هل يُعاقبُ اللهُ الخاطيءَ

أهلا وسهلا بالأخت منتهى أبشارا

قرأت الأخت منتهى تأمُلَّ الأحد الماضي وتوَّقفت على مقَّدمة القراءة، وكانت تث9: 13-22 ، جاءَ فيها ” أخطأَ الشعبُ وزاغَ عن الحَّق فنالَ عقابَه “. فسألَتْ، كي لا أقولَ إِعترضَتْ، :

# هل اللهُ يُعاقبُ الخاطيءَ ؟ قبلَ أن يموتَ ، ليتوب ؟

بدءًا أنا لمْ أُحَدِّد مَن أنزلَ العقابَ بالشعب. بل قلتُ نالَ حَقَّه، كما قال لِصُّ اليمين لزميله لِصِّ الشمال ” نحن عقابُنا عدلٌ نلناهُ جزاءَ أعمالِنا ” (لو23: 41). قبل أنْ أَرُّدَ على السؤال أُذّكرُ بخبر القراءة والتقديم له، ما أثارَ السؤال, يتكلم موسى عن خبر رواهُ سفر الخروج 32: 1-29 ،عن العِجْل الذهبي الذي صنعه الشعبُ فعبدَه، فهلك الذين” طلبوا صنعَه، منافسة لله غير المنظور، وتحَّملُّوا كلوفة صُنعِه إذ تبَرَّعوا بذهبهم، الذي كانوا قد سلبوه من المصريين (خر 12: 36)، وعبدوه وآحتفلوا به بالولائم والمجون، ورفضوا أن يتراجعوا عن غَيِّهم حتى بعد عودة موسى إليهم. والتقديم للخبر لم يتطرق الى التفاصيل التي أدَعُها عادةً للقاريء اللبيب لكي يتعَقَّبَها ويُغني بنفسِه ثقافته الكتابية.

عقــابٌ أم إنذار ! 

حسنًا فعلت السائلة إذ فكرت لرُبَّما يعاقبُ الله الخاطيءَ ليُحَّرِضَه على التوبة. لكنَّ عقابَ الله ، إِن كان له عقاب؟، خطيرٌ جِدًّا، ويكون بهلاك الخاطيء الأبدي أي حرمانِه مدى الأبد الراحةَ والسعادة. ولهذا منع اللهُ قتلَ الخاطي لتُعطى له فرصةُ التوبة. هذا ما قاله الرب :” أَ بموتِ الشّرير يكون سروري ، .. كلا، بل بتوبتِه عن شَرِّهِ فيحيا ( أي يتمتع بالراحة والمجد مع الله للأبد)” (حز18: 23). إِذن ماذا تكون ما يلاقيه الخاطيء من عذاباتٍ وشقاءٍ وحتى موتٍ جسدي بسبب خطاياه ؟. إِنَّها إنذارٌ للخاطيء ، يسمح به الله ليُذَّكره برحمته تعالى وبدعوته للمجد والراحةِ معه في السماء. وعلى أيَّةِ حال إِنها تكفيرٌ عن السوء الذي فعله الخاطيء. لأنَّ الخطيئة تحملُ معها “عِقابَها ” دون أن يفرضَه الله، بل هو ابليس الذي أرادَه للأنسان ليحرمَه مُتعةَ صداقةِ الله. لأنَّه يعرف أنْ لا مجالَ لتوافق الخاطيء مع الله إِذ لا ” صِلةَ بين الخير والشر، ولا علاقة للنور بالظلام “(2كور6: 14). وقد أكَّد الكتابُ أن ليس اللهُ الذي يُعاقب بل هو الخاطيء الذي إختار طريق الشر الذي ينتهي بالعقاب الصارم لتشويه صورة الله الخَّيرة والنقيَّة، فقال: ” لا تسعوا وراء الموت بما ترتكبون من أخطاء في حياتِكم، ولا تجلبوا على أنفسِكم الهلاكَ بأعمال أيديكم. فالله لم يصنع الموت، فهلاكُ الأحِّباءِ لا يسُّرُه. خلقَ كلَّ شيءٍ للبقاء. و جعله سليمًا من السُّمِ القاتل… لكنَّ الأشرار جلبوا على أنفسِهم الموت بأعمالِهم” (حك1: 12-16).

