سؤالان : عن الله وأزلية المسـيح

طرح الأخ صباح يوسف، قبل إثنتي عشرة سنة، هذه الأسئلة يُعادُ نشرُها لمنفعة المؤمنين الكرام. كتبَ الأخ صباح ما يلي :” تصلني منشوراتُ شهود يهوه الناكرين لآلوهية المسيح كما نعرف، ويعترفون بيسوع المسيح أنَّه ابنُ الله ولكن غير مساوٍ في الجوهر، وأنَّه أولُّ خليقةٍ لله. جاء في إحدى نشراتِهم ما يلي : المسيحيون الأوائل لم يفَّكروا في باديءِ الأمر في تطبيق فكرة الثالوث على إيمانهم. لقد منحوا إخلاصَهم لله الآب وليسوع إبن الله. و آعترفوا بالروح القدس، ولكن لم تكن لديهم أيَّةُ فكرةٍ بأنَّ هؤلاءِ الثلاثة ثالوثٌ حقيقي، متساوون معًا ومُتَّحِدون في واحد. ويستشهدون بدائرة المعارف الكاثوليكية الجديدة التي جاءَ فيها ما يلي :” الصيغة ( إلهٌ واحد في ثلاثة أقانيم ) لم تتأسَسْ برسوخ ، وبآلتأكيد لم تُسْتَوْعَبْ كاملاً في الحياةِ المسيحية ومجاهرتها بالأيمان قبلَ نهايةِ القرن الـ 4… فبينَ الآباء الرسوليين لم يكن هنالك حتى ما يُقارب عن بعدٍ مثل هذا التفكير او هذه النظرية “.

ما قولك في هذا؟ ولاسيَّما ونحن نعلن عن يسوع المسيح في قانون الأيمان أنَّه ” مولودٌ غيرُ مخلوق “؟.

1ـ دائرةُ المعارف الكاثوليكية !

ما قالته دائرة المعارف الكاثوليكية” المُجَدَّدة “(أي المُطَوَّرَة بالمعلومات اللاهوتية والأفكار الجديدة ) بخصوص عدم وضوح أو رسوخ فكرةُ الثالوث كما هي اليوم عندنا، فهذا أمرٌ لا شَكَّ فيه ولا غرابة. فالعلم والمعرفة في تطور مستمر مع جهود الحياة نحو الكمال. لم يذكر الأنجيلُ أنَّ الرَبَّ يسوع لفظ عبارة الثالوث، لكنَّهُ ذكر أباهُ وروحَه القدوس. لم يُحَدِّثْهم أكيدًا عن التعابير الفلسفية اللاحقة، مِن : جوهر وعرض، شخصٍ وطبيعة وأُقنوم. لكنه ذكر أنَّه إبنُ الله وآبنُ الإنسان. كما تحَدَّث كيرًا عن الآب وعن الروح القدس، وذكر متى عند عماد يسوع صوت الآب وحلول الروح (متى3: 16-17)، وذكر يوحنا قول يسوع :” قبل أن يكون ابراهيم أنا كائن … وتشَوَّقَ ابراهيمُ أن يرى يومي فرآه وفرح ” (يو8: 56-58). ثم وصَّى يسوع تلاميذه أن يُعَّمدوا المؤمنين به :” بآسم الآب والأبن والروح القدس “(متى28: 19). ومتى كتب انجيله سنة 80م ويوحنا حوالي 100م. وإيمان الكنيسة قبسٌ من إيمانهم ومن أمنوا على يدهم وفي ضوء تعليمهم. وإن لم تبرز”عبارة الثالوث” لتترسَّخ في العبادة لكن علم الثالوث كان جزءًا أساسيًّا من الأيمان.

عاشَ المسيحيون الأيمان قبل أن يُحَرِّرَ الرسلُ كرازتَهم وشهادتهم في الأناجيل والرسائل. كان الرسل والتلاميذ مهتَّمين بإعلان البشرى وعيش المبادئ الجديدة لاسيَّما في الشهادةِ و المحبةِ والغفران (أع4: 20، 32-33 ؛ 2: 46-47؛ 7: 60). فالأيمان مصدر الحياة وليس حقلا للتعَّمق في الفكر الفلسفي، والحياةُ الجديدة، دافعُهم ومبتغاهم.    

