ميلاد يسوع ونجمة المجوس ( الجزء الثاني )

العلماء والكتاب !

أكَّد العلماء المذكورون أنَّ النجم الذي ذكره متى2: 2، قد ظهر في شهر يونيو. لا أعترضُ عليه لا أنا ولا المسيحية برُمَّتها لأنه لن يُغَّير شيئًا عن المسيح. ولا يُخالفُ الكتاب المقَدَّس. فعند التمعُّن في نص متى 2: الآيات 2، 7و16 يتأكَّدُ لنا أن النصَّ لا فقط متَّفقٌ بل متكاملٌ مع إكتشاف العلماء وعيد الميلاد الحالي. الإختلاف فقط في ما يُخَّمنه بل يقرره العلماء و يطالبون  به تأريخًا لميلاد المسيح وبين ما حددته الكنيسة عيدًا تحتفل به حدث الميلاد. إنَّه أمرٌ غريبٌ ومدهش أن يفرضوا تأريخًا لم تثبُت بعد حتى ولا نظريتُه. إنَّه أمرٌ مُقرفٌ و مرفوض علميًا. كان هيرودس أذكى منهم في إخفاء سِرِّ سوءِ نيَّتِه. فقد ” تحَّققَ سِرًّا ” مع المجوس عن متى ظهر لهم النجم. ثم يأمُرُ بقتل أطفال بيت لحم بعمر” سنتين فما دون”. ألا يُثيرُ هذا سؤالا : لماذا هذا العمر بالذات؟. هذا يعني بكل بساطة أنَّه قَدَّرَ، مما إستنتجه من المجوس، أنَّ النجم  ظهر لهم قبل حوالي السنتين. حسب ان النجم ظهر مع ميلاد المسيح. ففكر أنَّ عُمرَ يسوع يفوقُ سنة ويقَلُّ عن سنتين. وهذا لا يُعارضُ نظرية العلماء. والمجوس لم يُحَدِّدوا يوم ميلاد المسيح. بل سألوا أين هو فقد آتوا ليعترفوا بملوكيته الألهية ويُعلنوا طاعتهم له ، فسجدوا له. والنجم كان دليلهم على أن المسيحَ هو المخَّلصُ المنتظر وقد ولد و هو موجود. لأنَّ بلعام قد تنَبَّـأَ عنه :” أراه وليس حاضِرًا. أُبصِرُه وهو ليس بقريب. يخرج كوكبٌ من بني يعقوب ويقومُ صولجانٌ من بني إسرائيل، فيُحَطِّمُ جهةَ مؤاب ويسحقُ جميع بني شيت، ويكون آدومُ ميراثًا له ” (عدد24: 17).

فلو فكرنا أنَّ المجوسَ قدموا من بعيد وآستغرق سفرهم حوالي سنة ونصف فلا غرابةَ أن يكون النجم قد ظهر لهم في يونيو من سنةٍ مُعَّيَنة فآستعَدُّوا لرحلتهم وآنطلقوا ليصلوا القدسَ في ديسمبر من السنة التالية، ربما بعد توقَّفين في الشتاء لخطورة السفر وصعوبـته. لم يسافروا بطائرةٍ ولا بسيارة. ساروا ضمن قوافل على الأقدام أو ركوب الخيول أوالجمال. لم يذكر لوقا الأنجيلي خبر المجوس ونجمتهم، لكنَّه نوَّه أن يسوع ولد في آواخر نوفمبر أو أوائل ديسمبر (لو2: 8-12). ترى هل جرى النجم في الفضاء ببطيءٍ على وتيرة سير قافلة المجوس وتأَّنٍ، فدام جريُه سنةً ونصف لقطع مسافة يقطعها نجم آخر بأيامٍ؟. وظهر النجمُ للمجوس وحدَهم فلم يُلاحظه أحد في فلسطين حتى عند وجود المجوس فيها. فما المانع من أن يظهرالنجم للمجوس فيعرفوا بحضور نور الخلاص الموعود، الملك الإلهي لليهود و يتوجهوا الى فلسطين ويختفى؟. بل هذا ما يُؤَّكدُه متى (متى2: 2و9). النجم يُشير أصلاً الى المسيح نفسه لا الى زمن ميلاده :” يخرجُ كوكبٌ من بني يعقوب، و صولجان من بني إسرائيل”. فالمسيح نور الحقيقة وسُلطة الأخلاق لأنَّه ” الله “، يظهرُ في شعبِه، والمجوس، ملوك العالم، تقَّدم له الخضوع بعكس ملك اليهود الذي يضمر قتله حمايةً لمجدِه.

زمن ولادة يسوع !

