جمعة الآلام

إلهي إلهي لماذا تركتني ؟ مز22: 1؛ مر15: 34 ؛ متى27: 46

إنها صرخةُ منبوذٍ من الله ومُذَلَّل (اش53: 4) بها إفتتحنا صلاة اليوم. وكلُّ المزامير دَلَّت على الخاطيء الفاقدِ أيَّ أملٍ بالخلاص بسبب عُزلته عن الله وبعده من الحَّق فيعاني من الألم والذل. عزلة وبُعدٌ، ألم ويأسٌ قاتل. مثل غريقٍ يصرخ للنجدة ولا أحد يسمع،أو محتاجٍ فقَدَ آخرَ رجاءٍ بالعون. صراخُ معزولٍ منبوذٍ حتى من أقربَ وأعَّزَ أحبابِه وأقربائِه. صراخُ خاطيءٍ تخنقُه غصَّاتُ الندم مثل العذارى الجاهلات إِذ فقدن الحياة ولا أحدَ قدر إِسْعافَهن. إستنجدْنَ بالمُنقِذِ الوحيدَ، بعد فوات الأوان. لقد تركهن حتى الله.

الهي ! إلهي !

عاش يسوع حالة عزلة الخاطيء الذي لا يقوى البشر على شفائِه، ويبدو الله وكأنَّه قد تخَّلى عنه. لا. لم يتخَّلَ الله عن المسيح فلم ييأس ولا تذَّمر. فقد قال يسوع لبنات أورشليم لا تبكوا عليَّ. أنا لستُ خاطئًا. أنا لستُ وحدي. الآب الذي أرسلني هو معي، وما تركني وحدي قط ، لأنِّي أعملُ كلَّ حين ما يُرضيه (يو8: 29). ابكوا على أنفسكم لأنَّكم في حالة الخطيئة. و إذا لم تتوبوا ولم تصلحوا حالكم ستمرّون بهذه الحالة ولن تأتيكم النجدة. فالبشر لا يقدرون على أن يسعفوكم. وإِذا جهَلْتم الله في حياتكم لن يعرفَـكم. بُعدُكم، عزلتُكم عن الله ستُحرمُكم رحمَتَه وغفرانَه. هكذا إزدرى الكهنة بيسوع وهو على الصليب ” إِتَّكلَ على الله. ليُنقِذْه الله إن كان راضيًا عنه” (متى27: 43)، كما قال المزَّمر(مز22: 9).                                                                                              

إلهي. إلهي. يسوع لم يشعر بعزلته عن الله. يُحَّدثه كآبن حبيب :” يا أبتاه إغفر لهم لأنَّم لا يدرون ما يفعلون” (لو23: 34). يسوع معزولُ عن أعَّز أُمّ. معزولٌ عن أوفى الأصدقاء، رسلِهِ وتلاميذِه. معزولٌ وسببُ ألم ٍ للنساء اللواتي تبعنه من الجليل. معزولٌ خاصّة عَّـمَن أحَّبهم و قرَّر أن يفديَهم، الناس، وآختار أن يموت هو وأن يحيا أولئك. أولئك ناكرو الجميل الذين، من أجلهم تخَّلى عن مجده وقبل الذُلَّ والموت، فعلمَّهم و خدمهم و يموت ليضمن لهم حياة الأبد، لكنَّهم يرفضون أن يؤمنوا به ويعترفوا بإحسانِه و يقتدوا بحياته. معزولٌ عن العالم الشَّرير للأنسان. هؤلاء سيصرخون دون أن ينالوا. أما يسوع فلم يتذَّمر. لأنَّه هوالذي إختارَ الأنسان، وآشترى بدمه هويَّتَه، حتى جنسيتَه، لأنَّه أحَّبَه. لم يتشَّكَ. لم يعترضْ. لأنَّ تلك حكمةُ الله. بيَّن ألمَهُ وأسفَه، وأعلن أنَّ تلك الحكمة هي الحق. فقال” لتكن ابتي مشيئتُك”.

أما الذين لن يعترفوا بجميله ويموتون معزولين عن الله فسيتندَّمون بعدَ موتهم وسيطلبون رحمة الله، لكنهم لن يسمعوا غير” لا أعرفكم من أنتم؟”، مثل العذارى الجاهلات. ولا من أين أنتم”؟. أو مثل الغني عديم الرحمة تجاه لعازر، بل أُبعدوا عني يا ملاعين. سيتركهم الله لمصيرهم، ولات ساعة مندم، وبئسَ المصير!. وهوَّةٌ عميقةٌ تعزلُ الأبرار عن الأشرار” لا أحد يقدر أن يتجاوزها ” (لو16: 26). هنا ايضًا لتكن مشيئةُ الله.