وكانوا أيضًا منشغلين بآلحفاظ على الأيمان ضد حملات الأضطهاد التي دامت ثلاثة قرون. ولم يظهروا الأهتمام بشرح الأيمان والتعبير عنه بعباراتٍ منطقية، كتابية وعلمية فلسفية، إلّا عند ظهور نبتات الزؤان بينهم، ذئابٍ خاطفة تنوي تضْليلَهم (أع20: 29-30). فظهرت إجتهاداتٌ لاهوتية ردًّا على المُضّلّلين أوالساهين فحَدَّدت الأيمان المستقيم وصاغته بعبارات فلسفية منطقية وسهلة الإستذكار. بدأ ذلك منذ القرن الرابع الميلادي بعد أن نالت المسيحية حُرّية الفكر والعيش على عهد آلملِك قسطنطين. وكلُما ظهرت بدعةٌ وهرطقة جديدة أعلنت الكنيسة الحقيقة لتدحض الباطل.

ولمَّا لم يقوَ ابليسُ على إبادة أتباع المسيح بآضطهادهم، شنَّ هجومه على العقيدة، كي يُفسِدَ التعليم الإلهي ويزرع الفتنة والحسد، فيُلهيَ المؤمنين بفساد الأخلاق والمال والمناصبِ و الجاه. وعندها ظهرت  رغبة التزَّهد في الدنيا والترَّهب لمقارعة ابليس من داخل الكنيسة بإماتة الشهوات الجسدية والدنيوية من مال ومجد وقوَّة. وهكذا، بعدَ كل فترة أو جيل، تطفو على سطح الحياة المسيحية رؤًى جديدة لأيمان أعمق وأصفى وأشمَل، وذلك بفضل التعَّمُق في إدراك فحوى البشارة المسيحية، كما نقلها العهدُ الجديد، لمواكبة الظروف الجديدة للحياة ، أو مواجهة تحَدّياتٍ العصر. وهذه هي ثمارُ الدراسات والتأَمُّلات في الوحي بإرشاد الروح القدس الذي يقود عملية مقاومة الضلال ويُسَّلطُ الضوء على الحَّق.

هذا لا يعني أنَّ المسيحيين لم يؤمنوا بالثالوث. إنما لم يكن الشرح عنه مُفَصَّلا كما هو عليه الآن. إذ لم يحتاجوا الى التعبير عنه كما نفعل اليوم نحن. كانوا في الأيمان أبرياء وبسطاء كآلأطفال. إنَّما حرصين على نقاوته وعلى تقديمه للآخرين بلغة الشعوب ومفاهيم العصر. وفي جهادهم هذا زاغ البعض عن الحق وأخطأ وعلَّم بشكل خاطي، فسارعت السلطة الكنسية الى التنوير وتقويم ما كان أعوج، وأعلنت بقوة الروح القدس ما رأته صحيحًا و تأكدت من أنَّ الرَبَّ هو الذي يُرشدُها الى الحق. هكذا تصَرَّفَ الرسل (أع15: 1-35)، و هكذا تصَرَّفت الكنيسة وتتصَرَّفُ على مَرِّ الأجيال. فتظهرُ عقائد أو تعابير جديدة للأيمان لِمَا كان إيمانًا ضمنيًا ومُعاشًا. هكذا آمن المسيحيون من البداية بآنتقال مريم بالنفس والجسد الى السماء وعيَّدوا له، أما العقيدة فتحَدَّدت وأُعلنت فقط سنة 1950م. كما أننا نؤمن بمحبة قلب يسوع ونقيم ذبيحة جسده ودمه ولكن عيد الجسد وعيد قلب يسوع أوعز الرب بإقامتهما قبل حوالي مائتي سنة فقط. وعن أولية رئاسة بطرس أسقف روما وسلطانه في الحل و الربط (متى16: 19؛ أع15: 7-12) وعصمته عن الضلال في شأن الأيمان (لو22: 32)، وقد مارسها بطرس منذ البداية (أع15: 7)، لكنها لم تُعلن كعقيدة ملزمة إلّا سنة 1870م، عندما ظهرت حاجة الكنيسة الى ذلك.

