حُّـرية الأولاد في الـزواج !

لقد تطَّورت الحياة وطغت مباديءُ الحرية وحَّق تقرير المصيرلكل انسان. ولتعاليم الأنجيل دورٌ رياديٌ في ذلك. لأنَّ كلَّ إنسان فرد، فتاةً كانت أو شابًا، هو صورة خاصة لله. واللهُ حُّرٌ يتصَّرفُ بمسؤولية ، وطلبَ من الأنسان أن يمارس دورَ الله نفسَه في قيادة الكون ، ويختارَ بنفسِه ولنفسِه مصيرا خاصًّا. يحُّقُ لكل انسان بل يجبُ عليه أن يمارسَ حرّيتَه ومسؤوليتَه عن كل تصَّرفاتِه. الحَّقُ والواجبُ معروضان على كل واحد بمفرده لا يُفرَضان. لذلك يمكنُ أن يلتزمَ به الواحد أو أن يُخالفَه حسبَ قناعتِه. اللهُ أبُ الأنسان ومصدرُ حياتِه نصحَ الأنسان منذ أن خلقَه وأرشده الى الحق وأراه سواءَ السبيل، لكن الأنسانَ تبع قناعتَه وخالفَ خالقَه ، ولم يُقاصِصْه اللهُ بل وعدَه بأن يُعَّلمه كيف يخضع له ويتبع وصاياه. ولا يزالُ الأنسان الى يومنا هذا يتبعُ قناعاتِه ورغائبَه مهمِلا نصيحة الله. وهذا يخلقُ أحيانا توَّتُرًا بين أفراد العائلة الواحدة ، بل إنقساما مريرا لا يندملُ جُرحُه بسهولة.

من هذا القبيل تشَّكى شبابٌ من خلافاتٍ تذُّرُ قرنَها بين الوالدين والأولاد لاسيما بخصوص الزواج الذي يريده الأولادُ على ذوقهم وآختيارهم وقناعتهم ، بينما يريد الوالدان تزويجَ أولادِهم حسبَ رؤيتهم وآختيارِهم هم. فطرحوا أسلةً يمكنُ تقديمها كالآتي :

# هل يحُّقُ للآباء أن يتخلوا عن أبنائِهم بسبب زواج الأبناء من فتياتٍ لا يرضاها الأبوان ؟

## هل يُعتبَرُ خطأُ الأبناءِ سببًا كافيا ليتخلى عنهم الآباء، بحُّجة أنَّ الزمن كفيلٌ بتربيتهم ؟

### هل يحُّقُ للآباء أن يحرموا أبناءَهم من الميراث أو مساعدتهم في زفافهم إذا تزَّوجوا مَن لا يرضون بها ؟

#### هل موافقة ولّي الأمر شرط ٌ أساسي لصّحةِ زواج الفـتاة ؟

##### هل يحُّقُ للأبن أن يتزوَّجَ من دون موافقةِ ولي الأمر؟ وإذا فعل عل يُعتبَرُعّاقًا ؟

###### هل يحَّق للأبن إختيارُ شريكةِ حياتِه ، إذا كان إعتراضُ الوالدينِ غيرَ مُبَّرَرٍ ؟

حَّـقُ الآبـاء ، و ، حَّـقُ الأبنــاء !