الهي الهي ..تالم يسوع من أجل الخطأة. تألم بسبب رفضهم المحبة واللطف ولاسيَّما التوبة. رغم ذلك لم ييأس يسوع بل طلب من الآب ” يا أبي إن كان ممكنًا لتعبر عني هذه الكأس”. كأسُ تحَّجُرِ أبناء العالم في جهلهم وفسادهم، كأسُ كبريائهم وشَّرهم. إنَّه يحترم حرَّيتهم التي زيَّنهم بها الله رغم سوء إستعمال فهمها. تلك ايضًا مشيئة الله. “لا تكن مشيئتي بل مشيئتك”. لم يُجبر اللهُ الأنسانَ على الخير. فيحترمُ ويُثَّبتُ إختيارَهم. ولم يُجبرْ يسوعَ على القبول بهذه مأساة العزلة والألم والجحودِ، التي بسببها ” وقع يسوع في ضيقٍ، فأجهدَ نفسَه في الصلاة، وكان عرقُه مثل قطراتِ دمٍ تتساقط على الأرض في بستان الزيتون” (لو22: 44). لكنَّها كانت الوسيلةَ الوحيدة لخلاص الأنسان، إذ” لا غفران بدون إراقةِ دم” (عب9: 22). فخيَّره الآب. وقـبِلَ يسوع ” ها أنذا آتٍ لأعمل مشيئتَك” (عب10: 7؛ مز 40: 7-9). فتقدم وتذلل (اش53: 4)، وأحَّبه الآب أكثر من الأول (يو10: 17-18).

كان على يسوع ان يشرب الكأس حتى الثمالة. كان عليه أن يُنجزَ مُهمَّتَه. أراد أن يُكَّفرَ عن الأنسان المحكوم عليه بالموت، أن يشتريَه من سيِّدِه الموت، ويدفع عنه الثمن، فتسَّلقَ شجرة المعرفة التي نجَّستها خطيئة الأنسان وغسل جذعَها بدمه، ليُصلح ثمرَها، وداوى جرح آدم وأبنائِه بثمرةِ شجرة الحياة : بدمه الحَّي فوق الصليب. لقد قال الكتاب” الدم يُكَّفرُ عن النفس. ونفسُ كلِّ جسد هي في دمه “(أح17: 11-14). ودمُه أصل الحياة. سفك يسوع دمَه  فمات. ودمُ جنبِه ضُخَّ في الأنسان المائِت. فقتلَ الخطيئة التي أماتته، فآحتيا مثل لعازر وعاش حياة جديدة. هذا ما قالته صلاة اليوم : ” ܕܱܒܼܫܘܼܡܵܬܼܹ̈ܗ ܐܸܬܼܐܲܣܝܼ ܚܒܼܵܪ̈ܵܬܼܲܢ. ܘܲܒܼܩܸܛܠܹܗ ܩܲܛܠܸܗ ܠܩܵܛܘ݁ܠܲܢ ܀ ܕܲܡܙܲܓܼ ܕܡܹܗ ܒܲܕܼܡܲܢ ܘܲܦܪܲܥ ܚܵܘ̈ܒܵܬܼܲܢ ܒܕܼܸܒܼܚܵܐ ܕܲܩܢܘ݁ܡܹܗ.. ܀ بجروحه شفى جروحنا، وبموته قتلَ قاتلَنا. مزج دمه بدمنا و وفى ذنوبَنا بذبيحة ذاتِه”. هذا ما أراده الله. فـظلَّ يسوع يقول للآب : ” لتكن مشيئتك “.

مريم العذراء أيضًا قاستْ عذابَ العزلة في مثل هذا اليوم. نالت حصَّتها من الضيق والألم : على إبنها : تراه في مأساته ولا تقدر على إسعافه فتحترق. وعلى الناس ناكري الجميل ثار وجدانُها. آلمتها رعونة البشرية. سادَ الظلامُ في أجوائها والفوضى عصَرَتْها. لكنها، مثلَ إبنِها، لم تيأس، ولمْ تهتَّز. بل سارتْ على درب الآلام، والأسى يُدمي قلبَها، مُحافظةً على إيمانها وهي تُكرِّرُ طاعتها لمشيئة الله، عند ولادة ابنها والآن عند وفاته : ” يارب أنا أمتك ، لتكن مشيئتُك”. 

