تعـقيب على ردود الفعـل !

أهلا وسهلا وشكرا لكل المعَّلِقين

# أثار المقال السابق بخصوص” معرفة الله للمستقبل وسماحه رغم ذلك بالشر”، ردود فعل جاء في بعضها ما يلي :-

الأخت إيمان حكمت

كتبت الأخت إيمان تقول :” .. بتوبة الشّرير عن شَرِّه يحيا “. وإذا لم يتُبْ ؟. إنَّ الله لا يُعاقبُه. يُعطيه أكثر طوال حياتِه على الأرض. هل هذا عدلٌ ؟. يبقى السؤالُ قائمًا : ” لماذا لا ينالُ الظالمُ عقابَه ؟. بل بالعكس : يزدادُ سعادةً وتفَّوُقًا وغِنًى. وكلُّ شيءٍ جميل يأخُذُه !. كلَّما ظلم أكثر حصلَ على مكافأةٍ أكثر. هذا الكلام عن تجربتي الخاصّة.

قال الكتاب :” تقولون: طريقُ الرَّب غير مستقيم “..في حين ” أنا أُحاسبُ كلَّ إنسانٍ بحسب طُرُقِه “.. ” الله يتأنى ويصبر على شر الناس (1بط3: 20؛ 2بط3: 15). الله هو محبة. و المحبة تتأَّنى وترفُق. تعامل الآخرين بلطف وبصبر”1كور13: 4-7). والله لا يريد أن يهلك أيُّ إنسان بل أن يخلص. لذلك يُعطي حتى للأشرار فرصة التوبة. إنَّه” يُمهِلُ ـ يعطي مهلة !, ولا يُهْمل”، لا ينسى الشَّر بل يُعاقب الأشرار، لكنه ” رحيمٌ حنون، بطيءٌ عن الغضب وكثيرالمراحم و الوفاء ..لا يُبريءُ الأثيم” ( خر34: 6-7)، رُبَّما قد يتأذى من هذا العقاب أجيالٌ عديدة (خر20: 5). ولن ينزل العقاب بالأشرار إلا بعد أن إنتهت فرص التوبة. ولا تتم بالطرق التي نحن متعودين عليها ونطالب بها بل بطريقته الخاصة ، حتى لا يُسيءَ بقلعه الزؤان الى الحنطة. أمَّا ” لماذا لا ينال الظالم عقابه” لأنَّ المسيح لم يأتِ ليدين الناس بل ليُخَّلِصَهم (يو3: 16-17)، وخلاصهم لا يسمح بإدانة المجرم حالاً وإنزال العقاب فيه، بل في إعطائه فرصة التوبة. ألا يُعطي الوالدان فرصة التوبة لأولادهم إذا أخطأوا؟. وهل يكون الله أقَلَّ حنانًا و رأفة من الوالدين؟. الله أبُ كل الناس. هو أوجدهم ولا يريدُ أن يقضي على حياتهم. لأنَّ قصاصهم دون توبة هو الهلاك. وإذا فعل الله ذلك يظلم الخاطيء ولا يُعطيه فرصة الحياة، الخلاص. هكذا فعل مع آدم وحوَّاء. هكذا فعل المسيح مع المرأة الزانية فأنقذها من الرجم ودعاها إلى التوبة (يو8: 7-11). وإذا وجب أن ينال كلُّ خاطيء ومجرم عقابه لماذا مات المسيح ولماذا كَّفرَ عن ذنوب البشر؟. أَ ليس ليُعطيهم فرصة التوبة والعودة الى الفردوس، أي التمتع بالحياة مع الله وخيراته الأبدية ؟.

أمَّا أن يكون الله هو الذي يُعطي الظالم والشّرير ويُكثر في خيراتِه : هل بإمكان أحدٍ أن يُؤَّكد ويُبرهن على ذلك؟. أم الشّرير، الذي لا يسمع كلام الله ويعصى شريعتَه، هو الذي يُكَّثرجرائمه بطرق العالم وأساليبه الملتوية؟. وطرق العالم هي إيحاءات من الشيطان. يقول مار يعقوب: ” إذا وقع أحدٌ في محنة، فلا يقل : هذه محنة من الله. لأنَّ الله لا يمتحنُه الشَّر و لا يمتحن أحدًا بالشَّر. بل الشهوة تمتحن الأنسان (لقد حذَّرَ الله منها : تك 2: 17؛ 3: 6-7) حين تُغويه وتُغريه. والشهوة إذا حبلت ولدت الخطيئة، والخطيئة إذا نضجت ولدت الموت. ..كلُّ عطية صالحة وكلُّ هبةٍ كاملة تنزلُ من فوق من عند أبي الأنوار” (يع1: 13-16). لا شرَّ في الله حتى يُؤَّيدَه، ولم يقدر قادة اليهود أن يُثَّبتوا على يسوع خطيئة (يو8: 46).