للآباءِ حَّقٌ على الأبناء مثل حَّقِ الله :” أكرِمْ أباكَ وأُمَّك “. وإكرامُ الوالدين يعني الخضوعَ لهما والتعَّلمَ منهما الى سّنِ البلوغ، ومداراتِهما وقضاءِ حاجاتهما لاسيما في سّن شيخوختِهما. بعد سّن البولغ يُصبحُ الأبن أو البنتُ حُرًّا في آختياراته وسلوكه، كلا جَّيدًا أو سَّـيئًا. لأنَّ سّن البلوغ يعني أنَّ الولدَ أصبح قادرًا على التمييز بين الخير والشر، وأصبح جاهزًا لتحَّمُلِ قيادةِ ذاته ، وذلك بممارسة فكره ومشيئته، أي حرّيتِه في آختيارِه. هذا حَّقٌ طبيعي لكل فرد. مهما كان الآباء مصدر الحياة نسبةً الى أولادهم إلا إنَّ حياة الآولاد تبقى مستقلةً وشخصية مختلفة عن الآباء. لأنَّ الآباء لا يخلقون أبناءَهم بل يُعطونهم فقط حصَّتهم من الحياة ما أخذوه من الله . يستقبلُ الآباءُ حياةَ أبنائهم نعمةً من الله ويُكَّلفون بحماية تلك الحياة وترويضِها على الأنفتاح الحسن على الدنيا ومساعدتها على التثقيف الضروري والتدريب الجيد لعيشِها بالشكل الذي يريدُه الله. عليهم أن يسهروا ليُكَّونوا من أولادِهم أبناءَ لله مُسَّلَحين بالمعرفة التامة والأرادة الحسنة والقوية لآختيار طريق الحق والبر. عليهم أن يُدَّربوهم على الأستعمال الجيد للحرية و يُوَّعوهم على الشر ومخاطِره وطرقِه الملتوية. بعد بلوغ الأبناء السّنَ القانوني لا يحُّقُ للآباء أن يتحَّملوا بعدُ مسؤوليتهم ولا يجوزُ لهم أن يُقَّرروا مصيرَهم. ذلك من حَّقِ الأبناءِ وحدَهم و من مسؤوليتِهم أن يسلكوا حياتهم كما يشاؤون. لما إختارَ قايينُ قتلَ هابيل نصحَه الله بعدم قتلِه لكنه لم يُلغِ حُرّيَتَه. لما توَّلى بعضُ تلاميذِ يسوع عن إتّباعه وآنقطعوا عن مصاحبتِه بسبب تعليمِه لم يُرغِمْهم على التراجع ولا عاقبَهم ولا هدَّدهم ولا تخَّلى عنهم. بل تركهم يُمارسون حَّقَهم وحرّيتَهم في آختيار ما شاؤوا (يو6: 66-67)، لأن تلك مسؤوليتُهم ، فمن حَّقهم ومن واجبِهم أن يختاروا طريقَ حياتهم حتى لو أخطأوا. وفي مَثَل الأبن الضال إحترمَ الأبُ حَّقَ إبنِه في آختيارِه ترك البيت الأبوي وتبذير أموالِه. ورغم ما فعل لم يتخَّلَ عنه. بل لما رجعَ نادمًا بعد خسارةِ أموال أبيه إستقبَله أبوه بفرح دون أن يُحاسبَه أو يُعاقبَه. إحترمَ الأبُ قرارَ آبنه وتحَّملَ الأبنُ مسؤولية خطّأِهِ وتعَّلمَ من الدهر قساوة الحياة عند مخالفةِ الروابط العائلية والأنظمة المرعية ، فآختبَرَ الندامة والتأوبة.

حقـوق الـزواج و التــولية !

الآباءُ أولياءُ أمور أولادِهم القاصرين ، أي مَن لم يبلغ منهم بعدُ أو من يُعانون عَوَقًا فكريًا لا يقدرون بسببه أن يقَّرروا زواجَهم، يتولى أمرَهم والداهم الى أن يزول العوق أو يصلوا سن البلوغ. وهذا أمام القانون الديني والمدني.

أما الأولاد الكاملون والبالغون ، أي أتَّموا ثمانيَ عشرة سنة، ولا يُعانون من عوق فكري أو نفسي فهؤلاء مسؤولون عن أعمالهم ويتحملون نتائجها أما الكنيسة وأمام الدولة. والزواجُ الذي هو من حَّق كل إنسان (القانون الكنسي، رقم 778) يخضعُ لهذا المبدأ ، وعلى طالبي الزواج الجدد، لا ذويهم، أن يتحَّملوا مسؤوليتَه. ويتمُ الزواجُ بناءًا على رضى شخصي للولد وللفتاة ( القانون رقم 776)، ولا ذكرَ لتولية الوالدين على أيّ منهما. يقولُ الشرع عن الرضى لعاقدي الزواج بأنه :” فعلُ إرادةةٍ به يتعاقدُ الرجلُ والمرأةُ تعاقُدًا لا رجوعَ فيه ، على أن يُقَّدم كلُ واحدٍ منهما ذاته للآخر، ويقبلُ الآخرلأقامةِ الزواج. وما من قوَّةٍ بشرية تستطيعُ أن تقومَ مقامَ هذا الرضى” (القانون رقم 817 بند 1 و2). أين هي مكانةُ الوالدين أو دورُهما في هذا الرضى الذي يُعلنُ أمام الله والكنيسة؟. يمنعُ الشرع أيضا أيَّ إكراهٍ أو تهديدٍ على الزواج أو على منعهِ (القانون رقم 825).هذا لا يمنعُ الوالدين من إبداءِ رأيِهما المخالف لأرادةِ أولادِهما. كما لا يمنعُ المقدِمَين على الزواج من أن يطلبا رأيَ والديهما ورضاهما وصلاتَهما. ليس رضى الوالدين شرطًا أساسيًا لزواج أولادِهما. على الشابين أن يختارا مستقبلَ حياتِهما ويقررا الزواجَ من الشريك الذي يقتنعان أنه هو جُزؤُهما المُكَّمِل. تلك حياتُهما ومسؤوليتهما وقرارُهما.

