الكتاب المقدس والقتل العنيف !

أهلا وسهلا بالأخت أرخـوان يوسف ساعور

أرخوان معلمة في التعليم المسيحي، إنحرجت في شرح قصة موت أليفانا على يد يهوديت، وكأنَّ ذلك تمَّ ببركةٍ من الله ومساعدته، بينما تمنعُ وصية الله الخامسة القتلَ!. فكتبت تقول :” كيفَ أُفَّسِرُ للطلاب بأنَّ هذه الحادثة شيءٌ جيّد .. في الوقتِ الذي نُفْـهِمُهُم بأنَّ وصّيةً من وصايا الله لنا هي ” لا تقتُلْ”؟.

نقرأ الوصية في إطارِها التأريخي !

ترتقي وصايا الله الى حوالي 3.300 سنة قبل الآن. لم يكن للأنسان في ذلك الوقت الوعي والحِّسُ الأدبي الذي لنا نحن اليوم. لم يكن الألتزام بالوصية حّدّيًا و حرفيًا. كان بالأمكان تبريرُ مخالفةٍ بالنية الصالحة التي من ورائها. مثلاً كان موسى قد إستلم لتَّوِهِ الوصايا من الله حتى كسراللوحتين، من غضبه على شعبه الذي عبد الصنم رغم كل أفضال الله عليه ورغم وعده بالألتزام بكلام الله، وأمر، بآسم الله، فقُتِلَ في يوم واحد 23.000 من الذي سجدوا للصنم. وكان مُبَّررُه دفاعًا عن قداسةِ الله وآستئصال الشر من بين الشعب. وأكَّدَ للقاتلين بأنهم نالوا بركةً الله من أجل عملهم هذا (خر32: 25-29). وفي قصَّة يهوديت مُبَّررٌ إضافي أقوى. إنه الدفاع عن النفس. أليفانا حاصر مدينة شعب يهوديت ويُهَّددِهم بالقتل إن لم يعتبروا نبوخذنصَّرإلَهًا وسجدوا له وتركوا عبادة الله الخالق. فالحيلة والقتلُ يُبَّرِرُهما قادة البشر في الحروب. ونتذكر كُلنا بأنه لمَّا كانت الحربُ قائمةً بين العراقَ وايران كان القادةُ من الطرفين يُعلنون قتلى العدو وخسائِرَه ويعزون نصرَهم في فعلِهم الأرهابي إلى أنَّ ذلك بركةٌ من الله بإشفاع الأنتصارات الدموية بآيات دينية دلالة على تدخل الله بنفسِه في تلك الحرب. ففي ضمير يهوديت لا تدورُ وصية عدم القتل، بل تهيجُ ثورةُ إنقاذ النفس والأبرياء، لاسيما من كُفْرِ وظلمِ المهاجم. فكل أنسان في حالة الخطر يبحثُ أولا عن إنقاذ جلده. وإن لم يكن القتلُ مسموحًا إلا إنَّ القادة يُبَّررونه بالنتيجة وهي إنقاذ البلد أو الحياة. ولهذا تبَّنى الملايين مبدأَ ” الغاية تُبَّررُ الواسطة”، والمثل الآخر وهو :” القتلُ دفاعًا عن النفسِ حلال”. نحنُ المسيحيين علمَّنا يسوع أنَّ تلك المبادئ خاطئة. القتلُ حرامٌ وغير مسموح أبدًا لأننا لسنا نحن أسياد الحياة. لم نُعطِ نحن الحياة للآخرين لنستردها منهم بالقتل. والشَّرُ لا يُقضى عليه بشَّر مقابل. الشرُّ يبقى شَرًّا في كل الأحوال. إذا قلعَ أحدٌ عيني فهذا شر. وإذا إنتقاما أو عدالةً أقلعُ أنا عين ذلك الإنسان فأنا أيضا تصَّرفتُ بالسوء. ولم أستّرد عيني بل جعلتَ آخر أيضا بلا عين. وبقلعي عينه لا أضمنُ أن يتوَّقف عدّوي عن السوء. وربما يُضاعفُ سوءَه فيَقطع لي رجلي ، أو يحاولُ قتلي. لذا طلبَ منا الرب ألا ندين الآخرين حتى المجرمين بل أن نسامحهم ونساعدهم على إصلاح سوئِهم. أما يهوديت فلم تكن في موقف مشابه بقدر ما كانت غايتها إنقاذ شعبِها البريء ولمْ تأتِ باسم الشريعة بل حبكت خطة حربية لكسر العدو بقتل القائد و خاطرت بذلك بروحها. مع ذلك لم يقل الكتاب بأن الله بَرَّرَ خطتها أو باركَها كما فعل موسى نفسُه. بل هي والشعب إعتبروا نجاحَها بركة من الله بأنه إستجابَ طلبَها و سَهَّلَ لها المهّمة. في حين هي التي إستغلت الظروفَ الموجودة على الساحة : جمالُها ، حرمان القائد من الملذات ، الكذب والحيلة، وبدت تنَّفذ خُطتها بحكمة.

