تتلى علينا اليوم القراءات : اش1: 2-6+ 16-17؛ تث1: 16-33 1كور9: 16-23؛ لو6: 12-17+ 20-23
القـراءة : إشَعيا 1 : 2 – 6 + 16-17 :– يرفُضُ اللهُ الذبائحَ والشَّرُ قائم. يطلبُ ذبيحةَ القلب بنقاوته وبراءَتِه وذبيحة النيَّةِ بآستقامةِ الأفعال، بإِجراءِ العدلِ ورفع الظلم.
القـراءة البديلة : تثنية 1 : 16 – 33 :– يُظهرُ بنو اسرائيلَ قِلَّةَ الأيمان وطاعةِ الله. رغمَ ذلك يُقَّدمُ موسى اللهَ كأبٍ يهتَّمُ بآبنِه فيحملُه في حِضْنِه بين ذراعيه.
الرسالة : 1 كورنثية 9 : 16 – 23 :– يعيشُ كلُّ واحدٍ من عملِه. وَآلمُبَّشِرُ أيضًا. البشارةُ واجبٌ يُقَّيدُ الرسولَ في حُرّيتِه وعملِه من أجل الآخرين. والتنازلُ عن الحَّق الخّاص ثمرُ حُرِّيةٍ واعية.
الأنجيل : لوقا 6 : 12 – 17 + 20 – 23 :– يُهَّنِئُ يسوعُ الأبرار ويُبَّينُ أنَّ جوهرَ الحب بأُسلوبِه الألهي أي بالتَفَّوُقِ على الإحساس البشري، وبعدم التعامل بالمِثل.
شريعة العدالة !
لامَ اللهُ شعبَه على الظُلمِ، وهو دليلُ الضُعفَ وذُّلُ النفس، وطالبَه بالعدالةِ، وهي تجسيدُ نقاوةِ القلبِ وآستقامةِ النية، وآمتثالٌ بأخلاقِ الله. و أدانَ يسوعُ التعاملَ بالمِثلِ من أجل صيتٍ أو منفعةٍ زمنية. وينبتُ كلا الموقفين على جذور شريعةِ موسى القائل :” أحبِبْ قريبَكَ وأبغِضْ عدُّوَكَ” (أح19: 18) و” نفسٌ بنفس وعينٌ بعين وسِنٌّ بسِّنْ” (خر21: 23-25؛ متى5: 38 -43). طالبَ يسوع برفضِ هذا التعليم البشري المحض، لآنَّه خاطيْ، وبتبَّني شريعة المحَّبة المُجَرَّدَة عن المنفعة والمُكتملة بالرحمةِ والغفران، شريعة اللهِ وأبنائِه (لو6: 35-36).
موسى نفسُه كانَّ قد عارضَ شريعة الأسبقين وحَسَّنها. حمورابي هو الذي سَّنَ شريعة الثأر والأنتقام، والتعويض عن الخسارة التي تلحقُ إنسانًا بسببِ أَّذيةٍ ما يوقِعُها به غيرُه. لكنَّه ترك المجال للمحسوبيات والظلم إذ سمح أن يبلغ التعويضُ في بعض الحالات إلى أضعاف الخسارة الحقيقية. لاسيما إذا كان الخاسرُ من عَلّيةِ القوم وسادَتِها. فجاءَ موسى وقَلَّصَ مجال الثأر المُضاعف ورَدَّه الى” الواحد مقابلَ الواحد، والشيءَ مقابلَ الشيء”. أي لا يختلفُ عن موضوع الخلاف ولا يزيدُ عليه. وجاءَ المسيحُ فألغى مبدأ الثأر والتعويض أو النفاق النفعي من أساسِه. وقد يعترضُ البعضُ: أينَ العدالة؟. الواحدُ يخسرُ والآخر يتنَّعمُ ؟.
جـوابُ الله !
