الفاتيكاني الثاني وخلاص غير المسيحي !

أهلا وسهلا بالأخ جواد عمـر

قرأ الأخ جواد مقررات المجمع الفاتيكاني الثاني وآطلع على المعلومة التي تُعلن بأنَّ خلاصَ غير المسيحيين ممكن إذا كانوا مؤمنين بالله و”يعملون الصالحات وفق شريعتهم” حتى لو لم يُعلنوا إيمانهم بالمسيح. إستغربَ الأمرَ وآنفعلَ له ، فتساءَلَ يقول :

@ إذا كان هذا فما الداعي الى التبشير والكرازة ؟ وأضافَ سؤالا آخر يقول :

@ كيفَ يشعرُ غير المسيحي بأنه إقتنع بالمسيحية ؟

البشارة والكرازة !

البشارة أو الكرازة هي إيصال الأخبار السارة بالمسيح أنَّ الله أصبح إنسانًا لنتعرف عليه عن كثب ونرتبط به في علاقة محبة ، لأنَّ الله أبونا، ونتعلم منه طريق الجنة وكيف نسلك ذلك الطريق، وما هي مستلزماته حتى نضمن الحياة الأبدية في السعادة والمجد مع الله خالقنا. وبما أنَّ المسيح هو الذي كشفَ لنا وجهَ الله الحقيقي ومشيئته الصادقة، لأنه كان هو نفسه اللهَ المتجَّسدَ فتعلن الكرازة حياة المسيح وتعليمه لنتعَّرفَ بواسطته على الله ومشيئته. و هذا يعني أنَّ من يريد الحياة الصحيحة، الآن على الأرض ومدى الأبدية بعد الموت، عليه أن يتبعَ المسيح. والكنيسة لا تعمل غير هذا، أن تتبع المسيح شاهدة له على أفعاله وأقواله.

الخلاص والهلاك !

إن كان التبشير إعلانًا فقط إلا إنَّ الخلاص هو تفعيل ذلك التبشير. لن يتم الخلاصُ بالأنتماءِ الى ” دين” المسيح بل بعيش أو تطبيق” مباديء المسيح” الحياتية. لأنَّ المسيح يُطالبُ الناس حياةً مبنية على المحبة. لم يُعطِ يسوع شريعةً أو سُنَّةً غير المحبة التي” تختصر، كما قال، الشريعة كلها وتعاليم الأنبياء” (متى22: 40). لم يُشَّكلْ يسوع قومًا أوعشيرة أو مذهبا يضمن الخلاص بالأنتماءِ اليه فقط. بل يُطالبُ الأنسان أن يشُّعَ في حياتِه حياةَ الله وأعماله ، ” يدخل ملكوت الله فقط الذين يعملون بمشيئة أبي الذي في السماء” (متى7: 21). ومشيئة الآب السماوي، بجانب الوصايا العشر(خر20: 3-17)، هي ” إطعام الجواعى ، وإرواء العطشى، إيواء الغرباء، إكساء العريانين، زيارة المرضى، وتسلية الحزانى وإسناد المسجونين”(متى25: 35 ). وقد إختصرها الرب يسوع بعبارة واحدة :” عاملوا الآخرين مثلما تريدون أن يُعاملوكم” وقال:” هذه خلاصة الشريعة والأنبياء” (متى7: 12).

جاء.. ليُخَّلِصَ العالم !

جاءَ المسيح ليُدَّلَ أهل العالم على سبيل الخلاص لا ليدينَهم (يو3: 17). وقد فعل. وقد إفتهم سهوًا بعضُ المؤمنين بأنَّ من لا يدين بدين المسيح يهلُك. ربما ساعدهم على ذلك تفسيرُ تعليم المسيح بهذا الشكل قولُهُ الآخر،” من آمن وآعتمدَ يخلص، ومن لم يؤمن يُدان” (مر16 : 16 ). وبعض الترجمات أدت المعنى بـ” يهلك” عوضًا عن أن “يُدان”. مع أن قول الرب يسوع صريحٌ أنه لا يريد أن يهلكَ أحدٌ من البشر، فقال: ” ومن سمعَ أقوالي وما آمن بها لا أدينُه.” (يو12: 47). حتى الذين صلبوه لم يتمَنَّ لهم الهلاك بل طلب لهم الغفران (لو23: 34). و لكن إذا تابوا وطلبوه وليس رغمًا عنهم.

