؤْمَه بتهمة عدم عدالة الله. رغم كلِّ هذا اللؤم سامحَه الله ولم يُحاسِبْهُ على تعَّصُبِه وتمَّرُدِه وأخطائِه. أما يونان فنسي هذا أيضًا.

مثل يونان سيتصَّرفُ العبدُ الشّرير (متى18: 20) فيطلبُ لنفسِه كلَّ الخير ويرفُضُ لغيرِه ولو جُزءًا من الخير. سيفعلُ مثله قاضي الظلم الذي يهملُ حقَّ الأرملة لأنه لا يستفيدُ من ذلك شيئًا. ومثلهم يتكَّبر الفريسي حتى على الله ولا يمتنع من إهانة غيرِه، ويحسبُ اللهَ مَدينًا له لأنه يلتزم بشريعة الناس !(لو18: 1-14). لا أحد منهم مهتَّمٌ بالحق والعدل وشريعة الله. كلُّ واحد مهتَّمٌ بنفسِه وبمنفعتِه فقط. ويريد أن يكون الله حليفًا نصيرًا له مهما تَعُسَ وَضعُه. إنَّهُ كلٌّ ممتليءٌ  من ذاتِه، يرفُضُ أن يُفْرغَ ولو جُزءًا منها ولا جانبًا من حياتِه لتحُّلَ هناكَ كلمةُ الله ويشُّعَ فيها نورُ الحق. يتناسى أولئك واقعهم السلبي ويَتَّهمون اللهَ بالضعفِ والخيانة ، وربَّما حتى بالغدر لأنه لا يواكبُ كلَّ شهواتِهم ولا يتماشى مع أهوائهم. وإذ لا يقوون على كسب تأييد الله لقناعاتِهم يُحاولون هدمَ آخر قلعةٍ له في ضميرهم فينكرون وجودَه. أو حتى يُعادونه علنًا ويتهمونه ويُحاربون شريعته لعَّلهم يُطفئون بذلك لهيبَ حسدهم ويتشَّفون لحظةً مداواةً لجروحِهم. ولا ينفعُ الإعتراض لأنَّ الله لا يغضبُ بل يحترمُ حتى أعداءَه و يتركهم يتمرَّغون في ندَم ٍ و وخزِ ضمير لا علاج له ولا نهاية ، مثل يونان.