ردودٌ على مقال ” حالة الموتى

أهلاً وسهلاً بالأخ عيسى إِسُّـو

عَلَّقَ الأخ عيسى على المقال، مُستفسِرًا أحيانًا وأُخرى منتَقِدًا، بعد مديح وختامٍ بالدُعاءِ و الصلاة من أجلي. سأذكُرُ تباعًا تعقيبًا بعد تعقيب وردِّي آلتوضيحي لكل تعقيب، بعون الرب.

أبدأُ بشكره على مشاعره ولاسيَّما على صلاته من أجلي،

طالبًا من الرب ألا يُحرمَه نعمتَه وعونَه، وأن يستجيبَ له كلَّ مطلب.

1ـ معرفة الإنسان عن الله ! 

كتب الأخ: ” الكتابُ يقول أنْ ما إنسانٌ على وجه الأرض لا يعلمُ بقصد الله، كان بالفطرةِ أو بإرشادِ الروح القُدُس”.

لو كان الأمرُ هكذا لماذا تحَمَّلَ اللهُ عناءَ التجَسُّدِ لنيل إهانة البشر من عُلماءَ وفرّيسيين وحقد الكهنة وحسدهم وتسليمه لعذاب الجلد والصلب؟. أما كان يكفي أن يحُّلُ الروح القدس على البشر فيعرفون الله ويفهمون مشيئته ويختارون بين تبعيَّتِه أو التنكر  له؟. يقولُ الكتاب أن البشر قادرون على أن يكتشفوا وجود الله من مشاهدة أعماله في الكون ، لكنَّهم لا يعرفون لا هويَّته ولا مشيئته. حتى الرب يسوع قال لليهود إن كان صعبًا عليهم إدراكُ هويته الألهية من أقواله ليعتبروا أعماله التي لا أحد غيره قادرٌ عليها ” إن لم يكن اللهُ معه ” (يو3: 2؛ 10: 37-38). كما أكَّد أيضًا للفرّيسيين أنَّهم” لا يعرفونه ولا يعرفون أباه ” (يو8: 19).

مع أنَّ روح الله كان يعمل في الخليقة. إلا إنَّ البشر لم يعرفوا أن يُميِّزوا بينه وبين روح الشرَّ الذي تغَلَّبَ على فكرهم وسلوكهم. لذا حَذَّرَ الرسول من مغَبَّة الوقوع في نفس الفخ و دعا الى التمييز بين ” روح الحَّق وروح الضلال” (1يو4: 1-6). 

فإن كانوا قد  رأوا ولم يؤمنوا (متى21: 32) فكيف يؤمنون ويفهمون قصد الله دون أن يروا؟. يَدَّعي الأنسان أنَّه يعرف الحَّق ويفهم بفطرته أو إستنتاجه لكَّنه يتوَهَّم كما قال بولس :” من هو الذي يعرفُ فكر الرب لُيُرشدَه”، ويُضيف ” ما يعتبره هذا العالم حكمةً هو في نظر الله حماقةً. فالكتابُ يقول : يُمسكُ اللهُ الحُكماءَ بدهائِهم” (1كور2: 16؛ 3: 19). وقال عنهم يسوع :” ما دمتم تقولون إنَّنا نُبصر، فخطيئتكم ثابتة ” (يو9: 41). فلو عرف البشر الحقيقة وسلكوا سبيل البر لما أخطأوا. كان البشر وما يزالون بحاجة الى تجسد الله في شخص المسيح ليكشف حقيقة جوهر الله الثالوث وقداسته في البر ومشيئته في المحبة و الرحمة و الغفران. وقد صَرَّح يسوعُ لبيلاطس:” وُلدتُ وجئتُ الى العالم لأشهدَ للحَّق” (يو 18: 37). لذا نحنُ الآن” لنا فكر المسيح” (1كور2: 16)، ونشهدُ له في العالم (أع1: 8).

2ـ الكتاب والمطهر !

سأل الأخ : ” أينَ يوجدُ شاهدٌ كتابي يذكرُ المطهر؟. لماذا لم يذكر الكتاب حتى ولو واحِدًا من بدء الخليقة الى الآن أحدًا لم يستطع التوبة، أو كان يجهلُ وأنَّه في مكان آلأنتظار؟. أو أصبحنا مثل باقي العالم الذين لهم إلَهٌ مُضِّلٌ، لا يذكرُ التفاصيل حتى لا يعرفوا الحقيقة، و بالتالي نكون في ضلال”. وأضافَ :” لا خلاصَ إلا بالأيمان بالمسيح المُتجَّسدِ والفادي والصليب والقيامة. غير هذا كلُّ الأُمور الأخرى هي هرطقة “.