الله أب البشر كافة !

هذا ما صَرَّحَ به المجمع الفاتيكاني (فقرة 15) مؤكدا إحترام الحرية الدينية لكل إنسان رغم إعترافِه بأنَّ الكنيسة ” الكاثوليكية ، وفقا لأرادة المسيح ، هي معلمة الحقيقة ، و وظيفتها أن تُعَّبرَ عن تلك الحقيقة.. وتُعَّلمها للغير تعليما شرعيا” (فقرة14)، وأضاف:” وتحُّثُ محبةُ المسيحي المؤمن على أن يعملَ بمحبة وفطنة وأناة تجاه أولئك الذين لا يزالون في الضلال تجاه الأيمان أو الذين يجهلونه ” (فقرة14). بمعنى آخر دعا المجمعُ المسيحيين الى عدم إكراه أو دينونةِ الآخرين حَدَّ الإساءة اليهم بآسم الدين. يسوع نفسه منع بطرس من استعمال السيف للدفاع عن يسوع نفسه (متى26: 52)، ولم يمنع يهوذا من خيانته له بل تركه يتابع تعاونه مع اليهود على قتله (يو13: 27). ولو كان تاب عن خيانته كما تاب بطرس عن نكرانه كان يسوع مستعِدأ أن يغفرَ له، كما غفر القديس البابا يوحنا بولس الثاني للذي حاول إغتياله سنة 1981. فما قصدَه المجمع أن المسيح، والمسيحية تبَعًا له، لا تُكره أحدًا على قبول الأيمان بيسوع، كما لا تحكموا على أحد أنه هالك. تدعُ المقاومين للحق، المتجَّسد في يسوع المسيح، لحكم الله. كما تؤكد، أيضا تبَعًا لتعليم يسوع، بأن ليس كلُ مُنتَمٍ الى المسيح يخلص فقط لأنه مؤمن بيسوع. الشيطان أيضًا مؤمنٌ به !(يع 2: 19).!

لا يكفي الأيمان وحده. بل يقتضي الأيمان أن يكون المؤمن ، مثل المسيح، “ملحًا ونورًا و خميرة” للمجتمع الأنساني؛” ليس من يقول لي يا رب يا رب يدخل ملكوت السماء” (متى7: 21). والأيمان بلا أعمال عقيمٌ وميِّتٌ (يع2: 14-29). لأنه لو ” كان لأحد إيمان ينقلُ به الجبال ولم تكن له المحبة فهو ليس بشيء” (1كور13: 2). و المحية هي حياة وأعمال. لا المسيحي يضمن السماء بعماده وحده بدون” إيمان يعمل بمحبة “(غل5: 6)، ولا غير المسيحي يهلك إنْ لم ينتمِ الى المسيح لكنه يتحَّلى بأعمال الأيمان. هذا ما أكده يسوع عندما أكَّدَ بأن الدينونة على الحياة وليست على الأنتماء (متى25: 34-36). هذا ما فسَّره بولس بقوله :” إنَّ الأمم الذين بلا شريعة، إذا عملوا بالفطرة ما تأمرُ به الشريعة ، كانوا شريعةً لأنفسهم،..فيُثَّبتون أنَّ ما تأمربه الشريعة مكتوبٌ في قلوبِهم وتشهدُ له ضمائرُهم وأفكارُهم” (رم2: 15). وهذا ما يُقِّره المجمع، عندما ” أهاب بالجميع، المسيحيين والمسلمين: الى نسيان الماضي والعمل بإخلاص على إحلال التفاهم المتبادل بينهم، والتعاون على حماية وتعزيز العدالة الأجتماعية والقيم الأدبية والسلام والحرية للناس أجمعين” (فقرة 4). لم يخرج المجمع عن وحي الله الذي قال :” كلُّ من يدعو بآسم الرَّبِ يخلص”(يوئيل3: 5).

لا أحد يجيءُ الى الآب إلا بي !