يرينا اللهُ أين هي العدالة الحقيقية. الله وحدَه هو الحَّق. والعدالة هي تحقيقُ الحَّق. فهو وحدَه يدُّلنا سبيل العدالة الصحيح، الذي يبني الحياة ويُسَّهلُها ويُرَّيحُها. يقول الله :
إنْ كان أحدٌ قد أساءَ إليك فقتلَ ثورَكَ. فإِذا قتلتَ أنتَ أيضًا ثورَه أين عدالةُ بناءِ الحياةِ و تسهيلِها؟. لمَّا قُتِلَ ثورُكَ حكمتَ أنتَ على الجاني بأنَّه إنسانٌ سيِّئٌ وظالمٌ. ولمَّا قتلتَ أنتَ ثورَه هلْ إِستَعَدْتَ خسارتَكَ؟. كلا. بل جعَلتَه يخسِرُ هو أيضًا مثلكَ. فهلْ كنتَ أنت أفضَلَ منه؟ كلا. هل ساعدْتَ على إيقافِ الشر ورأْبِه؟ كلا. أصبحتَ أنتَ أيضًا شِرّيرًا وظالمًا مثلَه. و هكذا تضاعفَ الشَّرُ عوضًا عن أن ينحسِر. فهل العدالةُ هي في أن تنحدرَ أنتَ أيضًا إلى مستوى الجاني والظالم فتتدنى أخلاقُ الناس ويزدادَ الشِّر؟. أم كان من المفروضِ أن تساعدَ الجاني ليُصلِح غلطتَه ويُحَّسنَ تصَّرُفَه فلا يُؤذي أحدًا بعدُ؟. ورُبَّما فكَّر بالتعويض لك عن خسارتِك فتستقيم أخلاقُه. بالإنتقام تضاعف الشر: عوض خسارة واحدة وشِّريرٍ واحد أصبح لنا شِّريران وخسارتان. ومن قالَ بأنَّ الثأرَ يُخيفُ الجناة والظالمين و يتوَّقفُ الشَّر؟. بالعكس أصبح الشِّرُ في طريق الصعود والتضاعُف لا الإنحدارِ والزوال.
فمبدأُ العين بالعين والعُنفُ بالعنف لا يوقف الشر والفساد. لأنَّه إذا تحَّكمت الأعصابُ و الغرائز بالأنسان فلن يردَعَه رادعٌ عن السوء. لأنَّ الشِّرير، ببساطةٍ، لا يفهمُ ولا يعي لماذا يجب أنْ يعفيَ للمُسيءِ إليه ولا يستوعبُ لماذا عليه أن يهتَّم بخلاصه إذا كان هو بنفسِه لا يهتَّم بذلك. وقد يعتبرُ عندئذٍ موتَ المسيح من أجل الآخرين جنونًا وبلاهةً وغباءَ. فيزولُ الأيمان. ومن يكفلُ عندئذ الحياة الأبدية في نعيم الله ؟.
والدفاعُ عن الحَّق ؟
ومن يعترضُ : أ ليس حَّقًا و واجبًا الدفاعُ عن الحَّق؟. بالطبع ذلك واجبٌ. ولكن هل يكون بطريق السوءِ والثأر؟. حاولَ مار بطرس أيضًا أن يُدافعَ عن حَّقِ يسوع بالحياة وعن حقوقِ براءَتِه فآستَّلَ سيفه لقتل الأشرارالمهاجمين طُلمًا وبيدهم سيوفٌ وعِصّي. ضربَ فقطع أُذنَ أحدِهم. ماذا كان موقفُ يسوع؟. هل شجَّعَه؟. يسوع نفسُه سيُدافعُ عن حَقِّه وبراءتِه بهدوء و يدينُ بشِدَّةٍ ألإِساءَةَ إليهِ (يو18: 19-23). إنما لامَ بطرس على فعلِه ” رُدَّ سيفَكَ.. من يأخذُ { حَقَّهُ } بالسيف فبالسيفِ يهلك “(متى26: 52)، ثم ” لمَسَ أُذنَ الرجل فشفاه”(لو22: 51). أصلحَ الشَرَّ الذي وقع بسببه لعَدُّوِه المُسيءِ إليهِ !.
وَ قِسْ عليه !
إذا قلَّبنا المِثال مع يسوع وحوَّلناه إلى تصَّرفاتٍ إيجابية جّيّدة كعمل الخير ولكن في نطاقٍ ضَيِّق، بين فئاتٍ محدودة وبغاياتٍ فردية، ما نفعُ ذلك؟. يقول الرب :” أيُّ فضلٍ لكم إن أَحببتم من يُحِّبُكم فقط ؟… أو أحسنتم الى من يُحسنون إليكم فقط ؟. .. أو ساعدتم من يُساعدونكم فقط ؟… الحب ، ألإحسان، الإغاثة ليست مشاعر وأفعالًا محدودة مادّيًا وزمنيًا. إنَّها إشعاعات الحياة، إنَّها نبضات النور الذي هو جوهر الأنسان ويخرج منه عندما تطلبه حاجات الحياة. والحياة ليست حِكرًا على أحد. إنَّها مِنحةُ الله للأنسان يتقاسمُها كلُّ الناس مع مكَّوناتها ومتطلباتها. إنَّها قبسٌ من حياة الله فينا. والله غيرُ محدودٍ في حُبِّه وإِحسانِه وعونِهِ. وعليه يجب أن يكون حُّبُنا شاملًا لكل الناس، وإحسانُنا واجبًا لكل المُعوزين، وإغاثتُنا جاهزة وخدمتُنا كاملةً لكل من يمُّدُ يدَه طالبًا عوننا. نحن البشر كلُّنا صورة الله وأبناؤُه.
