” لا تدعو لكَ أبًا على الأرض “

أهلا وسهلا بالأخ حبيب جورج يوحنان

كتب الأخ حبيب يقول : كنا ندعو القس ” رابي”. الأنجيل يقول : لا تقل لأحد ” أب”. فقط الله هو أبوك. فما قولكَ ؟

إذا لم يفُقْ بِرُّكم بِرَّ الكتبة والفرّيسيين !

بدءًا قال الأنجيل ما يلي :” لا تدْعُوا أحدًا أبًا لكم على الأرض، لأنَّ لكم أبًا واحدًا هو الآبُ السماوي” (متى23: 9). وجاءَ وسط تحذيرين آخرين وجههما يسوع إلى تلاميذه متوازيين مع ردِّه القاسي على الكتبة والفرّيسيين ولومه الشديد لسلوكهم المشين والمرفوض. لأنهم أولاً منافقون فيُراؤون، وثانيًا إنهم دجَّالون فيُحَّورون الحقيقة، وثالثًا إنهم أنانيون يُحبُّون البروز والظهور. وأعطى لكل واحدةٍ من هذه الرذائل نعتًا مُزَّيَفًا،هي : معَّلم، أب، ومُدّبر. وسبقَ يسوع وثَبَّتَ لتلاميذه “أبناء الله” كيف يكون سلوكَهم وكم يجب أنْ يتفَوَّقَ بالجودةِ (متى5: 20) على ما رأوه في سيرةِ قادتهم الروحيين الذين أخطأوا فأَساؤُوا حتى نعتهم بـ ” العُميان” و”الأشرار” وسماهم ” حَّياتٍ أولادَ الأفاعي” (متى23: 16-33). فالرفضُ جاءَ تعقيبًا على سلوك الفريسيين الخاطيء وكرد فعل مُصَحِّح لموقفِهم. ولا يجوز أن تُؤخَذَ آيات وتُعزل عن إطارِها وإلا فقدت معناها. وينهى يسوعُ عن تبني مثلَ سلوكهم. لذا حَذَّرَ:” إذا لم يفُقْ بِرُّكم على بر غيركم لن تدخلوا الملكوت” (متى5: 20).

أبٌ و آب !

لكلمة ” أب” بعدان. البعدُ الحرفي المادي في العائلة، فالأب هو من وَلدَ أبناءَ ومَدَّدَ الحياة حسب وصية الله” أُنموا وآكثروا” (تك1: 28). والبعدُ الروحي الوجودي، فالأب هنا هو من أوجدَ وأعطى الحياة وهو مصدرها، هوالذي” يُميتُ ويُحيي” (تث32: 39)، وهو”القيامة و الحياة ” (يو11: 25). إلى هذه الأُبوة ينتمي كل الناس لأنَّ موجد حياة الناس هوالله وحدَه. والله وحدَه مُحبٌ حقيقي لأنه أوجد بدون منفعة ذاتية. أما الأنسان فلا يُوصلُ إلا ما آستلمَ من أمانة. والله وحدَه يضمن الحياة للأبد بعكس الآباء البشر الذين لا يضمنون الحياة حتى ولا على الأرض. فالوالدُ الحقيقي هو من أوجد، وأنمى وضمن للأبد. فالله هو الأب الحقيقي لكل إنسان لأنه أوجد الأنسانية وأشرك الناس في حياته وخيراتِه ما لا يقوى عليه البشر. فقد دعا الله نفسُه بني إسرائيل” إبنه البكر”(خر4: 22). وقال الكتاب بأنَّ المسيح “بكرلأخوةٍ كثيرين “(رم8: 29)، وأنَّه لا يستحي بأن يدعو” المقَّدَسين إخوة له”(عب2: 11-12).