هذا كلام يسوع بأنه لا خلاص إلا به. هو الوسيط الوحيد بين الله والأنسان (1طيم2: 5). و هذا أكد عليه المجمع الذي نوَّه الى وجود أحيانا بعض أشياءٍ” صحيحةٍ ومقدسةٍ ” في الأديان غير المسيحية ولكن مع ذلك ” تعلن الكنيسة ، و من واجبها أنْ تعلن دوما، أنَّ المسيحَ الذي هو الطريق والحق والحياة (يو14: 6)، فيه يجد الناس ملءَ حياتِهم الدينية وبه ” صالحَ اللهُ كلَّ شيء مع نفسِه “(2كور5: 9). فالبشارة والكرازة والشهادة من صلب رسالة الكنيسة و مُبَّرر وجودِها. تبقى على مرالأجيال والأزمان تدعو الناس من أي دين او معتقدٍ كانوا حتى ولو مُلحدين، إلى سلوك سبيل المسيح، سبيل الروح (رم8: 4)، لتسهيل الخلاص لجميع البشر.

جاء المسيح ليُخَّلصَ الأنسان. الأنسان إذن محورُ الأيمان وقبلته. والأنسان كريم وحر لأنه صورة الله. ومن أجله خلقت الأشياءُ كلها. ولا يتنازلُ الله عنه ، حتى لو أخطأ، بل يحاول أن يقوده دوما على درب الحياة. لا يتعاملُ معه تبعًا لأنتمائه الى هذا التيارأو الدين أو ذاك، بقدر ما يحاسبُه على أمانتِه لمشيئته ومحبتِه. ولا يرفضُه لأنه جهلَ أو لم يُدرك عمقَ كيانِه. وأمانةً للوحي الألهي وآحتراما للأنسان قال المجمع ما يلي :” تحُّثُ الكنيسة أبناءَها لكي ، بحوارهم وتعاونهم القائمين على الفطنة والمحبة مع أتباع الأديان الأخرى، وبشهادتهم للأيمان والحياةِ المسيحية ، يعترفوا بما لديهم من خيراتٍ روحية وأدبية وقِيَمٍ إجتماعية ثقافية، ويعملوا على صيانتها وتعزيزِها “(فقرة 2). لم يُقّرِ المجمع إذن بعدم حاجةِ غير المسيحي الى الأيمان بالمسيح بقدر ما طالبَ الأعتراف بكرامة الأنسان، أيٍّ كان، وبحريتِه ولاسيما محبتِه وإعطائِه المثل على نقاوةِ الأيمان المسيحي وصِحَّةِ شهادة الكنيسة بسلوكٍ مسيحي مُنَّـوَرٍ بحياة يسوع المسيح نفسِه.

الأحساسُ بالقناعة بالمسيحية !

القناعة كنزٌ لا يَفنى، يقول المثل. نعم لأنه ليس من السهل أن يقتنعَ الواحدُ بأفكارٍ لا تنبعُ منه وبآراءٍ يستسيغُها بصعوبة. خاصةً وأن كرامةَ الأنسان وآعتدادَه بنفسِه، بقابلياتِه الفكرية و العملية، تدفَعه عادةً إلى الإكتفاءِ بذاته ومَلَكاتِه. وليس أيضا سهلاً إفراغُ إناءٍ مما فيه إذا كان ما في هذا الأناء جزءًا من حياتِه. الحياة تُبنى يومًا بعد يوم. تبدأ من فراغٍ خام وتنبني لبنَةً بعد لبنة خلال فترةٍ تمتَّدُ عقودًا وحتى أجيالَ. وهدمُ هذا الصرح يفتحُ شدخًا في بناء الحياةِ كلها. وليس سهلا دومًا إزالةُ الأنقاض بعد الهدم وبدء إقامةِ صرحٍ جديد. قد تكون هذه العملية سهلة عندما يعودُ الأمر إلى بناء مادي، دارٍ أو تغيير حديقةٍ. أما تغييرُ سلوكٍ وأفكارٍ وقناعاتٍ سابقة ضربت أطنابَها في تربة الكيان والحياة فيُكَّلفُ ذلك تعبًا وجُهدًا لا يُستهانُ بهما. خاصَّة بأفكار وعاداتٍ وتقاليدَ إجتماعية تُحَّذرُ من المخاطرةِ بالتغيير وتُبَّررُ الواقع وتُضفي صورة من الكرامة على الأنسان. إنها تراثٌ يفتخرُ به ، أقله بجزءٍ منه إن لم يكن بكله، وقد مارستهُ أجيالُ من أناس يفتخرُ بهم ويكُّنُ لهم إحترامًا ومحبة.