لماذا يُخطيُ الناس؟ لأنهم أحرارٌ ويقدرون أن يختاروا بين الخير والشر. ومن الذي صنعهم أحرارا غير الله خالقهم؟. وإذا كان الله هو الذي وهب الأنسان الحرية، وهي أعظم خير، والله يعرف أن كثيرين سيُسيئون إستعمال حريَّتهم، فهل يتنَّكرُ لذاته ويسحب الحرّية أو يُعاقب الشّرير قبل محاسبته ودينونته، ويبدو بذلك كأنه يتغَّير لأنه ناقص المعرفة والقدرة والأرادة ؟. ونحن نعلم أن الله كامل المعرفة والقدرة ولا يتغَّير.أمَّا إذا تمادى الشّرير الظالم وآستمَّر في ظلمه فهل يقدر أن يتَّهم الله بأنه هو المسؤول عن ذلك وأنه هو يسندُه ويوَّفقُه في شِّرِه؟. لو كان الله كذلك لما كان الله. بينما هو أمرٌ منطقيٌ وطبيعي أنَّ من يزدادُ سوءًا يحصل من سوئِه أكثر من الأول لأنَّه يُكَّدسُ مكاسبَ ظلمه ويُضاعفُها، لأنَّ من يملأ فكره وقلبه ليس الله بل من المال والمجد والقدرة، فـ” يزدادُ ثروةً وسُلطانًا وجاهًا وتنَّعُّمًا “. ولكن من يقول بأن الله يرضى عنه وعن سوئِه؟. بل مَثَلُ الغني ولعازر الفقير صريحٌ أنَّ الله رفضه في ملكوته ولم يُعطِه حتى ولا قطرة ماء تُبَّردُ لسانه (لو16: 33-35). مشكلتنا نحن البشر نريد أن يتصَّرف اللهُ حسب رغبتنا، وكما نحن نفهم العدالة، وفي إطار الحياة الزمنية. هكذا قال إرَميا :” دَعني أرى إنتقامك منهم” (إر20: 12). فعندما نتشَّكى من الله أنه يبارك الأشرار ولا يُعاقبهم لا نهتَّم بالعدالة، ولسنا نحن من يُعَّلمُ الخالقُ العدل، ولا بزوال الشر أو الظلم بل لنرتاح لأنَّ الله يفعلُ مثلنا، حسب مبادئنا ومفاهيمنا (!!) فينفعل ويغضب وينتقم ويُحَّطم و كأنه مجبولٌ على الضعفِ والغضب لا على المحبة واللطف. وأحاسيسنا تختلف مع مشيئةِ الله لأننا نحن لا نستوعب الله في حبه وصبره وغفرانه ، فنُبَّرر أنفسنا بلوم الله

الأخ زاك الياس

كتب يقول :” لكل رجال الكنيسة نفس الجواب. والإجابات كلُّها ضعيفة جِدًّا”. ثم سألَ :” لماذا لم يُدَّمر اللهُ الشيطان من البداية، فخَّلصنا وخَلَّصَ نفسه من عناء التجسُّد والعذاب (الفداء)؟. لماذا خلقَ الشيطان أساسًا؟. لماذا خلق الملاك الذي سيعصاهُ ؟. المستقبل ، أساسًا غبر موجود !. كيفَ يعلمُ أحدٌ بالمستقبل حتى لو كان إلَهًا ” ؟. ثم أضافَ سؤالاً : هل سيخطأُ الناسُ في الملكوت أو الجنّة بعدَ الموت والدينونة ؟.

إن كان جوابك لا فـ ” لماذا ” ؟. { سنفرد لهذا السؤال جوابًا خاصًّا }

نفس الجواب !

لا أستغربُ بل أتوَّقعُ ذلك. لأنَّ رجال الكنيسة يتحَدَّثون من باب الأيمان بالله وبكلامه. إنَّهم خُدَّامُ كلمة الله. دعاهم الله الى خدمة للبشرية خاصَّة، فهم مُكَّرَسون لمعرفةِ الله في وجوده و فكره ومشيئته، كونه خالقَ الكون ومُنَّظمَه، وإعلان ذلك للناس ليعرف هؤلاءُ طريقَ الحياة الخالدة في ممارسة الحَّق والبِّر. تلك مهنتهم وإن كانوا يؤَّدونها بإخلاص فنِعِّمَ ذلك.

الإجابات ضعيفة !