هكذا بقدر تقدُّم الأنسانية في الزمن وفي العلوم وتشعب حاجاتها بقدر ذلك تُجَّدِدُ الكنيسةُ مصطلحاتها الأيمانية لتعَّبرَ عنه بدِّقةٍ يفهمها أهل كلِ ّعصر وشعب ويتبعوها براحةٍ وهدوء في مسيرة الخلاص. إنها قضيةُ التعبير لكشفٍ أدَّق وأصدق، أمَّا الحقيقة الأيمانية فهي تتركز على صورة المسيح الألهيه دون أن يتغَّيرَ شخصُه أوجوهرُه.

2ـ / 1* مولودٌ غيرُ مخلوق !

نُعلنُ في قانون إيماننا بأننا :” نؤمنُ برَبٍّ واحدٍ ، يسوعَ المسيح، إبنِ اللهِ آلوحيد؛ ونُضيفُ : المولودِ من الآبِ قبلَ كلِّ الدهور. إلَهٍ من إلَهْ. نورٍ من نور. إلَهٍ حَّق من إِلَهٍ حَّق؛ ونُكمِلُ :

مولودٍ غير مخلوقٍمساو ٍ للآبِ في الجوهرالذي على يدِه صارَ كلُّ شيء “.              

قبلَ أن نتحَدَّثَ عن ” مولود غير مخلوق” ، نقرأُ ما سبقها من إعلانٍ إيماني : يسوعُ هو ” مولودٌ من الآب ، أي من اللاهوت، قبلَ كلِّ الدهور”. أي قبل الخَلق الزمني، أي أزلي. وإذا كان يسوع أُزليًا فهو من جوهر اللاهوت، ولا يُمكنُ بأيِّ شكل من الأشكال أن نرى فيه ” خليقة “، من أيِّ مُستوى كان. لأنَّ يسوعَ ليس شخصًا مستقِّلا عن” المعرفة الألهية/ الكلمة،

الأُقنوم الثاني من الثالوث الأقدس، وإِن كانت طبيعتُه البشرية، ناسوتُه، مخلوقًا فِعلا، إِتَّخذه

من خليقةٍ هي مريم العذراء.

وكذلك ما تبعَ آيَتَنا، أي” مساو ٍ للآبِ في الجوهر” و” بهِ صارَ كلُّ شيء ” لا تتركُ المجال للتفكيرِ في أنَّ اللهَ خلقَ يسوع المسيح. كيف يكون مساويًا لله ومصدرَ كلِّ الخلائق إن كان هو نفسُه خليقة ، ولم يُخَّلفْ نسلاً بشريًا؟، ولا بنى في بشريتِه جبلاً ولا صنع تمثالاً ؟. لهذا أكَّد الأيمان أنه ” غير مخلوق”، بل هو” خالقٌ” ما دام به ” صار كلُّ شيء” .

وإيماننا يستندُ على ما نقله لنا الكتاب المُقَّدس، الأنجيل خاصّةً، وبقية أسفار العهد الجديد، و على تقليد فهم الكنيسة على مرِّ الأجيال، بقُوَّة الروح القدس وتسليمه للأنام (2بط1: 20-21). وعليه لا يجوزُ أن ندَّعيَ ما لم يُعَّلمْه الكتاب. وعلينا أن نتقَبّل بشرح الكنيسة وليس بما يرتأيه كلُّ واحدٍ منا. ولاسيَّما أن نكون حذرين لئَّلا نتوَرَّط في ما يَدَّعيه أعداءُ الكنيسة، وما يُشَّوهونه من تعليم.

يسـوع مولــود !

