ما جئتُ لأبطل بل لأُكَّمِل !

أهلا وسهلا بالأخ سامر فرنسو.

لاحظ الأخ سامر أنَّ الشريعة في العهد القديم تبَّنت مبدأ ” العينُ بالعين ، والسّنُ بالسن “، بينما تبَّنى المسيحُ مبدأ :” إغفروا .. لا تدينوا .. أحبوا حتى أعداءَكم..” بمعنى مبدأ تقَّبُل الآخر كما هو. فآستغربَ كيف قالَ يسوع ” ما جئتُ لأُبْطِلَ بل لأكَّمِلَ ” (متى5: 17)؟. فآعترضَ :” أ ليسَت الآية بُطلانا للناموس “؟. وأضاف : وقد أُستُبْدِلَتْ الختانة بالعماد. فسأل : فما المعنى إذن لِـ” يكون عهدي في لحمكم عهدًا أبديًا “؟. ماذا يقصد بعهدٍ أبدي؟.

سمعتم أنه قيلَ لكم … أما أنا فأقولُ لكم !

كرَّرَ يسوع هذا الكلام ستَّ مراتٍ وفي نفس الفصل تعقيبا على قولِه السابق. فهل يُعارضُ يسوع نفسَه؟ لا بالطبع. إذن علينا أن نبحثَ لندركَ ما يقصده يسوع من وراء حرفِ أقوالِه.

عندما قالَ ما جئتُ لأُبطل بل لأكمل قصدَ به أنَّ الشريعة بذاتها صالحة وجَّيدة ، حسب الظرف الذي سُّنَتْ فيه والهدف الذي يُغيَ الوصولُ اليه. الشريعة بذاتها هي تعبيرٌ عن إرشادِ الله للأنسان ليُريه طريق الحياة الحَّقة والعادلة والمريحة. وإذا لم تُفهَم ولم تُطبَّق حسبَ روحيتها وهدفها تُصبح حرفًا فارغا من حياة فتسيءُ.

مثلا تقديس السبت. ليس السبتُ معَّلقا على يوم محدد لذاتِه. السبت نفسه يعني الراحة. سبتَ والسُبات يعني الراحة. وكشريعة تدعو الأنسان الى عدم التعَّلق الزائد والمتطَّرف بالغنى المادي. بل الأهتمام براحة الجسد لأعطاء الفرصة للعمل من أجل غنى الروح ، الذي هو التعامل مع الله لمعرفته والأعتراف بسيادته ومحبته، ورفع الفكر والروح إليه. ولتحقيق الهدف تسَّنُ أو تُحَّدد بعض الأحكام و التصرفات التي تسهل الأمروتساعد. أما اليهودُ فكانوا قد شوَّهوا الوصية وأفرغوها من معناها وأضفوا عليها بُعدًا بعيدا عن المعنى الأصلي. فغَّيرَ يسوع وجهة النظر اليهودية ليُعيدَ الى الشريعة بريقها الروحي الألهي. فبهذا المعنى لم يُبطلْ يسوع الشريعة ، بل كمَّلها لأنه أعادها فوضعها على مسارها الأصلي الصحيح. لكنه مع ذلك بدَّلَ أمورًا كثيرة أساؤوا فهمها وتفسيرها. مثلا الطلاق والزنى والقتل والحلفان والثأر و بغض العدو.. فوَّضحَ أنْ ليس الفعل الحرفي المادي أهم ما في الوصية. بل الأهم هو إستقامة النية والمحبة ونقاوة الفكر والقلب وما يكنزُ مكاسب للحياة الأبدية.

إنَّ بعضَ أوجه الشريعة قامت بسبب الظرف الخاص أو لفترة زمنية محددة. وكان من الواجب أن تتغير بتغَّير الظرف أو الزمن. لكن الأهمال وسوء التفسير جرفَ الأمرين الى التطرف وفقدان المعنى الأصيل وآستمرار الوصية بشكل مشوَّه مُستَغَّلٌ من قبل المسؤولين. بينما توجد وصايا ثابتة أهملها الناس مثل ” أحبب خير قريبك كنفسك ” ؛ أو ” ليس بالخبز وحده يحيا الأنسان بل بكل كلمة تخرج من فم الله “؛ أو ” لا يريد الله موتَ الخاطيء بل أن يتوبَ ويحيا أمامه ” ، وقد أحياها يسوع وشدَّدَ على التقيد بها. وما أبطله كان مخالفا لروح الشريعة.

ما معنى ” العهد الأبدي ” ؟

العهد يعني ما وعدَ به أحد يُلزمُ به نفسَه. الله وعدَ من جهتِه أن يلتزم بما وعد لشعبه إذا إلتزم الشعبُ بسماع كلامه والعمل به. أعطى الله أبراهيم ونسله الختان ليتذكروا هذا العهد ويتقيدوا به. لكنهم لم يفعلوا. فما قيمة وعد ألقي في سلة المهملات؟. وما معنى أبدية عهد يُحترمُ من جهةٍ واحدة ؟. وقد أقَّرَ بطرس بذلك :” لماذا تجربون الله الآن بأن تجعلوا على أعناق التلاميذ نيرا لم يستطع آباؤُنا ولا آستطعنا نحن حمله “؟. وقد آفتهم ذلك بعد أن وجهه الروح نحو الوثنيين القُلف ، فقال :” ونحن نؤمنُ أننا نخلص بنعمةِ الرب يسوع كما يخلص هؤلاء أيضا “(أع15: 10-11). فالختانة إذن قد بطلَ معناها وسقط مغزاها. كانت رمزًا للأيمان بالله وعودة ملكيتهم اليه. لم تنفع ولم تنجح. ومع يسوع تصبح البشرية كلها ملكَ الله وشعبَه. وأصبح العماد رمزًا للأيمان بالمسيح وآمتلاكه للمؤمن. فحَّل الأيمان بديلا للختانة. مع العلم لولا الأيمان لما أعطيَ ابراهيم تلك العلامة في الجسد. يبقى وعد الله ابديا للأنسان أنه يساعده ويباركه إذا إلتزم بمشورته. ومن علامة في الجسد أصبح علامة بل رباطا في الروح أبديا لا تمحيه قوى العالم كلها، ” لا شيء يفصلني عن محبة المسيح..”(رم 8: 35). لم يكن كلام يسوع حرفا جسديا بل روحا مُحيـيًا (يو6 : 63). ونحن أعضاء المسيح نسلك سبيل الروح لا الجسد. والروح أبدي بينما الجسد يفسد ويزول. لم يزُل العهد الأبدي. بل هو قائم وصار أقوى وأكثر حيوية من الأول. لأنَّ صفة الأبدية لا تنبع من العهد بل من صاحب العهد. وصاحب العهد، الله ، هو أبدي لا يتغَّير.

القس بـول ربــان