و بما أنَّ الأنسان يُصبح بالأيمان (يو1: 12) والأعمال (متى12: 50) إبنًا لله بقوة الروح القدس (رم8 : 15-16؛غل4: 7؛ 1يو3: 2) فلا يحُّقُ لأحد غيرِه أن يَدَّعيَ أُبُوَّةً وتحَّكُمًا في مصيرالآخرين، لا الفريسيون ولا غيرُهم. لأنهم أولاد الله!. لكنَّ اللهَ يُشركُ في هذه الأُبُوَّة الروحية فئاتٍ من المؤمنين به. فإليشاع النبي دعا ايليا النبي أباه (2مل2: 12). وبولس دعا طيمثاوس إبنَه الحبيب (2طيم1: 2)، إبنَه “الحقيقي في الأيمان” (1طيم1: 2)،لا فقط لأنه تبع تعليمه وإيمانه (2طيم3: 10) بل لأنه رسمه هو كاهنا وأسقفًا بوضع يديه هوعليه(2طيم 1: 6)، وأصبح بذلك مقامَ” أبٍ” له إذ إعطاه من النعمة التي يملكها كما يعطي الأب الحياة لطفلِه. وأمضى من هذا ما كتبه بولس لأهل كورنثية :” لو كان لكم في المسيح عشرةُ آلافِ مرشدٍ، فما لكم آباءٌ كثيرون، لأني أنا الذي وَلَدَكم في المسيح يسوع بالبشارةِ التي حملتها اليكم”(1كور4: 15). فالبشارة شَبَّهها بمخاض الولادة الموجع حتى كتبَ لأهل غلاطية :” يا أبنائي الذين أتوَجَّعُ بهم مرَّةً أخرى في مثل وجع الولادة حتى تتكَّوَنَ فيهم صورة المسيح” (غل4: 19). حتى بطرس دعا تلميذه مرقس “ابني” (1بط5: 13).

وأعتقدُ أنَّ من يدعونه “ابنًا” يحُّقُ له أنَّ يرُّدَ لهم الجميل والتقدير فيدعوهم ” أبًا”!. إنه تقديرٌ إجتماعي وإعلان صلةِ قرابةٍ روحية تكون أحيانًا أقوى من القرابة الدموية الحرفية. لأنَّ ” الحرفَ، كما قال الرسول، يُميت، أما الروح فهو الذي يُحيي”(2كور3: 6). لذا يقول المثل ” رُّبَ أخ لم تلدهُ أمي”. بينما قالت الحبيبةُ عن حبيبِها : ” ليتَكَ لي كأخ رضعَ ثديَ أمي ، فألقاكَ في الخارج وأُقَّبِلُكَ فلا أُحتَقَر” (نشيد 8: 1). علاقة المحبة، والمحبة روح، أقوى من علاقة القرابة. إنَّ العلاقة العائلية الجسدية قد تفسد ، لأنها مبنية على الجسد. والجسد يزول لأنه ينزعُ الى الموت، أما ما يبقى ويُحيي فهو الروح (رم8: 6). فمن يتصَّرفُ بالروح ” كأب” يحُّق له هذا اللقب الذي لم يحرمه الله. ما حرمه الرب هو عدم جواز إتخاذ أي أنسان كان، ومهما سمت مرتبته، أو إعتبار الذات بمقام الله وبديلا عنه. الوجود والخلاص والراحة الأبدية لا يضمنها حتى ولا الوالدون الأرضيون، بل الله الآب السماوي وحدَه. حتى الآباء الأرضيون بالجسد لا يجوز أن يأخذوا في حياة أبنائهم حَّيزًا أوسع وأفضل من مكانة الله فيها، ” من أحَّبَ أبًا أو أما أكثر مني لا يستحِقُّني” (متى10: 37).