رُبَّما يراها كذلك غير المتخَّصصين بشؤون الأيمان لأنهم يهتمون بالمنطق البشري أكثر من المنطق الألهي. لا بل يجهلون منطق الله كليا. لذا يحتارون ولا يرون جوابا لماذا خلق الله الكون بهذا الشكل؟ أو…كما ذكر بعضَها الأخ زاك. إنهَّم منغمسون إلى أنفِهم في المنطق السياسي أو الأقتصادي أو حتى الأدبي الذي يتماشى مع الجسد مُهملين كلّيًاَ الروح، هذا إن كانوا يؤمنون بالروح !. فما لا يتماشى ونظرتهم للأمور وأجوبتهم ، التي يعتبرونها مصدر الحقيقة، يحتقرونه. رغم ذلك يبقى كلُّ إنسان حُرًّا أن يتبنَّى نظرةً في الحياة يقتنعُ بها، إنَّما لا ينسى أنه سيدفعُ الحساب على ميزان الحقّ الألهي، لا ” القَبَّان ” البشري.

لماذا لم يُدَّمر اللهُ الشيطان ؟

خلق الله الشيطان ملاكًا ، روحًا عاقلة حُرَّة وخالدة ، لخدمته تعالى وخدمة الكون والكائنات التي كان سيصنعُها. ولأنَّ الله هو القدرة والمعرفة والحياة في أوج كمالها، ولا يتغَّير لأنَّه أزلي الوجود وأبديُّ البقاء، فكلُّ ما يصنعه كاملٌ في طبيعة ذاتِه. أمَّا في سلوكه فهو حُرٌّ أن يختار ما يشاء. ولما أعطاه الله الفرصة ليختار، إختار بعض الملائكة الأمانة لخدمة الله و طاعته، وآختار غيرُهم أن يُنافسوا الله في قدرته. لكنهم فشلوا فخسروا الحياة مع الله في مجد وراحة. ندموا على فعلتهم لكنهم لم يتوبوا ولا إعتذروا بل تمادوا في كبريائهم. وبعد أن أعلنوا العصيان لمشيئة الله قرروا أن يُفسدوا عمل الله ويدفعوا الأنسان إلى العصيان مثلهم. وعرف اللهُ مُسَّبقًا أنهم سيتصَّرفون كذلك.

ولكن يبدو أنَّ مخطط الله كان أن يقلبَ مُخَّططهم الشّرير إلى خير أعظم من الوجود نفسِه، مُبديًا بذلك حُبَّهُ وحكمته وقدرتَه. ابليسُ سيُحَّرضُ الأنسان الى العصيان. وفعل. الأنسانُ سينخدعُ ويقع تحت حكم ابليس فيلعب به ” شاطي باطي”. ولكن عندما يبلغ الأنسان مِلْءَ كمالهِ سيتجَّسد الله في الأنسان وهذا سيسحق، بطاعته لله، رأس ابليس، فيتحَّطم سلطانه وتتمَزَّق مملكته، ويرتفع الأنسان إلى كرامة الأُلوهة على يد المسيح الألَه/الأنسان. فيه صار الله إنسانًا وفيه أصبح الأنسان أخًا للمسيح الأله، ومعه ومثله ” إبنًا لله “، لا فقط صورته. ويبقى ابليس يلعقُ فشله ويصير”حجرَعثرةٍ” يتعَّثر به الناس الأشرار، الذين تبريرًا لموقفهم يُمَّجدون أعماله : الدجل، القتل، العنف ، الظلم ، الكبرياء ، النجاسة ، الحقد والغدر والخيانة والأنانية المقيتة. والشر الذي يُمثله أصبح تقاطعَ الطريق وفرصةَ إختيار كلِّ إنسان طريقَه في الحياة. فلولا وجود الشَّر ووجود التجربة لما كان للأنسان فرصةٌ لآختيار سبيله. – هكذا أصبح التجَّسد والفداء علامة قدرة الله وحكمته ولاسيما محَّبته العظيمة للأنسان الذي خلقه مند البداية ” وكيلا لِعمله ” لا خادمًا فاقد الكرامة. وألبسه حُلَّة المجد على يد المسيح. إنَّما على الأنسان أيضًا أن يكون على ” قدر المهّمة “، ويختار أن يؤَّدي دوره بوعي وفرح مُقتحمًا الصعاب والمآسي، ويستَحِّقَ مجده بجدارة وآعتزاز. لم يخلق الله شَرًّا. ” رأى الله أن كلَّ ما صنعه حسَنٌ جِدًّا ” (تك1: 31). الشر ضد إرادة الله. وآختار الشيطان الشَّر لمَّا رفض الحقَّ الألهي. ومن سقطته يتعلم الأنسان الطاعة لكلام الله.

