اللهُ لا يعلمُ الغيب ! لأنَّه عـدم ؟!

أهلا وسهلا بالأخ ليث كـني

# تعقيبًا على مقال ” الله يعرف المستقبل” كتب الأخ ليث ما يلي :” لا أعتقد أنَّ الله يعلمُ بالمستقبل أو الغيب. لأنَّ الغيبَ هو ” العدم “. وعلمُ اللهُ يكمن بالمُطلق الموجود، وليس العدم. والمستقبل عدمٌ محضٌ لا يمكن معرفتُه. وهذا ليس نقصًا في علمِه”.

بين الغيب والعدم !

حتى يُبنى الحوار على حقائق لا ظنون، ويُستعملُ كلُّ كلام بما يعنيه أوَّدُ أولاً أن أوَّضحَ معنى الكلمات المستعملة. يقول المنجد، قاموس اللغة العربية، عن ” غابَ والغيب” ما يلي :

  • غابَ عنه= بعُدَ عنه، وبايَنَه { وباين = هاجر، إنقطع عنه، فارقه. والبينُ= الفرقة}.
  • الغياب = الأختفاء عن العين { غابت الشمسُ= إستترت عن العين}.
  • الغَيْبُ = الشَّكُ. من وراء الغيب= من موضع لا أراه.
  • الغائب = ما غابَ وخفي عنك، ما جَهَلتَه

أمَّا العدم فقال عنه :

  • عَدِمَ المالَ = فقَدَهُ.
  • يَعْدَمُه أمرٌ = يفوتُه.
  • العَدَم = ضد الوجود ، الفُقدان. عَديمُ الإيمان = فاقِدُهُ.

يمكن للقاريءِ اللبيب أن يستنتجَ الفرقَ بين ” الغيبِ والعدم “. فالعدم هو ما ليس موجودًا. ولكن يُمكن أن يُوجدَ يومًا ما. أمَّا الغيب فهو ما آختفى عن النظر وآستتر لكنه موجود. لي صديقٌ خارج أوربا لا ألتقي به لكنه موجود في قارةٍ أُخرى ويمكن أن نتواصل مع بعضِنا. لكني لا أقدر أن أتَّصلَ مع غير الموجود. فالغيبُ هو الموجود لكنه لا يُرى أمَّا العدم فهو غير موجود ولكنه يُرجى. لم يكن لإبراهيم ابنٌ. إستحال ذلك بشريًا. وعده الله، فآمن ورجا. لا دواء حاليًا للسرطان، لكن البشرية ترجو أن يجد له الأطباء. هكذا يبدو الغيبُ متناقضًا مع العدم. وبالنتيجة يجب إعادة النظر بالمعادلة.

بين الله والأنسان !

قال اشعيا :” ليس الله مثلنا. فأفكارُه ليست أفكارنا ..” (اش55: 8). يجب أن نعرف ونُمَّيز بين الله والأنسان، كما نُمَّيز بين المهندس صانع آلةٍ مُعَّينة والآلةِ نفسِها. المهندس صنع و نظم الآلةَ لتعملَ بشكل مُحَدَّد وتؤَّديَ هدفًا معَّينًا. هو أسمى من الآلةِ وسيِّدُها ويعرف عنها كلَّ شيء وكيف تعطل وكيف تُصَّلح ومتى ” تتسَكرَبْ”. أمَّا الآلة فلا تفقه شيئًا. وما تقوم به هو فقط تنفيذُ مُخَّططها. إنَّها مُسَّيرة. هكذا الفرقُ بين الله والأنسان. يختلف الأنسان عن الآلة لأنه عاقل وحُّر. إنَّه مُخَّيَرٌ. ولكنه لا يقوى على أمورٍ كثيرة تفوقُ علمَه وطاقته، منها الحياة والموت ، والمستقبل. فلا يليقُ بنا، لأنه ليس عدلاً ولا منطقيًا، أن نجعلَ من الله إنسانًا لا أكثر، كما لو جعلنا من المهندسِ الآلةَ!. وقد قال الأنجيل :” قيل ليسوع : من يستطيع أن يخلص؟. أجاب : أمَّا الناس فلا يستطيعون. أمَّا الله فعلى كلِّ شيءٍ قدير” (متى19: 26). ما لا يعرفه البشر عن المستقبل، الذي هو غائبٌ لا عدم، يعرفه الله الذي هو كاملٌ. فهو القدير على كلِّ شيء، والعارف بكُّلِ شيء (يو16: 30)، والمُحيي والمميت (تث32: 39)، فيُحيي الأموات ويدعو الى الوجود غيرَ الموجود (رم4: 17). الغيرُ الموجود هو بالنسبة إلينا نحن البشر. أمَّا في الله فكلُّ شيء حاضر وموجود. لأنَّ الله ” لا يتغَّير” (يع1: 17)، بل هو هو” بالأمس واليوم وللأبد” (عب 13: 8). وما صنعه الله صنعه على أساس و زوَّده بنظام يعمل بموجبه وهدفٍ يُحَّققه. و لم يخلق الله الكون والكائنات لزمن قصير. بل خلق الله الكون والأنسان ليدوم للأبد. ويمُرَّان بأزمنةٍ وظروف مختلفة من جيل الى جيل، ولأنَّ الأنسان لا يُؤَّبدُ على الأرض بل في السماء. لأنَّ الكونَ يتغَّير فيكتمل والأنسانَ يتطَّور في فكره وفعله ليُكَّملَ الكون. فالأنسان لا يعلم غيبَ المستقبل أما الله فيعرفه ويقودُ الحياة لتحقيق ذلك. وحتى الشَّر الذي يسمح به ليس لأنه يرضى عنه، بل لأنَّه يحترم حرَّية الإنسان ويُحَّولُ عمله فيؤولَ الى تحقيق خطَّةِ الله. أ لم يقُل يوسفُ لأخوته الذين ظلموه فباعوه أن ذلك كان بمعرفة الله ليُنقذَ شعبَه من هلاكٍ محتوم بسبب المجاعة ؟(تك50: 18-21). عرفَ الله ذلك من يوم حلم يوسف أما إخوته فغابت عنهم الحقيقة ولم يعرفوا بها إلا لمَّا تحَقَّقت. قال الله لأرميا :” قبلَ أن أُصَّورَكَ في البطن إخترتُكَ، وقبل أن تخرجَ من الرحم كرَّستُكَ لي نبيًّا للأمم “(ار1: 5). ألم يعرف الله عن إرميا قبل أن يُحبَلَ به ؟. كيف فعل الله ذلك إن لم يكن لله يدٌ في المستقبل الغائب؟. فبالنسبة الى الله المستقبل كالماضي والحاضر هو” المُطلق الموجود”.