ونحن الذين من عزلتنا نتابع أحداث عُزلة يسوع ونعاينُ شِدَّتها وقساوتها وما آلت اليه من تجديدِ حياةٍ للأنسانية. لنُقِم مقارنةً بين العزلتين: أمَّا يسوع ففي عزلته تابعَ عمل الخير و أنهى مُهِمَّتَه فخَلَّصَ الأنسان، وكمَّلَّ بذلك المشيئة الألهية. ونحنُ ماذا عملنا في عزلتنا وما  هي ثمارُها؟ لقد أقامنا يسوع شهودًا لحياته. طلب منا أن نعكسَ أقواله وأفعاله لا أن نُعلنها فقط، بل أن تتحَّلى بها سيرتُنا. ماذا فعلنا؟.لا أسأل: كم جُلِدنا، ولا كم سُجِّنا، ولا كم صُلبنا؟ .لا. بل كم وثقنا بالله أنه إذا سمح بالوباء فلخيرنا؟ وكم إتكلنا عليه أنَّه إذا سمح بتجربتنا يضع لنا مخرجًا منها، والقدرةَ على إحتمالها ؟ (1كور10: 13). وكم قلنا لله” يا أبي لتكن مشيئتك”؟، لأنَّك أنت تريدُ خيرَنا أكثر مما نحن نبحثُ عنه، أو حتى نعرفُ ما هو؟. 

منذ سنة لم تقع عيني ولا طخَّت آذاني في وسائل التواصل الأجتماعي غير التذمر والتشكي والأعتراض ولاسيما أدعيةً بالقضاء على هذا ” الوباء اللعين”؟!. في كل صلاة في كلَّ عبادة في كل حوار حديثنا مع الله ” يا رب خلصنا من هذا الوباء، إِقضِ عليه بسرعة “. الناس يخافون الموت. لا يريدون الموت. لماذا ؟ ألا نُريدُ أن نكون مع يسوع؟. مار بولس تمَّنى الموت يومًا قبل ليكون مع يسوع!” الحياةُ عندي هي المسيح والموتُ ربحٌ.. أرغبُ أن أترك هذه الحياة لأكون مع المسيح. وهذا هو الأفضل” (في1: 21-23). البعض يُفَّضلُ ذلك لغيره، عند تقديم التعازي. أما لنفسِه فيُؤَّجلُهُ، ربما لأنه بعيدٌ عن الله، ويخاف رعب المصير . ألا نُحِّبُ المسيح؟.  أمَّا المسيح فأحَبَّنا وكان أقربَ الينا من نفسِنا. وأحَّبنا فوق القياس، بلا حدود، حتى ذهب الى الموت برجليه من أجل إسعافنا!. يسوع تحَّدى الموتَ فقام. ولمَّا يحين وقتُنا يُقيمُنا معه نحن ايضًا للمجد، مقابل حبنا له وشوقنا إليه.

يلعن الناسُ الوباء لأنّ آنتشاره يحرُمُهم من لقاءاتٍ مُفرحة، وحفلات وسهراتٍ تنسيهم همومَهم وتُلَّبي شهواتهم وتُشَّبعُ غرائزَهم. ربما يسأمون التأمل في آلام المسيح والمشاركةِ فيها بحمل الصلبان اليومية بهدوءٍ ورضًى من أجل خلاص العالم وتحقيق رسالة المسيح. الآلامُ فرصةٌ لنتأمَّلَ عُمقَ وحدة المسيح مع الآب، حَتّى يُحَّدثه بهدوء في شِدَّةِ الضيق كإبن حبيب يثق بأبيه الموجود بجانبه، ولنبنيَ نحن أيضًا مع الله وحدة عميقة و مثمرة. صرخ” الهي الهي” ليُعَّلمنا كيف نلتجيءُ اليه لا في ضيقنا فقط بل قبله، فنعقد معه عهدَ الموَّدة و الإتّفاق، عهد الثقة والأتكال عليه ونقولَ له ” لتكن مشيئتُكَ”. وَفَّرعلينا الكورونا وقتًا إضافيًا كثيرًا لنلتقيَ بالله ونجتمع معه في قراءة كلمته والصلاة اليه ونُعَّلمَ أبناءَنا مثالًا في عبادةٍ حقيقية له. ينتظر المسيح أن نتعَّلمَ من عزلةِ آلامِه كيف نتصَّرف في عزلتنا.   