أمَّا عن يسوع أنَّه “مولود “، فهذا لا فقط لا يتعارضُ مع لاهوته بل يُؤَّكدُ سِرَّ الله الثلاثيَ الأبعاد : فاللهُ الواحد هو ” آب “، الوجودُ القدرة؛ وهو” إبن “، الفكرُ المعرفة؛ وهو”روح”، الحياة المحَبَّة. يكون قديرًا إذ يُوجِدُ غيرَه، ومعرفةً إذ يَخرُجُ عن ذاته ويكشفُها، وحياةً إذ  يُعطي ويُبثِقُ غيرَه بما له. يكون معرفة ومحبة إذ يتبادلُ الحُبَّ والحوار والتفاهم. كما أن في الشمس لا تخلقُ الكتلةُ الناريةُ النورَ ولا الحرارة بل يَظهَرُ النور ويكشف ذاته، كأنه يولدُ منه. أمَّا الحراة فتنبثق من كليهما، كما تنبثقُ رائحةُ العطر، مُقاسِمَةً ما لديهما ، مع الآخرين. هكذا في الله. فالكلمة يخرجُ منه :” آمنتم أني خرجتُ من عند الله. أتيتُ من لدن الله “(يو16: 28؛ 17: 8). وهذا الخروج سمَّاهُ يسوعُ نفسُه بـ “ولادة “:” وُلِدتُ وأتيتُ العالم ..” (يو18: 37). و عليه طبَّق كاتبُ الرسالة الى العبرانيين فكرته إذ قال :” لِمَن من الملائكة قال اللهُ يومًا : أنتَ إبني وأنا اليومَ ولَدْتُكَ؟. وأيضًا ” سأكون له أبًا ويكون لي إبنًا “؟ (عب1: 5؛ مز2: 7). وقال عن الروح :” لا يتكلمُ الروحُ بشيءٍ من عنده. بل يتكلم بما يسمعُ ويُخبرُكم بما سيحدُثُ. سيُمَّجدُني لأنَّه يأخذ كلامي ويقوله لكم. وكلُّ ما للآب هو لي” (يو16: 13-15).

لقد أكَّدَ الأنجيلُ بُنُّوةَ يسوع الألهية لأنَّه خارجٌ من الله :” وآبنَ العلي يُدعى … فالمولودُ منكِ يُدعى قُدّوسًا وآبن اللهِ العلي “(لو1: 32-35). وهكذا عرفَ يسوع ولادتين : الأزلية من اللاهوت قبل وجود أيَّةِ خليقة؛ والزمنية في الناسوت من مريم العذراء. فالولادة هي إذن إنبثاقٌ من الآخر، إمتدادًا له، بينهما مساواة، وليس تصنيعًا من آخر يَسبِقُهُ ، بينهما تفَوُّقٌ وتقليل، كما هي الحال بين طفلٍ وأباهُ.

أمَّا الخلقُ فليس صُنعًا من شيءٍ سابق بل هو تكوينٌ من عدم، من لا شيء. ينال وجودَه من مصدره الخالق. وكما أُعطيَتْ الحياةُ الألهية لناسوت يسوع بقوة الروح الحَّي والمُحيي، هكذا نالت كلُّ الخلائق وجودَها بالكلمة الألهية التي خرجت منه، أي بقوة المعرفة والحكمة الألهية. لم يكُن “الكلمةُ ” خليقةً حتى يصنع غيره. ولو كان الأمر كذلك ما كانت ستكون الكائنات مخلوقةً بل فقط مصنوعَةً من مادة سابقة. وما كانت ستكون خلائقَ الله، بل صنائعَ الخليقة الأولى فقط. كانت ستكون فقط تحويلا من صورة الى أخرى كما يفعلُ الأنسان بالإنجاب. بينما الخلقُ هو عطاءُ الله من وجوده لكائناتٍ أُخرى.

لذا كلُّ شيءٍ هو فعلا مخلوقٌ من الله. إنَّما يسوع ليس لا شيئًا ولا كائنًا مختلفًا عن الله. بل