ما جمعـه الله لا يُفَّـرقُه الأنسان !

يجمعُ الله أولا بين الأفكار ثم القلوب ثم الأجسادِ. يزرعُ الحُّبَ بين إثنين داعيا إيّاهما الى تكوين أسرةٍ جديدة. ولى الوالدين أن يُعَّلموا أولادهم كيف يختارون الشريك الصحيح الملائم ، لا أن يختاروا هم لهم شريكا حسب ذوقهم وقناعتهم. المهم أن يكون وفاقٌ تام بين وجهات النظرللخطيبين وليس بين خطيب و والدي الحطيب الآخر. عند الزواج يخرج الولد من العُّش الأبوي ليبني عُّشا آخر جديدًا مع شريك له خاص غير الوالدين : ” يترك الرجلُ أباه وأمَّه و يلزم إمرأته فيصيران جسدًا واحدًا”(تك2: 24؛ متى 19: 5). يقوم هذا البنلءُ الجديد على فكر ورغبة الأطراف المعنية، الشاب والشابة. هما يُهندسان له حسب طموحاتهما وتطَّلُعاتهما محاولين التقَّيُدَ بالأسس والخطوط العامة ، تاركين التفاصيل لذوقهما الخاص. لأنهما هما اللذان يعيشان فيه وليس والداهما. وإذا كان الله قد جمع بين إثنين فعلى الأهل أن يتعاونوا مع مشيئة الله ولا يُعارضوها حتى لو عارضت تلك المشيئة قناعتهم و رؤيتهم للحياة.

جــواب الأســئلة !

إختيار شريك الحياة : هذا الأختيار من حق الأولاد حصرًا. قد يساعدُ الوالدان في هذا الأختيار بالتوعية وبآستغلال خبرة حياتهما الشخصية، إنما لا يفرضان إختيارا ولا يمانعانه. حتى لو كان إعتراض الوالدين في محَّله إنما يبقى القرارللولد ليختارشريك حياته، لأنها حياته عقـوق الولـد : من الأفضل أن يترَّيث الأولاد عند معارضة الأهل ويحاولوا التفاهم على مبدأ المحبة والحرية والحق الفردي في الأختيار. وإذا رفض الوالدان وأصَّرا على الرفض المطلق، للولد عندئذٍ أن يختار بين أن يتزوج بحريته أو يخضع لمشيئة الوالدين. وإذا تزوَّج خلافا لرغبة والديه فالكنيسة لا تمنعه عن الزواج ولا تطلبُ رضى الوالدين.

موافقة الولي وصحة الزواج : ليست موافقة الولي شرطا لا لصحة زواج الفتاة ولا لصحة زواج الولد. الكنيسة الكاثوليكية تؤمن بحق كل واحد في تقرير مصيره بنفسه. لأنَّ كلَّ واحد شخصيةٌ قائمة بذاتها بالرغم من علاقة الأبوة والبنوة. يجب أن يكون الأحترامُ بين حَّقِ أفراد الأسرة متبادَلاً. يتعاملُ الله مع كل واحد كصورة له يُكَّلِفُه بتمديد الحياة وتطوير الكون ويحاسبُه على ذلك :” يُحاسبُ الرب كلَّ آمريءٍ على قدر أعمالِه” (متى16: 27).

حَّقُ الآباء والحرمان من الميراث : الميراث هو الثروة التي جمعها الأب بعمله أو ورثها من آبائه. المهم هي مُلكُه. من واجبه أن يصرفَ على الأولاد ما داموا قاصرين. ومن واجب الوالدين أيضا” أن يذخروا للبنين” ويُنفقوا عليهم (2كور12: 14). أما عند بلوغ الأبناء فعليهم أن يُدَّبروا شؤونهم بأنفسهم. ويمكن للآباء ألا يُشركوا أولادَهم ويقصوهم عن الميراث لأسباب خاصة جديرة بذلك. أما محّبةُ الأب وحنانُه فلا يُجيزان له أن يُعاملَ بالقساوة إبنته أو إبنه العاق. لأنَّ الرحمة والمحبة فوق العدالة. كيف يسمحون للمحبة أن تسقط والكتابُ يقول:” المحبة حليمةٌ مترفقة ، لا تعرفُ الحسد، ولا تفعل السوء ولا تحنق … ولا تفرحُ بالظلم. بل تفرح بالحق ، وتعذرُ كلَّ شيء وتصَّدقُ كلَّ شيء وتصبرُ على كل شيء ..” (1كور 13: 4-7).