لقد نصح بولس تلميذه بأن يعتبرَ الذين يكبرونه سِنًّا “كأبٍ لكَ، ..والعجائز كأنَّهن أُمَّهات” (1طيم 5: 1-2). وهذا دليل احترام وإكرام كما طلبه الرب نفسه من زمن موسى (أح19: 32). كل علاقةٍ بين الأفراد تقوم على المحبة تستحقُ التقدير. ولا محبة أقوى من التي بين أبٍ وإبن. ولا علاقة أقوى من التي بين معلم وتلميذ إذا قامت على المحبة. وكل علاقةٍ روحية بين معلم وتلميذ ورئيس ومرؤوس تقوم على” العطاء” و” القبول” يمكن تسميتها بـ ” أُبُوَّة وبُنُوَّة “. ومن هذا القبيل دُعي الأسقف بالكلدانية ” الأب” ( آوون) والكاهن بـ” المعلم” (رابي). وهؤلاء دعوا المؤمنين “أبناء”. ثم آنقلبت بالعربية فصار الكاهن ” أبونا” والأسقف ” سَّيدنا “!، إشارةً الى العلاقة الروحية بين المؤمنين ورؤسائهم الدينيين.

فقالت له “رابوني” أى يا معَّلم !

كان يسوع يُعرفُ ويُدعى بـ”المعلم”. وقد نهى يسوع أيضا إضفاء هذا اللقب على أحد قائلاً: ” أما أنتم فلا تَدَعوا أحدًا يُسَّميكم ” رابي” أويا معَّلم. لأنَّ لكم مُعَّلمًا واحدًا وأنتم جميعًا إخوة” (متى 23: 8). لكن يسوع نفسه قال :” إذهبوا وتلمذوا جميع الأمم، عمدوهم .. وعَلِّموهم ..” (متى28: 19). ومن يُعَّلِم فهو” مُعَّلِمٌ ” يوصل الى غيره معلومة أو خبرًا. وهكذا لم يدعُ يسوع نيقوديمس بآسمِه بل سَمَّاه” أنت معلمٌ في اسرائيل” (يو3: 10). وعليه أُكَّررُ ما نَوَّهتُ به أعلاه بأن ليس صحيحًا عزلُ آيةٍ عن إطارِها وتقويلَها ما ليس تعليم الله. بل يجب محاولة فهم كل آية داخلَ إطارها وفهم النص الذي وردت فيه، ثم مقارنتها بالنصوص الأخري التي ذكرَت فيها لآستيعاب المعنى الكامل للتعليم المراد إيصاله عن فم يسوع الى البشر.

وبخصوص ” رابي” أو صفة المعَّلم تُطلق على كل من يوصل تعليما الى غيره. هكذا دعا بولس نفسَه ” معَّلِمًا ” إذ يقول : ” لقد جعلني الله للشهادة مبَّشِرًا ورسولا، أقولُ الحَّقَ ولا أكذب، ومُعَّلِمًا لغيراليهود في الأيمان الحق” (1طيم2: 7). إذن طبيعيٌ هو أن يُدعى الرئيسُ الروحاني ” رابي” أو “معلم” ما دام هو يؤدي الشهادة ليسوع ويُبَّلغُ الأيمان المستقيم. ولهذا لا يعني لقب المعلم هذا أنه يستنبطُ ويخترعُ من عنده تعليما جديدًا، بل يوصلُ فقط ويشهد لما أعلنه المعلم الوحيد يسوع المسيح. مطلوب من الكاهن أو الأسقف أن يعيَ تعليم يسوع و يُبَّلِغَه بأمانةٍ شاهدًا له بحياتِه، لا مثل الفريسيين ” يُعلمُ ولا يفعلُ”، أو يصوم ويصلي لكنه ” يُهملُ ألزمَ ما في الشريعة: العدل والرحمة والوفاء، أو يُطالبون صدور المجالس والتحّياتِ في الأسواق” (متى23: 3-23). هؤلاء ليسوا معلمين بل دجالين منافقين. أما المعلم في المسيحية فيكون قدوة ونموذجا للأيمان والأخلاق (1كور4: 16؛ 10: 33؛ 11: 1؛ في3: 17 ؛ 4: 9). عندئذ يكون مُعَّلمًا، حقًّا وفعلاً، للأجيال التي يخدمُها.

{ إقرأ مقالة سابقة ليوم 2/9/2016 عن أُبُوَّةِ الكاهن وبُنُـوَّة أبناء رعيتِه }

القس بـول ربــان