هو الله: ” من رآني رأى الآب” (يو14: 9)، صَرَّحَ يسوع، وأيضًا :” أنا وآلآب واحد” (يو 10: 30). وقد إمتَعَضَ اليهود كثيرًا وآستنكروا إعلان يسوع مساواته لله (يو5: 18)، فرَدَّ عليهم أنهم متَوَّهمون وجهلة لأنهم ” لا يعرفونه ولا يعرفون الآب .. وسيموتون في خطاياهم … وهو لا يعملُ ولا يقولُ شيئًا من عنده .. بل خرج وجاءَ من عند آلله، ولم يأتِ من تلقاء ذاته..”(يو8: 19، 24، 28، 42). إعتبر القادةُ اليهودُ كلامَه كُفرًا فرفضوه ، و حاولوا رجمه (يو10: 31-33)، وسعوا الى قتله لأنه” قال بأن الله أبوه، فساوى نفسَه بالله “(يو5: 18)، وفي الأخير إتَّهموه بالتجديف، لأنَّه أكد لهم أنه “المسيحُ ابنُ الله”، الموعود والمنتظر فحكموا عليه بالموت (متى26: 63-66). ولو لم يكن إلَهًا فكيف كان يعلمُ ما في داخل الأنسان من فكر ونيَّة ؟ (يو7: 25)، ويرى الناس في مكانٍ مختلفٍ و بعيد ؟(يو1: 48)، ويشفي المرضى من بعد وبدون معاينة؟ (لو7: 1-10). وإن كان في جوهره إِلَهًا فلا يمكن أن يكون في نفس الوقت مخلوقًا!.

2* أول خليقة لله !

هكذا قال شهودُ يهوه، لينكروا لاهوت يسوع. ونسبوا العبارة الى الكتاب المقدس. للأسف حرَّفوا ما كتبه مار بولس. ليس أمرًا غريبًا على أعداء المسيح!. أما مار بولس فقال لأهل كولسي عن يسوع :” هو صورةُ الله الذي لا يُرى. وبكرُ الخلائق كُلِّها ، به خلقَ اللهُ كلَّ شيءٍ … به وله خَلَقَ اللهُ كلَّ شيءٍ ..هو رأسُ الجسد .. وهو البدءُ وبكرُ من قام من بين الأموات ..” (كو1: 15-18). بكرُ الخلائق لا تعني هو مخلوق، بل هو رأسُ، قائدُ البشر، أو في بدء عمل الله الخَّلاق كما قال يوحنا في رؤيا 3: 14؛ ويُفَّصلُ الشرحَ فيه في الأنجيل حيث قال:” في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وكان الكلمةُ اللهَ ..به كان كلُّ شيء.. فيه كانت الحياة… جاءَ الى العالم ليُنير كلَّ إنسان. كان في العالم، وبه كان العالم .. وصار بشَرًا .. فرأينا مجده ” وكان موجودًا” قبل يوحنا المعمدان ..(وقبل ابراهيم ؛ يو8: 58) ولم “يرَ أحدٌ الله. الألهُ الأوحد الذي في حضن الآب هو الذي أخبر عنه” (يو1: 1-18).

أكَّدَ الكتابُ بأنَّ كلَّ شيءٍ خُلِقَ على يد يسوع،”به “. فهو المعرفة والحكمة الألهية ” الكلمة”. كلُّ شيءٍ خلق بحكمةٍ أي بنظامٍ و لِهَدَف. فكل شيء يخضعُ لنظامٍ حيوي يقود الحياة الكونية أو حياة كل فئةٍ وجنسٍ من الكائنات. وبما أنَّ الخَلقَ يُعزى الى الله، ويسوع هو الله فهو خالق. القدرة الألهية أوجدت، والحكمة الألهية نسَّقت ، والحياة آلألهية أحيت. ويبقى العملُ واحدًا لله الواحد. وليس هذا الفعلُ تواليًا، بل آنيًّا معًا في نفس الوقت. ولمْ ينتهِ بل ما يزالُ مستمِرًّا: ” ما زال أبي يعملُ الى آلآن، وأنا أيضًا أعملُ ” (يو5: 17).

فالرأسُ والبدءُ لا يعني إذن ” أول خليقة “. أبدًا. بل أنه لمَّا إبتدأ الخَلقُ كان الكلمة/المسيح موجودًا في لاهوته:” كان قبل كلِّ شيء، وبه قِوامُ كلِّ شيء” (كو1: 17). وكان موجودًا في ناسوته أي كان التجَسُّدُ في الفكر الألهي. وأنَّ عمليةَ الخلق ليست منفصلة ومُجَزَّأة، بل مُوَّحدة ومتواصلة، وما تزال (يو5: 17). فأمرُ التجَسُّدِ والفداء كان في فكر الله وتخطيطِه يسبقُ خلق الكائنات. لأنُه ما دام هو الخالق فهو يعرفُ منذ الأزل كلَّ شيء. فهو لا يتغَيَّر. ولا يخطأ حتى يُصَحِّحَ أو يُرَّقعَ عمله. عِلمُه وقرارُه أزليان. فقبل أن يخلقَ الأنسانَ وقبل أن هذا يخطأ، كان تجسُّدُ الأبن حاصلا في فكر الله ومشيئته. لكنَّ تحقيقه الزمني سيتبع سقوط