تجهلون الكتب المقدَّسة وقدرة الله !

هكذا ردَّ يسوع الفريسيين الذين إدَّعوا إمتلاك ناصية المعرفة (متى22: 29)، فنعتهم بالقادة العُميان. إنَّ الكتاب المقدس من أول سفره الى آخِرِ سفرٍ يحوي نبوءاتٍ حيث يكشفُ الوحيُ الغائبَ على الأنسان والموجودَ في الله. وعدَ آدم بمخلص يأتي بعد ملايين السنين (تك3: 15)، وأكَّد لداود الملك أن المسيح المخلص يأتي من نسله (2صم7: 11-13)، و رأى بلعام سطوع نجم المسيح الملك (عدد 24: 17)، ورأى اشعيا آلام المسيح وعن ولادته البتولية (اش53: 1-12؛ و7: 14)، ومئاتُ غيرها تملأُ الكتابَ المقَّدس. والمسيح يسوع نفسُه كشفَ مُسَّبَقًا عما سيحدث له بعد سنين أو أشهر، مثل : الله يعلمُ الغيب بخصوص نهاية العالم (مر13: 20) وأنه سيتألم على يد اليهود ويُصلب على يد الوثنيين وسيقوم في اليوم الثالث (متى 16: 21؛ 17: 22-23؛ 20: 16) وعن إقتراب ساعة موته (متى26: 18) وعن خيانة يهوذا و قال: ” أُنبِئُكم بالأمر من الآن قبل حدوثِه، حتى إذا حدث ..”(يو13: 19). كما تنبَّأَ فكشف مستقبل حياة المؤمنين به ، سوف يُضطهَدون مثله ويُعتَبَرُ قتلهم قربانًا يُقَّدَم لله (يو15: 20؛ 16: 2)، وعن إهتداء السامريين الى الحق (يو4: 21)، وعن القيامة و الدينونة العامة، وعن كيفية حدوث نهاية العالم (2بط3: 10؛ 1تس4: 15-18) وقد كشفها الرب يسوع وغيرها لمار بولس في رؤيا خاصَّة (1كور15: 51).

عندما نتكلم عن الله وأعماله لا مفَرَّ لنا من الألتجاء الى الكتاب المقدس،لا الى المنطق البشري. لأنه كتاب الله، فيه أوحى إلى الناس، عن طريق الأنبياء، ما يحويه باطن المستقبل المجهول مِنَّا والمعروف لديه لأنَّه الوجود بالذات والقدرة والمعرفة والحياة الكاملة، يكشفه شيئًا فشيئًا حسب قدرة إستيعاب الناس وحسبما حانَ وقته :” لمَّا تمَّ زمن ذلك الأمر بتدبير إلهي (غل4: 4؛ أف1: 10-11). ولا زال الروح الألهي القدوس يقود الكنيسة ويكشف لها من حين لآخر الحَّقَ الذي عليها أن تتبعَه (يو16: 13).

القس بـول ربــان