أُجَدِّدُ تأكيدي على أنه لا يهم لو ولد يسوع شتاءًا أو صيفًا. والكنيسة لم تُؤَّكد ولا تُصِّرُ أبَدًا على أنه وُلد في 25/ 12. إِذن متى وُلِدَ يسوع؟. نقرأ في لو2: 8:” وكان في تلك الناحية (من بيت لحم) رعاةٌ يبيتون في البرّية، يتناوبون السهر في الليل على قطعانهم”. لما كنتُ صغيرًا كنا نلاحظ أنَّ الرعاة لا يُبيتون القطعان في حظائرها صيفًا وخريفًا بل يحتفظون بها خارج الحظائر في العراء ضمن سياج خشبي قريبًا من سكن أصحابها. ولا يُعيدونها الى حظائرها (بيوتها) إلاّ مع بدء برد الشتاء. وفي الخريف يباتون في الجبال أو مراعي بعيدة، مما يُلزمُ الرعاة أن يحرسوها ليلاً من الحيوانات المفترسة. وفي كبري إلتقيتُ مع كهنة من فلسطين والأردن ودار الحديث مرَّة على هذا الموضوع فأكدوا بأنَّ البرد يبدأ مع ديسمبر و فيه تعودُ القطعان الى حظائرها. ولوقا أكَّد أنها كانت ما تزالُ بعد في البرية. ويسوع ولد في فلسطين. وماذا يمنع أن يكون يسوع قد ولد في بداية شهر ديسمبر أو في منتصفِه أو حتى في نهايتِه؟. إنَّ رواية الأنجيل أقرب إلى 25/ 12 الكنسي من 17 يونيو. ومع كلِّ ذلك أبى لوقا أن يذكر يوم الولادة، وأبت الكنيسة أن تتعَقَّبَ الأمرَ لمعرفته.

تحديد العـيد في 25 ديسمبر !

سؤال يطرح نفسَه : لماذا نُعَّيدُ إذن الميلاد في 25 ديسمبر، ونحن غير واثقين علميًا أنه يوم

ميلاد المسيح؟. نعرفُ أن النهار يقصُر بعد 25 يونيو/حزيران ثمَّ يتساوى مع الليل في 21 أيلول/ سبتمبر ويستمر في التقاصر إلى أن يبلغ أقصر مداه في 21/ ديسمبر: يبقى أقصر نهار وأطول ليل مدة أربعة أيام. وفي الـ 25/ 12 يبدأ النهار فيطول. يتغَّلبُ النور على الظلام. وكان الرومان وثنيين ويعتبرون الشمس/النور إلَهًا. يفرحون أن النور إنتصر على الظلام الذي كان يؤلمُهم جدًّا. فيحتفلون بهذا النصرعيدًا مُمَّيزًا دعوه” ميلاد الأله الشمس”. يُعَّيدون بالأكل والشرب واللبس واللعب والرقص والغناء طيلة النهار، عرسًا يشمل الأُمَّةَ كلَّها. وكان المهتدون منهم الى المسيحية يَحْنون إليها ويشتركُ بعضُهم فيها رغم أنها لم تكن تخلُ من التطرف والمجون. ولم يكن للمسيحيين بعدُ عيدٌ لميلاد المسيح. ولمحاربة تلك الضلالة وحماية لأبنائها من خطر إغراءات الزمن وإغواءاته شدَّدت الكنيسة على لاهوت المسيح وأنه هو نور العالم ومن يتبعه لا يمشي في الظلام (يو8: 12)، لأنَّه هو نجمة الحَّق الألهي الساطع الذي رآه بلعام (عدد24: 17)، والذي يهدي جميعَ الأمم (لو2: 32).

عليه قررت الكنيسة أن تُعَّيد لميلاد المسيح في نفس اليوم 25 ديسمبر حتى أسقطت ضلالة الوثنية وعيدَها، وآرتفع شأن عيد الميلاد بحيث ذُكرت له إحتفالات لسنة 336م. لم تهتم بيوم الولادة بقدر ما إهتمَّت بالمغزى الديني والثقافي. ركَّزت الكنيسة على دخول الله الى العالم بشكل الأنسان مُخَّلصِ العالم لأنه هو شمسُ الحقيقة. وما ساعد على ذلك أن 25/ 12 هو الأنقلاب الشتوي في التقويم الروماني، وهو الشهر التاسع بعد إعتدال الربيع 25/ 3، و الأحتفال في 25/3 بعيد بشارة مريم. وأصبح عيد الميلاد في 25/12 للكنيسة جمعاء منذ القرن الرابع الميلادي. قال عنه القديس أوغسطينوس (+430م): ” وُلِدَ ( يسوع ) في اليوم الأقصر في حسابنا الأرضي ومنه بدأ الزمن يطول بعدَه. إذن هو الذي عكس الأدنى فرفعنا لأنه إختار الأقصر الذي منه بدأَ الضوءُ يطول”.

ومن يعرفُ هذه الأمور لا يجدُ لا علاقةً ولا خلافًا بين ظهور النجمة في يونيو والأحتفال بالعيد في 25/12. كما لا يجد غرابةً بين يوم الميلاد الحقيقي وتأريخ الأحتفال به. ليس العيد من تأسيس الهي ولا ضروري للخلاص. إنه عامل مساعد تتحَكَّمُ به الكنيسة. لذا إبتعد لوقا ومتى عن ضبط التواريخ وذكرها لئلا تُشغل المؤمن عن جوهر شخص المسيح وعن رسالته الخلاصية فيسلك في نور تعليمه. إنَّه المخَّلصُ الموعود لآدم (تك3: 15) والمشار إليه في الأنبياء خاصّةً والكتاب عّامةً. إنَّه هو، لا غيرُه، ” الإلَهُ نورُ العالم “.