أنتم شهودٌ لي !

إذا إقتنعَ غيرُ المسيحي بأنَّ إيمانه باطلُ، وأنَّ الأيمان بالمسيح هو الأصح لأنَّ المسيح قادرٌ أن يخَّلصَه فيضمن له حياةً كريمة وهنيئة، عندئذٍ عليه أن يتَّخذ الخطوة التالية ألا وهي الأجهار بإيمانه لأنه مرتاحٌ اليه، مقتنعٌ منه أنه وحده يكفلُ له وللآخرين سلوكا يُوَّفرُ السلام والأخاء بين الناس ويبني حياةً راقيةً تقود البشرية نحو الأفضل. وبعدَ الأعلان عن الأيمان الجديد يعيشهُ فيشهد بذلك أنه لا يُرائي ولا ينافق ولا يلعبُ بمشاعر غيرِه، بل يعمل ما يجب عليه ليُحَّققَ حلمَه ويُجَّسِدَ ما يختمرُ في داخله. فإذا كان المهتدي مقتنعًا بهذا المطلوب منه ومستَعِدًّا للتقيُّدِ به دون أن يستحيَ من أحد ، بل برغبةٍ منه ليوصلَ هذا الخير الذي إقتناه الى غيره من أقرانه أو أقربائه لاسيما من أبناءِ دينه السابق. هذا ما فعله مار بولس الذي ما أنْ إهتدى حتى بدأ يُبَّشر أقرانه اليهود بالمسيح. ثم سافر الى مدن وقرى يدعو اليهود اولا الى الأيمان بالمسيح ثم الوثنيين، مُبَّينًا بطلان معتقدهم القائم والموروث وداعيا ايَّاهم الى الأقتداءِ به وآتباع يسوع المسيح والحياة حسب مبادئه.

من نكرني قدامَ الناس أنكره قدام أبي !

والبشارة هذه بالمسيح قد تجلبُ له عِداءً، وقد يبلغ هذا العِداء حَدَّ طلبِ قتلِه. أما حسدَ اليهودُ يسوع وتآمروا عليه وقتلوه؟. وبولس أيضا عندما عرفَ اليهودُ أنه إنقلبَ الى دين المسيح ناصبوه العِداءَ وأردوا الأنتقام منه والقضاء عليه لئلا يستمرَّ بعمله. وبعد بضعة أيام من عمادِه :” سارعَ بولس الى التبشير في المجمع بآَّنَ يسوع هو ابنُ الله .. وكان يزدادُ قُـوَّةً في تبشيره فأثار الحيرةَ .. وبعد مدة من الزمن وضع اليهود خُطَّةً ليقتلوه ” (أع9: 20-23). غادر دمشقَ لكنه لم يستسلم وبشَّرَ مدة حوالي عشرين سنة يتجول بين المدن والقرى يُعلن إنجيلَ المسيح. وقد تعَّرضَ لمخاطر عديدة (2كور11: 20-27). ولما أبلغه الروح بأنه سيُسجن تهلل بولس وصاح :” ما بالكم تكسرون قلبي؟. أنا مستَعِّدٌ لا للقيود وحدَها بل للموتِ من أجل الرب يسوع “(أع21: 13).

إذا كان أحدٌ لا يشعرُ بالقوة والأستعداد للشهادة ليسوع وآتباعه حتى المخاطرة بالموت من أجل حقيقته يبقى هذا الشخص لم يفهم بعد عمق رسالة المسيح ولا يملكُ قوة الروح القدس للمجاهرة بإيمانه. وحتى يقتنعَ بصحة رسالة المسيح وتفَّوُقِ دعواه يقدر أن يقيمَ مقارنةً بين نتائج المباديء المسيحية، في الحقل الأجتماعي، من غيرها فيرى الفرقَ بين ثمار دينه و ثمار تعاليم المسيح. ويُحَددَ لنفسه أي نوع من الحياة يريد أن يعيش، وما هو المذهبُ الذي يحقق طموحَه ويُجَّسدُ آمالَه ويُرَّيحُ روحَه.

القس بـول ربــان