عيد الصليب المقدَّس

للعلم :  تتقَدَّمُ أحيانًا القيامة إلى شهر آذار وتقع عندئذٍ أربعة آحاد إيليا قبل عيد الصليب الثابت في 14 /9 أيلول، عكس ما حدث هذه السنة. وعندئذٍ تتلى آحاد إيليا الأولى 1، 2، 3، ثم 6 السادس، يليه عيد الصليب ويتبعه الأول للصليب/ الرابع لأيليا.

تتلى علينا اليوم القراءات  :  اش52: 13-53: 12؛أع2: 14-36 1كور1: 18-31؛  لوقا 24: 13-35

القـراءة : إشعيا 52 : 13..+ 53 : 1 – 12 :–  نشيد عبدِ الرب، المسيح الذي شَوَّهَتْه الآلام وآحتقرَهُ البشر وأهانوه وصُلِبَ، لكنَّ الله رفعه وأَكرَمَه.

 القـراءة الثانية : أعمال 2 : 14 – 36 :– في أوَّلِ خطابٍ له يُعلنُ بطرُس أنَّ يسوعَ الذي صلبَهُ اليهود فماتَ وقام هو المسيح الرَّب وهم شُهودٌ له.

الرسالة : 1 كور 1 : 18 – 31 :– يُقارنُ بولس بين حكمة الله والبشر. إعتبَرَ الناسُ الصليبَ عارًا وحماقةً بينما هو قُوَّةُ حكمةِ الله ومحَبَّتِه.

الأنجيل : لوقا 24 : 13 – 35 :–  يقُّصُ لوقا ظهورَ يسوع لتلميذي عَمَّاوُس ويُبَّينُ لهما أنَّ صليبَ آلامِه كان طريقَه إلى المجد.

وأنا لا أفتخرُ إِلاّ بصليبِ رَبِّنا !

هكذا كتب بولس لأهل غلاطية (6: 14), ومثله إفتخرنا نحن المسيحيين بالصليب، طوال مسيرتنا الزمنية: فرسمناه على جسمنا وعَلَّقناه على صدورنا، وزيَّنا به بيوتنا، وكَرَّمناه في كنائِسِنا ورفعناه فوق قبابِها دلالة على إِنتمائِنا إلى المسيح وإيماننا بأنَّ الصليب الذي حمل جسد المخَّلص لم يكن عارًا وتقليلا من شخصية الذي حمله كما حسِبه أهل العالم وما يزالُ يراه إهانةً فذُلًّا فيُحاربُه (1كور1: 22)، بل يتخطَّى الحواس ليتعَمَّقَ في عِلَةِ الصلب وما يعنيه من قدرة الله العجيبة ومحَّبتِه الفائِقة للإنسان. وما رأَوه في المصلوبِ عليه من هدوءٍ وسيطرةٍ على العاطفة والحواس لُيختبرَ ما علَّمَه، وما يعترفُ به البشر بأنَّ العفوَ يصُّحُ عند المقدرة (متى26: 53)، فبَيَّن حُبَّه للبشر وقدرته إِذ أعلنَ غفران الله للبشر على خطيئتهم (لو23: 34)، وعلى كلِّ خطاياهم الفردية إِذا تابوا (متى18: 21)، عندما كان قادرًا على أن يُفنِيَهم ويدعَهم يهلكون (متى26: 53). وبعد رؤية العِلَّة وَّجَهَ المسيحي فآعتبر ما لحق الصلب ونتج عنه أي المجد الذي ناله المسيح، الذي توَّقعه ورجا به مُسَّبَقًا (يو12: 23؛ 17: 5)، والذي أظهره لتلاميذه بعد قيامته (لو24: 37-48) فأعلنوأ للعالم :” أنَّ الذي ذلَّه الناس ( ونبذه يو11: 57؛ 12: 10) رفعه الله ومَجَّدَه (أع2: 34-36).

يجبُ على إِبن الأنسان أن يتأَلم كثيرًا !