نجمة المجوس !

لو كتب متى تأريخًا لذكر هوية المجوس: من كانوا؟ من أين أتوا؟. وكم كانوا؟. وعن النجمة قال فقط: ” رأينا نجمه في المشرق”. وبعد مقابلة هيرودس أضاف: ” وبينما هم في الطريق (نحو بيت لحم) إذا النجم الذي رأوه في المشرق يتقدمهم حتى بلغ المكان الذي فيه الطفل فوقف فوقه .. وفرحوا جدًّا “. يريد متى ان يفهم قارئيه عن شخص المسيح أنَّه مَلِكٌ سماوي، وبهدايا المجوس يُخبر عن ملوكية المسيح (ذهب) ولاهوته (بخور) وآلامِه (المُّر). كان اليهود في آنتظاره ولكنهم، لمَّا سمعوا بخبر ولادته، أهملوا خبره. وهيرودس آدوميٌّ لا يهودي تمَّلق للرومان فنصبوه ملكًا على اليهود، وتمَّت فيه نبوءة بلعام أن المسيح يأتي لمَّا يخرج الحكمُ عن يد اليهود ويفقدون مملكتهم. لا يريد أن يسمع هيرودس بغيره ملكاً فيضمرُ قتل المسيح طفلاً.

هنا التضادد الذي إختَصَّ به إنجيل متى بين الغرباء وأهل البلد، ملكًا وشعبًا، الذين تنكَّروا للمسيح ورفضوه :” الى بيتِه جاءَ وأهلُ بيتِه لم يقبله ” (يو1: 11)، منذ لحظة سماع خبر ميلاده والى لحظة وفاته على الصليب : فصرخ الشعب “أصلبه “، وآستهزأَ به القادة (متى 27: 39-44). بينما إعترفَ الغرباءُ بيسوع أنه المسيح، مثل قائد المئة ” كان هذا حَّقًا إِلَهًا ” (متى27: 54 )، والمجوس الذين تحملوا المشَّقة واتوا من بعيد ليسجدوا للملك الألهي بينما هيرودس يطلب قتله، ومئاتُ ألوفِ المؤمنين بالمسيح من غير اليهود لاسيما من أهل الثقافة اليونانية. وسيستنتج متى :” كثيرون يأتون من المشرق والمغرب ويتَّكئون مع إبراهيم واسحق ويعقوب في ملكوت السماوات، أمَّا بنو الملكوت فيُطرحون خارجًا في الظلمة “(متى8: 11-12) لأنهم رفضوا مَلِكَ النور.

وما إمتاز به أيضًا متى أنَّه يُسَّجل بغزارة وعمق أكثر من غيره أنَّ يسوع كمَّلَ النبوءات عنه. وفي خبر نجمة المجوس بدأَ بنبوءَة بلعام (عدد24: 17)، ثم مَرَّ بميخا عن بيت لحم (5: 11) فإِرَمْيا عن قتل الأطفال (31: 15) فهوشع من مصر دعا الله إبنه (11: 1). حتى عزا لقبَ يسوع بالناصري والمؤمنين به بنصارى (أع24: 5) الى نبوءة غير معروفة !. و آنفردَ متى أيضًا بإعطاء حقائقَ إيمانية في إطار قصّةٍ أو خبر يستندُ الى واقع بسيط يُعطيه بُعدًا أوسع، يضمنه واقع متى حين يكتب الأنجيل. لاحظ متى في زمانه أنَّ اليهود عادوا مسيحهم المنتظر بشكل عام، لأنه لم يتبع أخطاءَهم ونفاقَهم وخيانتهم للعهد، بينما آمن به و قبله مُثَّقفون يونان ورومان وشعوبٍ كثيرة. فآصدى متى لهذه الحقائق والمآسي فكتب قصَّة المجوس ونجمتهم التي لم تذكرها التواريخ المدنية لا اليهودية ولا الرومانية، ولا لوقا الذي كتب كلَّ شيء بعد فحص وتدقيق وآنتقاء (لو1: 1-4).

أكد علماؤُنا أعلاه أن يسوع ولد سنة 2ق.م. في حين يؤكد التأريخ أن هيرودس مات سنة 749لتأسيس روما، 4 ق.م، وأنَّ التقويم الميلادي الحالي يبدأ سنة 753لروما. ويسوع ولد قبل موت هيرودس، أي قبل تقويمنا الحالي بخمس أو ست سنوات على أقل تقدير. أي سنة 6/5 ق.م. وللتأكد من تواريخ المسيح ليُدَقِّقْ القاريءُ اللبيب في متى 2: 13، 16، 19-22)، وخاصّةً أخبار و تواريخ ملوك روما وعملائهم في البلاد الخارجية.