الغفران والعِقاب !

الغفران، ثمرُ محبة الله ورحمته، قبولٌ لتوبةِ الخاطيء ومحوٌ للعقاب بالموت الأبدي، الهلاك. أمَّا العقاب الزمني، حَقُّ عدالةِ الله، فهو تنقيةٌ وتطهيرٌ من الدنس الذي يُصيبُ الأنسان جراء سوء تصَّرفه وآنجرافِه وراء ملَّذات الجسد الشهوانية والحسية، والتي تزيلُها الآلام والعذابات الجسدية. الجسد وشهواته لا ترثُ الحياة الأبدية؛ يقول الكتاب: ” إنَّ اللحمَ والدمَ لا يُمكنُهما أن يرثا ملكوت الله .. لا بُدَّ لهذا الفاني أن يلبسَ ما لا يفنى”(1كور15: 50-53)، لأنَّ ملكوت الله ” ليس أكلا وشُربًا..” (رم14: 17). والأنحرافُ ذاتُه ينتهي بالألم والعذاب. وهذا العذابُ التنقية تَعَّوَدنا أن ندعوَه ” عقابًا”، وننسُبُه دون وعيٍ الى الله. أما الله فلم يتصَّرف هكذا.

عندما أخطأَ الأنسان في آدم لم يُعاقِبْهُ بالموت فالهلاك وإلاّ كان قد محاه وخلقَ غيرَه. بل ترك له مجال التوبة إِذ وعدَه بمخَّلص. لكنَّ تواجُدَه معه تحت سقف خيمةِ النعيم لم يكن بعدُ ممكنًا. والأنسان الخاطيء نفسُه إفتهم ذلك ولم ينتظر قرار الله بل إِنسحبَ فآختفى عن أنظارالله، ولم يتُبْ، لم يعتذر. بل تبرَّاَ من شَّرِه وألقى مسؤوليتَه على غيره. فلم يكن بعدُ ممكنًا أن يسكن اللهُ القداسة والبرارة مع الأنسان الذي إختار طريق الدنس والشر بالأنصياع لأبليس. خسرَ آدمُ الرهان ومعه السعادة والراحة مع الله زمنيًا، عاقَبَتْه به شهوتُه أي خطيئتُه. كان اللهُ قد أنذر بها. لم يثق بالله. وقَبِلَ النتيجة بأن ينعزلَ عن الله. وكلفته هذه العزلة قساوة العيش ومرارتها، أي الشقاء. الله أيَّدَ فقط النتيجة مُحترمًا بذلك حرّية الأنسان (تك3: 6-19).

نفسُ العملية تتكرَرُ في إختيار إِلَهٍ صنم وعبادته والثباتِ في التحَّزبِ له، مقابل العودة إلى سماع موسى ممثل الله كالآتي: ” إِصنع لنا آلِهةً تسيرُ أمامنا…قلتُ لهم من له ذَهب فلينزعْهُ فجاؤوني به … قال الشعبُ هذه آلِهتُكم يا بني إسرائيل … وقدَّموا ذبائح السلامة وجلسوا يأكلون ويشربون ، ثمَّ قاموا يمرحون … من منكم للرَّبِ فليجيءُ إلَيَّ ..” ولم يندم الخاطئون        

فلم يرجعوا عن غَيِّهم، فقُتلوا. نسبَ الكتاب الى الله قولَ :” دَعْ غضبي يشتَّدُ عليهم فأُفنيَهم..” لكنَّ موسى يعتذر عن الشعب ويطلب عفوَه. وآستجاب طلبه :” فعادَ الربُ عن السوء الذي قال إنَّه سيُنزِلُه بشعبِه” (خر32: 1-14). أمَّا من أمر موسى بقتلهم، وليس الله (خر32: 26-27)، فكانوا زمرة الثائرين الخاطئين، الذين إنقادوا لنصيحة ابليس الذي أرادَ أن يُبيدَ الشعبَ كلَّه. لم يُعاقبْهم الله بل خطيئتُهم، صداقتُهم لأبليس، هي التي عاقبتهم ليشقوا معه.