المستقبل موجودٌ أم لا ؟

تبدو فكرة السائل الكريم ضبابية. ما المستقبل؟. المستقبل يدخل ضمن إطار الزمن. ففي الزمن ما حدث ومضى ولن يتراجع أو يتغَّير، إنه ” الماضي”، وفيه وُلدنا. وفيه اللحظة الآنية التي تدور فيها الأحداث وتخضعُ لمشيئة الإنسان، إنه الحاضر، وفيه نعيش. وفيه ما بعد ” الآن” ولا يعرف الأنسان ماذا سيحدث فيه ولا يقدر أن يضمن فيه أيَّ شيء لنفسه غير التمنيات، إنَّه” المستقبل”، ونجهله. وعندما نتحَدَّث عما بعد الموت فهو المصيرالأبدي ، لا زمنٌ فيه : لا ماضٍ ولا مستقبل. يوجدُ حاضرٌ حيويٌّ أبدي، سمَّاه الرب يسوع :” الحياة الأبدية “. نحن لا نعلمه. أما من هو بالنسبة اليه حاضرٌ، الله ، فهو يُسيطرعليه ويقدر أن يُوَّجهه. من هو فوق منارة، أو في إحدى ناطحاتٍ للسحاب، يرى مساحات شاسعة من المدينة ويلاحظ حركة الناس والعربات، يقدر أن يتنبَّأَ بحدوث حادث مثلا بينما لا يراه من على الأرض ولا يتوقَعَّه من يقع عليهم الحادث. لا يعرفون أكثر مما أمامهم. أما الله فيرى كلَّ شيء في حاضر مستمُر، من مليارات سنين مضت والى مليارات قادمة وأبعد. لأنه هو واضع النظام الذي يقود الكون والكائنات ويتحَكَّمُ في كلِّ شيء لآحترام النظام ، ولا شيء يحدث دون أن يسمح به، ” لا يسقطُ عصفورٌ واحد الى الأرض بغير علم أبيكم “(متى10: 29).

لماذا خلق الله .. لماذا لم يُبِد الشيطان .. لماذا ..؟

كثرت إعتراضاتنا على الله ونتمَّنى كثيرًا أن نُمليَ عليه رغائِبَنا. نتشَّكى منه ونشتكي عليه لأنه لا يدير الأمور حسبما نتوَّقعه. وكنا نفرح لو إستشارَنا أحيانًا وقَبِلَ دَعاوانا عليه. نتمَّنى إلَهًا على مزاجنا، يخضعُ أحيانًا لأحكامِنا. أيوب بلغ الى حدَّ نعت الله بخصم ” خصمي نفسُه حاكمي”(أي9: 15). يتمَّسك أيوب ببراءته ولا يتراجع عن ذلك ويتهم الله أنه يخفي عنه الحقيقة ويقول :”..ليت خصمي يُدان كفاعل السوء (أي27: 5-7). لأني” أنا على حَّق. لكنَّ الله رفضَ حَقّي. يُكَّذبُني والحَّقُ الى جانبي” (أي34: 5). ويقول الكاتب : ” أيوب يتكلم بلا معرفة، وكلامه تُعوزه البصيرة ” (أي34: 35 ). ولمَّا سمعَ اللهَ يقولُ له :” من هذا الذي يُغَّلفُ مشورتي بأقوالٍ تخلو من كلِّ معرفة؟. شُـدَّ حيلَك وكن رجلا. لأسألك فأخبرني. : أين كنتَ حين أسَّستُ الأرضَ؟. من أقَّرَ حجمَها ؟.. أين هو محَّلُ الظلمة؟. أ تربطُ أنت عقدَ الثُرَّيا ؟.. أ بمشورتك يطيرالنسرُ عاليًا؟..وهل يُخاصِمُ القديرَ لائِمُه ويُجيبُ اللهَ من يشتكيه؟ “. ولما سكتَ أيوب تابعَ الرَّبُ كلامه :” أَ حَقًّا تريدُ أن تنقض حكمي؟، وأن تُدينني لتُبَرِّرَ نفسَك؟..” (أي38: 1-41: 26)، أجابَ أيوبُ بآنكسار ٍ وندم :” أخفيتَ عني مشورتك ولم تبُحْ بها فتكلَّمتُ بكلام باطل على معجزاتٍ لا أُدركُ مغزاها وعجائب فوق متناول فهمي.. سمعتُ عنك سمع الأذن والآن رأتكَ عيني. لذلك أسترِدُّ كلامي وأندم ، وأنا هكذا في التراب والرماد “(أي42: 3-6). يحتاج الأنسان أن ينظر الى الأمور بمنظار الله لا بقياس البشر وأن يثقَ بالله وبما أوحاه إلينا وعاشه بيننا في شخص المسيح، وحفظته لنا الكنيسة وتُبَّلغنا إيّاه خِدمةً لا إستعبادًا.

القس بـول ربــان