فالعدالة والإستقامة ترفضان تقسيم الناس الى قريبٍ و صديق أو بعيدٍ وعَدُّو. نعم يوجدُ أبرارٌ وأشرار. هذا سلوكٌ وليس طبيعةً. لكنَّ نبعَ الحياة ومصدرَها واحدٌ هو الله، وهدفَ الحياةِ ومصيرَها واحدٌ هو أيضًا الله. الله يجمع البشرية كلَّها في حُبِّه وحنانِه ورعايتِه كأُسرةٍ واحدة يسودُها الحُّبُ والحنان، والعدلُ والرحمةُ والغفران. هذه هي عدالة الله ويطلبُ منا أن نتقَّيدَ بها ولا ننحازَ الى فكر البشر وعدالتِهم المُشَوَّهة. أهلُ العالم لا يؤمنون، لا بالله ولا بالحياة الأبدية. فأقاموا لأنفسهم عدالةً متحَّيزة وملتوية، وقيَّموها على أساس منفعة عنصرية خاصّة بهم. ويسوعُ أتى ليدين هذه أخلاقَ أهل العالم وليُغَّيرَها بأَخلاقِه الألهية، ” توبوا فقد إقتربَ ملكوت الله “(متى4: 14). والكنيسة تُلَّبي نداءَ المُعَّلم وتتبَّنى سُلوكَه، وتدعو الآخرين أيضًا إلى الإقتداءِ به، ” تخَّلقوا بأخلاقِ المسيح ” (في2: 5).
إِقتدوا بالله كأبناءَ أحِّباء !
هكذا وصَّى بولس رعاياه (أف5: 1) وأن يتعَّلموا منه لأنَّه هو يقتدي بالمسيح (1كور11: 1؛ في4: 9). هذا ما يطلبُه الأيمان لأنَّ يسوع طلب أن نقتديَ به فنتعَّلمَ منه الأستقامة و نمارسَ العدلَ ونحيا في الحَّق. يقتضي ذلك البذلَ والتضحية، وقد أخبرَ رئيسُ الكنيسةِ بذلك :” إنْ عمِلتُم الخيرَ وصبرتم على العذاب، نلتُم النعمةَ عند الله. .. فالمسيحُ تألَّمَ من أجلكم { بإعطاءِ الشهادةِ للحَّق} وجعلَ من نفسِه قُدوةً لتسيروا على خُطاهُ “(1بط2: 20-21).
هذا ما يطلبُه الأيمان أنْ نتعَّلمَ من المسيح الحَّقَ والبِرَّ والعدلَ لا من العالم. وأن نعمل لتحسين أوضاعِ البشريةِ بممارسة المحَّبةِ والرحمةِ ، والتجاوزِ على الإساءات و المظالم بالغفران، وبالتعامُلِ مع الآخرين كما نتمَّنى أن يتصَرَّفَ الآخرون تجاهَنا. وأن نُقدمَ خدمتنا بدون التقَّيد بالعلاقات الأجتماعية النفعية والمحسوبية. أن نكون في محَّبتنا ورحمتنا وحتى عبادتنا صورة ليسوع الذي لم يتوَقَّف عن عمل الخير وممارسة الرحمة لكل إنسان حتى لمَّا كان ينازع على الصليب :” يا أبتاه إِغفِرْ لهم لأنَّهم لا يدرون ما يفعلون ” (لو23: 34). و لكي نكون بدورنا قدوةً لغيرنا مثل بولس وعلى خطى يسوع يجب أن نقتلعَ من حياتِنا جذورَ كلِّ شر. وأن نتبَنَّى ونُشَّجعَ كلَّ عملٍ إنسانيٍّ يصبو إلى بناءِ الجماعة الكنسية المؤمنة أولا، و ثمَّ الجماعة الدولية. لا معنى ولا مُبَّرر للشر، العين بالعين، مهما كان. ولا يحُّدُ الخيرَ لا لونٌ ولا حضارةٌ ولا لغةٌ ولا قومية ولا حدودٌ ولا حتى إساءَةٌ من ناس جُهلاء وضُعفاء. بل علينا أن نتحَدَّى طبعَنا الغريزي ونتحَّلى بالطبع الألهي الذي :” يُحب .. ويُحسن .. و يُعطي بسخاء .. ولا يدين .. ولا يحكم .. بل يرحم .. ويغفر .. ويبذل بلا قياس “. هكذا فعل اللهُ و يفعلُ كلَّ يوم. ونحن صورتُه وأبناؤُه مدعوون أن نكون جديرين بكرامته وثقته ، فنتشَّبهَ به و نسلكَ مثله.