الأنسان. وهذا يُمَكِّننا أن نقول بأنَّ ناسوتَ يسوع أولُ الخلائق ورأسُها. وأتت عبارةُ الرأس

أيضًا بمعنى ” أعظم وأرقى” (كو2: 9)، أو المسؤول الأول يقودُ غيرَه كما يقود الرأسُ

أعضاء الجسم (كو1: 18).

أمَّا ” بكرُ الخلائق” فيشرحُها مار بولس في رسائله. يقول لأهل كولسي ” هو البدءُ وبكرُ من قام من بين الأموات، لتكون له الأولية في كلِّ شيء ” (كو1: 18) لأنه الأول الذي عاد الى الفردوس المفقود، فاتحًا لغيره طريق الحياة مع الله (تك3: 24). كذلك يقول في 1 كور 15: 23 :” كما يموت جميع الناس في آدم فكذلك سيحيون في المسيح. كلُّ واحد له رتبتُه. المسيحُ أولا لأنه البكرُ، ومن بعده الذين يكونون خاصّةَ المسيح”. ودعاه في رم8: 29:” ليكونوا على مثال صورة ابن الله فيكون بكرًا لأخوةٍ كثيرين “. ويقول للعبرانيين بأنَّ يسوعَ هو البكرُ أى أبنُ الله الوحيد” (عب1: 6). هكذا قال الأنجيل :” ولم يعرفها حتى ولدت إبنها البكر” (متى1: 25). فهذا البكرُ، الرأسُ، هو مُلكُ الله، إبنُه، وليس للبشر عليه حَقٌّ. حتى الوالدان يفقدان عليه الحَقَّ إلا إذا إشترياهُ من الله (خر13: 2-13؛ أح12: 2-4). وبتجَسُّدِه أصبحَ إبنًا للأنسان، واللهُ أخًا للبشر. وهو البكرُ والرأسُ لأنَّه لم يخطأ ولأنَّه هو البار قبِلَ أن يفديَ البشر بدمه، وفتح بذلك بابَ الخلاص ودخل المجد أوّلاً. لم يشترك أبرارُ العهد القديم في حياة الله ومجده. كانوا في آنتظار الفداء ليعودوا الى الفردوس. وعلى الصليب قال  يسوع للص اليمين:” اليوم تكون معي في الفردوس”؛ وأول ما سلَّم الروح” نزل الى نظارة الأبرار وبشَّرهم بالخلاص ” (1بط3: 19).

3* هل يتساوى الخالق والمخلوق ؟     

طبعًا يستحيلُ ذلك. وهل يعترضُ آلأنسان على حكمة الله؟؛ ” هل تقولُ الجبلةُ لجابلها: لماذا صنعتني هكذا “؟ (رم9: 20). طبعًا لا يليق. أمَّا ما جاء في سفرَي الأمثال والحكمة فليسَ الحديثُ مباشرةً عن المسيح، بل عن الحكمة الألهية التي هي المعرفة والفهم. فاللهُ أعلمُ واحدٍ وأحكمُ وأفهم. وحكمتُه وعلمُه أزليان معه. وهما آلأساسُ لبنيان الخليقة. ومن حكمته ومعرفته كشف ذاته وأفاضَ على خليقته (سيراخ1: 4-8؛ 24: 8-9؛ حك9: 4-9؛ أم8: 22-31). هذه الحكمة والفهم تتعَلَّقُ بسلوك الله، وهي طاقاتُ عمله. وقد تصَوَّرَ البعضُ أنَّها رمزُ الكلمة الألهي وتعنيه. وقد فَعَّلها الله في عمله الخَلاّق منذ الأزل. ولن تبلغَ مستواها حكمةُ البشر ومعرفتُهم مهما سمت. تبقى معرفة البشر محدودة وحكمتهم إزاء الله ” حماقةً وجهالة ” (1كور1: 21-25). ولا تتساوى بحكمة الله فكيفَ بِـ” ذاتِه الحكيمة الخَلاقة “؟. تُشبهُها فقط وتنهلُ منها.