عِقـابٌ وعقــاب ! 

نقرأُ في الكتاب انَّ موسى ينسبُ كلَّ قرارٍ الى الله وفعل مثله كلُّ القادة الذين خلفوه. حتى الشريعة التي سَنَّها لتطبيق كلام الله نُسِبت الى الله. بينما عاد يسوع فأكدَّ أنَّ الشريعة من موسى وليست من الله (لو2: 22ح يو1: 17، 45؛ 7: 19، 23؛  8: 5؛  أع13: 39؛ 15: 1، 5، 21؛ 1كور9: 8؛ عب7: 5، 11، 14). مُهِمٌّ جِدًّا أن نعرفَ أن الوحيَ في الكتاب المقدس مكتوبٌ بأُسلوبٍ تربوي. فينسبُ الكاتبُ المُلهَم، منهم موسى، أمورًا جيِّدة تُقَّربُ الإنسان إلى الله وتُبعِدُه عن السوء، حتى الحروب والقتل والعقوبات، بينما أكَّد اللهُ في وصِيَّتِه الخامسة ” لا تقتل ” (خر20: 13؛ تث5: 17). و بنفس السياق ينسبُ الى الله كلَّ عقابٍ حتى الذي هو نتيجة حتمية للشر، و يتِّمُ في الجسد، دعوةً منه إلى تجَّنبِ الشر، وتلبية لدعوة الله الى القداسة (أح 19: 2).

أمَّا الأنسانُ، كلُّ إِنسان، فيتحَّملُ عقأبَـين أو جزاءَين : العقاب الأبدي، هلاك الروح والجسد، لمن يتبع ابليس وإغراءاته ويرفضُ الله كليًا فكرًا وجسَدًا ولا يندم عليها، ويقابلُه الجزاءُ بالحياةِ الأبدية في مشاركةِ راحةِ الله ومجدِه للذين يحفظون كلام الله ويسلكون سبيل الروح في قداسة الفكر و الفعل. والعقاب الزمني، تأَّلمُ الجسد أو الموت الزمني للذين يعيشون حسب ملذات الجسد الحسّية ويسلكون درب الشر والفساد وعلى الجسد أن يدفع ثمنها ليتطهر منها فيتألم ويتعذب دون أن يقود ذلك حتمًا الى الهلاك، ويقابلُه الجزاءُ بالحياة الناعمة، براحةِ الجسد عندما لا يسمحون أن تُسيطر الشهوات والملذات رغائبَهم، بل تتغلَّبُ القناعة والعفافُ  حّواسَهم.

ولنا في خبر اللصين المصلوبين مع يسوع أفضلُ مثل على ذلك. لصُّ اليمين يتوبُ فلا يُعاقبُ ولا يهلك ويدفعُ في آلام جسدِه عقابَ خطاياه. أمَّا لصُّ الشمال فيصمدُ في شَرِّه ، و إضافةً ألى تحَّملِه عقابَ الخطايا في جسده يخسرُ أبديته فيهلك إذ لا فقط لم يطلب الله بل أضافَ فآزدرى المسيحَ مُرسِلَه. ويسوع المسيح أثبَتَ أنَّ الله لا يُعاقب بل يُعطي مجالاً للتوبة . فلم يُعاقب الزانية بل دعاها الى التوبة (يو8: 11). ولم يعاقبْ يهوذا الأسخريوطي المُسَّلِم له بل أظهر له خطورة ما قد نوى (متى26: 24). ولم يُعاقب بطرس على نكرانه ، بل تاب بطرس إِذ ” بكى بُكاءًا مُرًّا ” (متى26: 75) دافعًا بذلك ثمن خطيئته.