ولم يَشُّك مسيحيان إثنان في أنَّ شخصَ المسيح وتعليمه هما الطريقُ الوحيد الى الآب (يو 14: 6). وأنَّ الكنيسة مُكَّلَفةٌ بأن تُشيرَ الى هذا الطريق فتعَلِّمَ ما أرادَه :” علِّموهم أن يعملوا بكل ما أوصيتكم به، وأنا معكم ..”(متى28: 20). والأخ يبحثُ عن حرف كلِّ الحقيقة ولن يجدَها في حرف الكتاب بقدر ما يجدها في فكر المسيح وحياتِه التي نقلها الكتاب. قال الرب :” أ يسوءُكم كلامي هذا ( عن أكل جسده وشرب دمه)؟ الروحُ هو الذي يُحيي، وأما الجسدُ (الحرفُ) فلا نفعَ فيه. وما تكَلَّمتُ به هو روحٌ وحياة ” (يو6: 63). ولم يقُل لتلاميذه” أُنقلوا حرفيًا ما سمعتموه مني” بل قال لهم ” أنتم شهودٌ لي” (أع1: 8). شهود لتعليمه ولسيرته. لذا علينا عندما نقرأُ الكتاب أن نتأمل بروح ما نقرأُه، أي أن نقرأَ بين الأسطر لنكتشفَ حقيقة ما توصلُه الينا كنيسة الرسل. يسوع لم يكتب شيئًا. ما كُتب عن يسوع وعن رسالته هي الكنيسة التي تشهد لما عاينت وسمعت ولمست وتأملت في كلمة الحياة (1يو1: 1-3). والكنيسة تستمرُّ في الشهادة بتفسير وتوضيح كلام المسيح.

نسيَ الأخ ما قاله يسوع لتلاميذه :” عندي كلام كثيرٌ أقوله لكم بعدُ، لكنَّكم لا تقدرون الآن أن تحتملوه. فمتى جاءَ الروحُ القدس أرشدكم الى الحقِّ كلِّه” (يو16: 12). المسيح لم ينتهِ. يمتَّدُ فعله بقوة الروح القدس الى نهاية العالم. علينا أن نُصغيَ الى الروح. يسوع مع الكنيسة وكلَّفها بالبشارة والمعمودية والتعليم (متى28: 19-20). لم يُكلَّف أيًّا كان بل الرسل، الهيئة العليا لرعاية قطيعه بقيادة بطرس رئيسًا لهم ، وضمن إستقامة إيمان بطرس (لو22: 31-32). فيهم نفخ الروح واليهم سَلَّم سُلطان الحَّل والربط (يو20: 22). ورفضَ أيَّة معارضَةٍ لبطرس (أع15: 7), ولتوجيهه (لو10: 16). الروح يكشف له ولمعاونيه معه أوجه الحقيقة المَبنيَّة على ما في الكتاب حسب ظروف وحاجة كل زمن. لم يذكر الكتاب توصية يسوع بآنتخاب بديل ليهوذا الأسخريوطي، ولا لإقامة الشمامسة الأنجيليين ، لكن الروح ألهمهم بذلك كما الهمهم بتبشير الوثنيين وبآختيار بولس وبرنابا أسقفين/ رسولين مثلهم لزيادة الفعلة في حقل الرب، ولآمتداد الرسالة. لا جديد في الوحي. إنمَّا ما يجري هو كشفُ ثمر الأغصان وفروع جذع الشجر.

فالكنيسة تعيش إيمانها بالمسيح وتشهد له عبر الأجيال وتستنبطُ السبل الكفيلة لحماية هذا الأيمان. لا تتوقف على أعتاب البشارة الأولى. بل تُمَّدِدُها وتُوَّسعها الى ملء قامة المسيح. الكنيسة التي كتبت الأناجيل والعهد الجديد بقوة الروح القدس، تعودُ وتُفَّسِرُهُ بنفس القوة لبنيان بيتها الألهي. ليس كلُّ مؤمن مُؤَّهلا لتفسير الكتاب. بل يقول مار بطرس :” إعلموا قبل كلِّ شيء أن لا أحدَ يقدرُ أن يُفَسِّرَ من عنده أيَّة نبوءةٍ في الكتبِ المقدَّسة، لأن ما من نبوءةٍ على الإطلاق جاءَت بإرادةِ إنسانٍ ، ولكن الروح القدس دفع بعضَ الناس الى أن يتكلموا بكلامٍ من عند الله ” (2بط1: 20-21). والروح الذي أوحي في كتابة النص هو وحده يوحي أيضًا لمن إختارهم كيف يُقَّسرونه. ليس التفسيرُ هرطقةً إنَّما الهرطقة هي ألا يعترف الواحدُ بالكنيسة ويَدَّعي الروح القدس لنفسه من غير أن يكون مُؤَّهلاً لذلك. ومن يرفض تعليم الكنيسة يرفض المسيح، بل الله مباشرةً (لو10: 16).   