ولا ننسى أن سفرَ يهوديت هو، مثل سفر يونان، ” أمثولة” يدعو الى الأيمان بالله والتقيد بالشريعة الموسوية. وآلاف المُرَّبين والأمهات يروون للأطفال قصَصًا من خيالِهم ليعلموا أخلاقًا معَّينه وقد لا تكون دومًا خالية من أخطاء، مقصودة أحيانًا. ففي قصة يهوديت ربما تدَّخلَ اللهُ فعلاً إستجابةً لتقوى يهوديت ليُظهرَ أنَّ من يحب الله ويعبده بإخلاص يُنقذه الله من مخاطر كثيرة. أكيدًا لم يُعَّلم الله يهوديت ماذا تفعل وكيف تقتل وكيف تدفعُ أليفانا إلى السكر لتقدر على قتله. إنما لأنَّ اليفانا كان إنسانًا شريرًا ويفعل الشر ويفرضُ العبادة لإنسان دون الله، وكان ناويًا على الفساد (يهو12: 16-17)، ولكي يشجعَ الله الشعب على الوثوقِ به وسماع كلامه، ولم يبقَ في أليفانا أملٌ في توبته والأبتعاد عن الشر، رفعَ الله حصانته عن أليفانا وترك ليهوديت فرصة أن تبرهن على إستقامة نيتها وبراءتها من الفساد، فترك لأبليس المجال أن يتصَّرفَ، كما فعل مع أيوب البار(أي1: 12؛ 2: 6)، أو سدوم وعمورة. فطمس ابليسُ أليفانا في الوثنية والفساد وجَرَّ يهوديت الى الحيلة والكذب فتشابكت تدابيرُهما ومخططاتهما وحصل ما حصل. غضَّ الله الطرْفَ عن كذب يهوديت، كما يسكت على كلِّ جرائم البشر، لأنها كانت من جهة أخرى تحفظ الوصايا والشريعة، فأَعطاها الله فرصة جديدة لتُبطل من كذبها أيضا ومن مكرها. هذه زبدة رسالة السفر. أما كيف نرويها للأطفال فبالتأكيد نُرَّكزعلى الجانب الأيجابي من الخبر. الله أبٌ يحب جميع الناس ويريد لكلهم الخير. ودعانا الى التآخي والتآلف بيننا. ولكن عندما يخطأ أحد مثل اليفانا لا يرضى عنه. وإذا أصابَ سوءٌ مَن كان صالحًا فالله يُغيثُه. و إذا تشابكت مصالحُ مجرمٍ وقديس وآعتدى الأول على الثاني وحاولَ إيذاءَه، وآستنجدَ الثاني بالله، فيساعد الله القديس طبعًا. يفَّضل الله موت واحد على موت الآلاف. الله يساند أولا المظلوم والمحتاج. وثانيًا لمن يطلب منه.لأنه أب. وليس إستصغارًا وإهمالا للمجرم بل تعظيمًا لموقف القديس و تقديرًا له ودعوة الآخرين للأقتداء بالقديس. يهوديت إستنجدت بالله أما أليفانا فلا فقط لم يطلب من الله بل أرادَ أن يتخَّلصَ من الله ويُبيد من يعبدونه. وكما أنقذ الله نوح وعائلته الأبرار من الغرق، و لوطًا وأسرته من الحريق، هكذا أنقذ شعبَه من إبادةٍ قصَدَها لهم اليفانا. فسمح بهلاك العدو الشرير ونجاة الشعب البار. يستغلُّ الله أحيانًا كثيرة شرَّ الأنسان، الذي يسمح به إحترامًا لحريته، ليُخرجَ منه خيرًا عظيمًا، مثل بيع يوسف عبدًا ليُقيمَه ملكًا ويُنقذ البشرية من المجاعة التي سبَّبَها ابليس للقضاء على الأنسانية. وكذلك سمح الله بموت يسوع فيُظلَم حتى يُعَّلمنا التمَّسك بالحق ولو بقبول الموت، وحتى تخلصَ البشرية من عبودية ابليس ولا تهلك بل تهنأ وتتمجَّد مع الله للأبد. يبقى أخيرًا أن أمثولة يهوديت درسٌ يدعو الى الأيمان بالله و حفظ كلامه، والوثوقِ به وليس بأعداء الله.

القس بـول ربــان