مجدُ يسوع التالي لصلبِه لم يَمْحُ ما أوصله إِليه وتحَمَّله عليه من إِهانةٍ وضيقٍ وشِدَّةٍ وألم (او9: 22؛ متى20: 18-19). وآفتخارُ المسيحي بالصليب أيضا لا ينسى أنَّ أيمانَهم لا يعفيهم من عذاب وضيق وألم، جسدي ونفسي. لم يتذَوَّق الأحياءُ منهم مجدَ الحياة مع الله للأبد، إنمَّا أخذوا ضمانه بالرجاء الذي وعدهم الله به. ويعرفون أنَّ الله أمينٌ لا يخون وعده. الله لا يكذب ولا يندم ولا يتراجع عن كلامه. وقرأوا أنَّ المجد الآتي عند الله يفوقُ بأضعاف الآلام التي نقاسيها على الأرض (رم8: 18). ويعرفون أن الثبات في الحق، رغم الضيق والظلم والجهاد من أجل العدالة ورغم شدَّةِ التجربة وقساوتها، لن يُزيلَ راحةَ الضمير ولا صفاءَ القلب، وهما كفيلان بصمود المؤمن المُجَرَّب، كما صمد يسوع أثناء آلامه. وقد سبق الرسل فذاقوا الألم وآختبروا الشِدَّة بسبب صمودهم في الحق والبر وآعتبروه جُزءًا من متطلبات إيمانهم. فقد قال بولس :” لقد أُنعِمَ عليكم أن تتألَّموا من أجل المسيح، لا أن تكتفوا بالإيمان به ” (في2: 29). وقال بطرس: ” من الأفضلِ أن تتأَلَّموا  وأنتم تعملون الخير، إن كان ذلك مشيئةَ الله، من أن تتألموا وأنتم تعملون الشر” (1بط3: 17). وعاشوا هذا المبدأ بالفعل :” فخرج الرسلُ من المجلس فرحين لأنَّ اللهَ وجدَهم أهلاً لقبول الإهانةِ من أجل اسم يسوع “(أع5: 41). فقبول الألم الآتي من الطبيعة دون تذمر، وقبول الظلم من الناس الأشرار دون تشَّكٍ ودون طلب الأنتقام بل مسامحة الظالم المجرم ، دون حرمان حَّق الدفاع عن العدالة والمطالبة بالحق، وذلك تشَّبُهًا بالمسيح وتطبيقًا لتعاليمه، حِفاظًا على المحَّبة وممارسَةً للغفران، تصُّرفٌ مِثْلُ هذا يريحُ النفس أكثر من الأقتداء بأهل العالم في الثأر بالعنف، والفرح بمرارة الأنتقام. وقد وصفَ بولس مثل كذا تصَّرف بأنَّه إختبار الصليب في الذات برفض فكر العالم، فقال: ” به صارَ العالم مصلوبًا لي، وصِرتُ أنا مصلوبًا بالنسبة إليه “(غل6: 14). ويبدو أن بولس يُشير بذلك الى كل العذابات والآلام التي لاقاها بسب تبشيره وأمانته للمسيح (2كور11: 24-29)، وكان بعضُ الغلاطيين المُتَهَّودين يُعَّيبونهُ عليها فرَدَّ عليهم :” لا يُزعجُني أحدٌ بعدَ الآن ، لأنّي أحملُ في جسدي سِماتِ يسوع ” (غل6: 17)، كما حملها فرنسيس الأسيزي، وكترينا السيانية، وريتا، وبادرى بيو وقديسون غيرُهم كثيرون.

هكذا نفتخر بالقيم الروحية الحياتية التي يرمز إليها الصليب. ونفتخر بالصليب نفسِه لأننا حملناه مع يسوع الذي حَمَلَنا في فكره وروحه وهو على الصليب. فكنا مصلوبين مع يسوع كما قال الرسول، به خُّلِصنا فنفتخر به، وليس بمادَّتِه الخشبية أوالنحاسية. كثيرٌ من الصلبان المادية كسرها أعداءُ المسيح إحتقارًا وآعتقادًا منهم أنَّهم يهُزّون إيماننا. لا لن يُؤَّثرَ علينا ذلك. كسروا الخشب أو أهانوا النحاس. أمَّا قِيَمُ المسيح فبقيَتْ تهُّزُ ضميرَ العالم. يُؤلِمُنا أنَّ من يفعلُ ذلك يرفضُ الحق والعدل والحب والسماح وبذلك يخسرُ الحياة في مجد الله وقد مات المسيح من أجل أن يشترك فيها كلُّ البشر. أمَّا صلبان الخشب والنحاس أو الورق أو الأيقونة فتُتلفُ يوميًا آلافٌ منها بسبب عتقها وتلفها بسبب الكوارث الطبيعية ولا يُهين ذلك المسيحية. لقد ظلَّ صليبُ المسيح، الذي وحده حملَ يسوع، قرابة ثلاث مائة سنة تحت الأنقاض في مزابل أورشليم ولم يفقد قدسيته، حتى أحيا مَيِّتًا مُيِّزَ بذلك عن صلبان اللصين. نفتخر بالصليب لأنه رمزُ إيماننا، ونسم به أنفسنا و نحملُه أين ما كنَّا ليُذكرنا بأن المسيح يسوع معنا يحمينا ويسند جهادَنا. بذكره وبممارسة قِيَمِه نتغَلَّبُ على الشرير عدو الحق والحب والعدل والغفران.