3ـ المطهر في الكتاب المقدس !

ودليل الكنيسة عن حقيقة المطهر هو الكتاب نفسُه. لقد ذكرتُ في المقال كلام يسوع عن تصفية الحساب مع الله عن حياتنا التي هي مُلكه خلال مسيرتنا الزمنية قبل الموت لا فقط بالتوبة بل وأيضًا بالتكفير عن خطايانا كي لا ندفع ثمنها بعدَ الموت ” في سجن المسيح ، قاضي العدالة الالهية” حيث نتطهر من العقوبات المترتبة عليها، وقد سبقت التوبة عنها قبل الموت. وإلا ما معنى قول يسوع” يدفع آخر فلس”؟. إِن كان الشخصُ هالكًا يدفع الثمن مدى الأبدية، وإن كان في السماء لا دين بعد في رقبته ليوفيه؟ (متى5: 25-26). أو ما معنى” لا تُغفَر خطيئة التجديف ضد الروح القدس لا في هذه الدنيا ولا في الآخرة” (متى12: 32) إذا لم يكن بعد الموت، من لم يهلك ابديًا ولا دخل المجد بعدُ ولا يمكن أسعافه؟. عن أي غفران يتكلم الرب، إن لم يكن عن التكفير عن الخطيئة بعد غفرانها؟. لأنه لا الممجد يحتاج الى غفران، ولا الهالكُ يحصل عليه.

1* ذبيحة تكفيرية !

مع ذلك طلب الأخ شاهدًا حرفيًا. ما رأيُه أن يقرأَ في سفر المكابيين (2مك12: 38-45)عن ذبيحة غفرانٍ تقَدَّم عن روح جنود مقتولين أساؤوا الى إيمانهم، صلى القائد يهوذا مع جنوده الى الله ” ليمحو تلك الخطيئة “. ثم جمع منهم تبرعات وأرسَلها الى أورشليم لتُقَدَّمَ عنهم ذبيحة تكفيرية. وقال عنه الكتاب:” وكان ذلك خير عملٍ وأتقاه لأيمانه بقيامةِ الموتى. ولولا رجاؤُه .. لكانت صلاته من أجلهم باطلة، أو لو لم يعتبر أنَّ الذين ماتوا أتقياءٌ ينالون جزاءًا حَسنا، وهو رأيٌ مُقَدَّسٌ وتقيٌّ. لهذا قدَّم الكَفّارةَ عن الموتى ليغفرَ الربُّ لهم خطاياهم”. وهنا يلتقي مع قول مار بولس في (1كور3: 15):” ومن إحترق عملُه خسرَ أجرَه. أمَّا شخصُهُ فيخلُص كمن ينجو من خلال النار”، نار ذبيحة التكفير. فالجنود المخالفون للشريعة وحملوا معهم تمثال الصنم، عن إعتقادٍ أو خوفٍ من الموت، إحترق فعلهم فلم ينجوا من الموت بل ماتوا. ولكن بساطتهم دلَّت على صفاء نيتهم وايمانهم. وهذا يتشفَّعُ لهم بعدم الهلاك. وتحَمَّلَ رفاقُهم ثمن الذبيحة التكفيرية لتدفع عنهم دين العدالة الألهية.

2* سجن الأنتظار !

ذكرتُ خبر متى عن سجن لدفع الدين “الى آخر فلس”. نعرفُ أنَّ الأنسان عندما أخطأ حُرم من مشاركة مجد الله ونعيمه. وبقي الموتى الأبرار لا يرون وجه الله حتى موت المسيح الكَفّاري الذي وفى دين كل الناس كفَّارة عن الخطيئة الأصلية، التي إقترفها الإنسان عن جهل وبدون نيَّةٍ سَيِّئة. لما مات المسيح قام بعضُهم (متى27: 52-53). أين كانوا؟ قال متى في قبورهم. أمَّا بطرس فأوضح ذلك بقوله :” مات المسيح في الجسد لكنَّ اللهَ أحياهُ بالروح. فآنطلقَ بهذا الروح يُبَّشِرُ الأرواح السجينة التي تمَرَدَّت فيما مضى..” (1بط3: 18-19). و ما السجن أو القبر غير البعد عن فردوس الله، غير إنتظارٍ ( كما طلبه الأخ عيسى ) الى أن يكتمل التكفير عنهم. والمُكَّفر كان غيرُهم. وعلى كل هذه وغيرها من أمثلة إفتهمت الكنيسة قول المسيح وفسَّرته فدعته ” المطهر”، وصَلَّت من أجل ” الأنفس المطهرية ” ، ما أيَّدته مريم العذراء وطلبت الصلاة والإماتات من أجلها، ذلك سنة 1917 في فاتيما.