التخَّــلي عن الأبنــاء ! أدم خالف مشيئة الخالق ولم يعتذر لكن الله لم يتخَّلَ عنه. قايين قتل لكن الله لم يتخَّلَ عنه. البشرية تخطأ كلَّ يوم لكن الله لا يتخَّلى عنها. ذلك لأنَّ اللهَ ” أبٌ “. ولأنَّ الأنسان من نسمة حياتِه ويُحّبُه. هكذا الوالدان مصدر حياة أولادهم ويحبونهم. والأولاد هم ثمار حبهم. خبرة الأولاد أقَّلُ بكثير من الوالدين. لكن النفس العاقلة والحُّرة متساوية عند كليهما. يجب أن يعرف كل واحد حجمه ، ويضمن إحترامَ الآخر، ولا يسمحا للحب الرابط بينهما أن يتبخَّرَ ويزول. ولن يزول لأنَّ الوالدين لا ينقطعان عن حب أولادهما حتى بعد إبعادهم والتخلي عنهم. لذا إستعمال أسلوب العنف بالعقاب والتخَّلي لا يبني. عَّـلمنا الرب أنَّ الغفران والمسامحة أنجعُ دواء للقضاء على الخلافات ، وللوصول الى التفاهم بحوار يقوم على أساس المحبة والأحترام المتبادَلين.

وما دام لألأبناءِ حقُ اختيار شريك الحياة، حتى لو كان سَّيئًا، فلا يوجدُ مبَّررٌ لأن لا يرضى الوالدان عن ذلك لاسيما وأنهما يريدان سعادة أبنائهما ويفتخران بأنهم قادرون على الأختيار. وإن كانوا غير قادرين فاللوم يقع على الوالدين إذ لم يرَّبيانهم بشكل جَّيد حتى يستعملوا حرّيتهم بوجه صحيح. وإذا كانوا قد أخطأوا في البداية فهل ينوون إصلاح تقصيرهم بآقتراف خطأٍ جديد ألا هو حرمان أولادهم من حقوقِهم ؟.

وإذا أخطأ الأبناءُ فلا يُصلَحون بمعاقبتهم والتخلي عنهم. يقدر الآباء المحافظة على كرامتهم دون أن يُغضبوا أولادهم ويُسيئوا اليهم. يقول الرسول :” إخلعوا الأنسان القديم … وتجَّددوا روحًا وذهنا… إذا غضبتم فلا تُخطِئوا، ولا تغرب الشمسُ على غضبكم “( أف4: 22-26). ويُضيف لأهل كولسي :” أيُّها ىالآباء لا تُغيظوا أبناءَكم لئلا تضعفَ عزيمتُهم”(كو3: 21). هذه هي المباديء، ويتوقف تطبيقها على مدى الوعي الأيماني للعوائل ومدى إستعدادهم للتقَّيُد بكلام الله. يجب أن تقوم بين الوالدين والأبناء صداقة ومحبة وثقة ويعرف كلُّ واحدٌ أنه مُلزمٌ يقولُ الرب :” إفعلوا للناس ما تريدون أن يفعله الناس لكم. هذه هي الشريعة وكلام الأنبياء ” (متى7: 12). إن كان الآباء يريدون من أبنائهم أن يكرموهم ويُقَّدروا جهدَهم وفضلهم فعلى الآباء أن ينظروا أولا الى حقوق أبنائهم ويوَّفروها لهم. وكذلك بالنسبة الى الأبناء يجب أن يثقوا بأنَّ آباءَهم يتصَّرفون، حتى عند رفضِهم، من منطلق أنهم يريدون الخير لأبنائهم، إنما حسب قناعتهم وزاوية نظرتهم الى الأمور. فليحاول كل واحد أن يُبديَ وجهة نظره ومرونة تفَّهم موقف مقابله ويحترم حقوقه ، ولا يستعجل الطرفان في القرار بل يتركوا مجالا للزمن ليحُّلَ الخلاف.

القس بـول ربــان