أبسطُ مثال لعدم المساواة بين الخالق والمخلوق هو صنعُ آلةٍ وجهازٍ ما، كالسيّارة مثلا : هل تتساوى مع المهندس الذي صنعها؟. وإن لم تكن قادرة حتى ولا على الإعتراض (رم9: 20) فهل تقدر أن تنافسَه وتصنع نفسَها بنفسها حتى ولو بوجود المواد الأولية؟، فكيف تتساوى مع صانعها الذي صوَّرها أولا في عقله لتُحَقِّق الهدف الذي يريد بلوغه بواسطتها؟. وبما أنَّ يسوع هو الله فلا يمكن أن يكون في ذاتِ الحين خليقةً. كما لا يمكن لأيّةِ خليقةٍ أن تتساوى مع خالقها. إننا لا نرفغُ درجة المسيح يسوع الى اللاهوت. بل نعترف بهِ إِلَهًا تجَسَّد. فعند وجودِ غموضٍ في عبارةٍ ما علينا أن نفهمها في سياق الوحي كله لا معزولةً عن بقية نَصِّ الكتاب.

سمَّى يوحنا يسوعَ : الكلمة Logos ، أي العقل الألهي الذي نظم الكون والكائنات، وآتَّخذ

جسدًا بشريًا/ ناسوتًا به صار شبيهًا مثلنا. إنَّما لم يفقدْ لاهوته، كما لا يوجد فيه شخصٌ / جوهرٌ إنسانيٌّ بجانب جوهره الألهي. بل يوجدُ جوهرٌ واحدٌ إلَهيٌّ بطبيعتين : إلهية أزلية و إنسانية مخلوقة؛ وهذا هو سِرُّ التجسد.

4* الكلمة عند الله ، وهو الله !

عند الله أي لم يكُن خارجَ الله، مُنفصِلاً عنه أو معزولاً. لم يكُن غريمًا لله أو منافِسًا. لمْ يكن إلَهًا ثانيًا متحالِفًا مع الله. لم يكن من درجةٍ أدنى ولا أرفع. العقلُ صفةٌ جوهرية من ذات الله. وهو الله. كما لو قلنا : النور هو عند/ في الشمس. ليس النورُ الشمس كلَّها. لكن الشمسَ نورٌ. ولا شمسٌ بلا نو ر، ولا النور معزولٌ عن اللهب والحرارة. كانت الشمسُ أو الشمعة أو المصباح أو الفرنُ فهي ” نارٌ” بِـ” لهيبٍ ونور وحرارة. كلُّ بعدٍ من الأبعاد الثلاثة هي النار في بُعدٍ معَيّن. هكذا الله قدرَةٌ ومعرفةٌ وحياة، آب وإبن وروح.

مثله المثلثُ المتساوي الأضلاع والزوايا، كلُّ ضِلعٍ مُمَّيزٌ وله بعدُه الخاص، وحرفُه الخاص . لا يقوم ضلع من دون بقية الأضلاع، ولا يقومُ المثلث إذا نقص ضلعٌ. فالمثلث هو الأضلاع وما بينها. وكلُّ ضلع مرتبطٌ بآلآخرين. هكذا حال الأقانيم في الله. لا يقوم كلُّ أُقنومٍ وحدَه معزولا عن الآخرين. ولا فرق بين أُقنوم وآخر. وكلُّ أُقنوم يواجه زاويةً مختلفة متساوية القيمة تُكَّملُ الأُخريتين. وكما يُشَّكل التفاعلُ بين الأضلاع، مثل التفاعل بين أبعاد الشمس، هكذا يُشَّكلُ التفاعلُ بين الأقانيم الإِلَهَ الواحد : الله. لكل بُعدٍ مُسَّمى، لكل ضلعٍ مسَّمى، لكلِّ أقنومٍ مسَّمى، وكل واحد منهم من جوهر ذات الله أو الشمس أو المثلث. وما هو من جوهر الهي ليس سوى “” الله “” ، هو الله !.