4ـ فكرة المطهر خيال !

كتب الأخ :” فكرة المطهر هي من خيال رجال الدين إختلقوها لكسبِ المال والأستفادة من ذلك “. وطلب إلغاءَ القداسَ المُؤَّبَد. وقد تأثر من موقف عاينه هو:” ماتَ شابٌ، أبوه غني، دفع مبالغ طائلة للكنيسة حتى يُذكرَ اسمُ الولد، والمبالغ يُحسَدُ عليها ( يا سَتَّار !!). وإذا كان يغيبُ الوالد ايَّ يوم عن الكنيسة كان لا يُذكر اسمُ ابنِه مع الموتى” !!.

ولم يذكر هل الكنيسة أوالأسقف أوعز بذلك أم كاهنُ الرعية تصَّرفَ من عنده!. وحتى لو تصَّرف الأسقف هكذا يبقى فعلُهم خطئًا شخصيًا وليس من تنظيم الكنيسة. إنَّ سوء تصَّرف البعض لا يدُّلُ لا على خطأ العقيدة ولا على قبول الكنيسة بالخطأ. ثم لا يقدس كل يوم بل مرّاتٍ معدودة خلال السنة وفي أيّام محَدَّدة مثل الأعياد او المناسبات. وليس من الضروري إعلان اسم الميِّت بقدر الصلاة على نيته في ذلك القداس. ولم تُبْنَ عقيدة المطهر على أساس إقامة قداديس مؤَّبدة. وحسنة القداس لم تظهر إلا في القرون الوسطى بينما الصلاة من أجل الموتى تعود الى الرسل. قبل إقامة القداديس بشكل منتظم صلَّى المؤمنون من أجل موتاهم من عهد الرسل. بل فكرة إغاثة الموتى خلقت أساليب لذلك.

ففي سياقِ الحديث عن قيامة الأموات التي لم يهضمها الكورنثيون بسهولة كتب لهم بولس: ” إن كان الأمواتُ  لا يقومون {{ أي لا توجد لا جنَّة ولا جهَّنم ولا مطهر! }}، فماذا ينفعُ الذين يقبلون المعمودية من أجل الأموات؟.لماذا يعتمدون من أجلهم “؟ (1كور15: 29)..     

كورنثيٌّ آمن وآعتمد يُفَكِّرُ كيف يمكن أن ينفع والده المتوفي وهو وثني قبل معرفة المسيح. أو آمن بالمسيح ومات قبل أن يعتمد. يطلبُ أن يُعَّمَدَ هو نفسُه من جديد من أجل أن يخلصَ والدُه، كما لو كان الوالد هو الذي آمن وآعتمد.

الأيمان هو أولآً الحياة بعد الموت، فالأنسان لا يفنى. وثانيًا الخلاصُ بالمسيح وحدَه. ثالثًا المسيح هو حلقة الوصل بين الأحياء والأموات ليتواصلوا ويتعاونوا بينهم خاصّةً عن طريق الصلاة. وسيكتبُ بولس بعده لتلميذه ومعاونه طيمثاوس، أسقف أفسس، بأن يُقيم ” الدعاء والصلاة والأبتهال والحمد من أجل كل فئات الناس …وأن يُصَّليَ الرجالُ في كلِّ مكان رافعين أيديًا طاهرة من غير غضبٍ ولا خصام” (1طيم2: 1-8). بينما ذكر سفرُ الرؤيا أن صلاة المُخَّلَصين يرفعها الملاك مثل بخور أمام الله (رؤ5: 8؛ 8: 4).

وفي كلِّ قداس نُصَّلي من أجل الأحياء والأموات، كما صلَّى يسوع على الصليب من أجل الذين ماتوا قبله وكانوا ينتظرون الخلاص، والذين سيموتون بعدَه ، و الخلاصُ بين أيديهم.