قالت صلاةٌ الأربعاء واليوم :” يا آبن مريم، تقوم كنيستك في الحزن لأنَّ موتك مؤلم. وتُقيمُ

عـيدًا لآلامك وتذكارًا لصلبك”. العيدُ فرح وآحتفال. لا يريد المسيح أن نبكي آلامَه وموته، بل أن نفرح بقيامته. يسوع قال لبنات أورشليم” لا تبكوا عليَّ ..” ونحن مازلنا نسُّدُ آذاننا. ننسى خطايانا وننسى قوله ” أُبكوا على انفسكم”. ننسى مشيئة الله وتدبيره ورحمته ونتمَسَّك بأفكارنا. علينا أن نحزن ونبكي على خطايانا التي عَذَّبتْ المسيح وصلبَته. أن نبكي على أنفسنا ونندم على سوئِنا ولا مبالاتنا. فالكورونا يُذَّكرنا بها ويُحَّذرُنا. آلمُ المسيح وصلبُه فخرٌ لنا لأنها دليل قدرةِ الله وعظمةِ حُبِّه لنا. إنَّها أعظمُ خير لنا ينبغي لنا أن نحمدَ الله عليها و نشكرَه، وأن نتوبَ عن شرورنا. عزلتنا تَحُثُّنا على التقَّرب الى الله بالتوبة.

مثل اليوم سنة 341م إستشهد بطريركٌ وأساقفة وكهنة وشمامسة، بعدد مائة وثلاثة، وهم يرتلون و يهتفون مجدًا للمسيح. حتى أقاموا الفصح في السجن ولم يتذمروا ولا تشكوا. إنَّ الإضطهادَ مِحنَةٌ، وكذا كورونا. وكلُّ محنَةٍ ألم. إنَّها تُصَّفي إيماننا وتمتحنُ صبرَنا، وتقيسُ حُبَّنا لله وتزن مقدارَ مُشاركتِنا حياةَ المسيح. قال مار بطرس :” لا تتعَجَّـبوا إذا أصابتكم محنةٌ وكأنَّها شيءٌ غريب يحدُثُ لكم. بل إفرحوا بمقدار ما تُشاركون المسيحَ في آلامِه ، حتَّى إذا تجَّلى مجدُه فرحتُم مُهَّللين” (1بط4: 12-13).

ففي عزلتنا عن البشر نقترب الى الله أكثر، ونعِيشُ إيماننا. لنتعَوَّد أن نحملَ الصُلبان التي يسمحُ بها اللهُ لنا ونتعَّلمْ ألا نعترضَ عليه او نتذَمَّر. نستغلَّ عزلتنا لنسموَ في الحياة الروحية وِنتَعَّلمْ البذل لأجل غيرنا ولو على حساب حياتنا. لنُصَّلِ إليه بحرارة وإلحاح ونعرضَ عليه حاجاتنا بثقةٍ و إيمان قائلين له ” لا تكُن مشيئتي، يا رب، بل مشيئتُكَ “.

بهذا الأيمان نرفعُ إستنجادَنا بالله عن كلِّ بلايانا، لاسيما الكورونا، ونقول :     

يا رب ! لقد عانت الأنسانيةُ من داء الخطيئة التي سدَّت في وجهها بابَ النعيم وعَزَلتْها عنك. وفي محبتك العظيمة شفيتَ جرحَها وداويتَه برحمتك، بموتك على الصليب. ونحن نحتفلُ اليومَ بذكرى آلامك ورحمتك ومحَبَّتك. نسألُ أن تشمُلَ زماننا أيضًا، إِن كان ممكنًا، بمحَبَّـتِـك وتعالجَ برحمتك أمراضَنا وبلايانا لاسيما وباء الكورونا الذي يفتك بالناس، وقد حرمنا منك وعزلنا عن إخوتنا.  يا رب لا تنظر الى كثرة خطايانا بل إلى عظيم رحمتك فآشفِ مرضانا ، وآحم من الأوبئة محَّبيك ليفرحوا بقيامتك ويرفعوا لك المجد الدائم .       يا رب !  لا تكن مشيئَتُنا بل مشيئتُك. آمين.