الـدين الصحــيح !

أهلا وسهلا بالأخت أرخوان يوسف

قرأت الأخت أرخوان في موقع ” دَخْلَكْ تعرفْ “، صفحة ” أنا أعشقُ المعلومات” ما يلي :

<|” سبعة ملايين بشر على الأرض. مئات العقائد والطوائف المختلفة. وكلُّ واحد منا مْفَّكِرْ أنَّ دينَه فقط وعقيدتَه هما الصحْ “|>. وطلبت أرخوان شرحَ هذا الكلام، مُضيفة سؤالاً حتميًا :: $ كيف إذن يُحاسبُ اللهُ الأنسانَ ؟.

أ تريدون أن تذهبوا مثلهم ؟

لما تحَدَّث يسوع عن أنه هو خبز الحياة ومن لا يأكل من جسده لا حياة له إعترضَ تلاميذه عليه وتراجع كثيرٌ منهم عن مصاحبتِه فقال يسوع للرسل الأثني عشر:” أ تريدون أن تذهبوا أنتم أيضا”؟(يو6: 51-67). وهذا يؤدي الى الإستنتاجات : أولاً، إلى أن المعلم لا يفرضُ تعليمه، وإن كان حَّقًا، بالقُّـوة ؛ وثانيًا ، أنَّ تلاميذه وكل من يسمعه أو يقرأ إنجيله يبقى حُرًّا في أن يقبلَه أو يرفُضَه. وبالنتيجة هذا يعني أنَّ على كل إنسان أن يُصغيَ أو يقرأَ، ثم يتأمل فيه، ويأخذ بعده موقفًا شخصيا بالأقتناع بصحته أو ببُطلانه، وفي النهاية يقبله فيتبعه أو يرفضه ويُهملُه. وثالثا، أنَّ اللهَ نفسَه لايفرضُ حتى ولو الحقيقة نفسَها على البشر. فلا يَحُّقُ إذن لغيره أن يفرُضَها. بل يعرُضُها عليهم ويُقَّررُ كلُ واحدٍ مصيرَه. الحقيقة هي الله، وعلى الأنسان أن يُعَّرفَ به، قولاً وفعلاً، دون أن يفرضه.

يُخرجُ من كنزِهِ كلَّ جديدٍ وقديم ! متى 13: 52

كثرةُ الطوائف والعقائد دليل عافية العقل البشري، أى أنه ليس جامدًا بل حَّيًا يتفاعل مع تجَّدد الحياة وتطوُرِها. تتطور عقليات الشعوب وثقافاتهم وظروف معيشتهم، فعليهم أن يجتهدوا في معرفة الحق الذي وحدهُ لا يتغَّير في بيئتهم وحضارتهم. إنَّ الكون الواحد منقسم الى قاراتٍ وبيئات. والشمس الواحدة تنعشُ فيها الحياة نفسها. وكل شعبٍ يكَّيفُ حياته مع ظرفه الخاص. كل شيءٍ يتغَّير ويتطور عدا الشمس التي تبقى هي مصدر الحياة لكل الناس والبلدان. هكذا تتطور الشعوب والأفراد. وقد لا يُعَّبرون عن الحقيقة أولا يعرفونها كما هي. يختلفون في طريقة النظر الى الحقيقة ومن الزاوية التي يرونها والتعبير عنها. الحقيقة هي الله وحده. و الله لا يتبدَّل ولا يمكن أن يتكيَّف مع الرؤى المختلفة عن ماهيته. وكشف الله حقيقته بواسطة أحداث التأريخ. أوحى الى البشر أو أجرى آيات كشفت كيانه ومشيئته. لقد تلقى البشر وحيه بأشكال مختلفة. وكل فئة تعتقدُ أنها هي عرفت الله على حقيقته. وأنَّ إدّعاء المختلفين معه باطل.

يقول الكتاب :” الرب خلق الأنسان في البدءِ ، وتركه حُرًّا في آختيارِه” (ابن سيراخ 15: 14). ونتيجة الأختيار الحر لاحظ الكاتب أن” كثيرين أضَّلهم بُطلان آرائهم، وعلى عقولهم سيطر الوهمُ “(3: 24). و لذلك يؤكدُ ” بأنَّ العلم والمعرفة لا يجوز أن يحصرهما القاريءُ في نفسِه بل تتحقَّق الغاية منهما حين يساعد الآخرين. كلُ واحد يحترم التعليم ، يساعدُهم بما يقول ويكتب “(1: 4). فلمعرفة الحقيقة يجب أن يتم حوارٌ منطقي هاديء بين الأطراف المتعارضة دون تعَّصب ولا آنحياز. ماذا يعمل التجار وكيف تتصرف الشركات؟ تعرضُ ما لديها، تكشفُ جوهرها وجودتها وتدعو الناس الى إختبارها وآقتنائها. وتقوم المنافسة. و المنافسة الشريفة ترفضُ الأعتداء على المنافس أو إرغامه على شيء. تحاول فقط إقناع الناس بجودة مادتها وصرفها.

هكذا فعل الله. خلقَ الأنسان على صورته عاقلاً وحرًا. وكشف له ذاته ومشيئته. ويريدُ منه أن يحيا كرامته هذه بأن يسَّلِطَ ضوء عقله على كل ما يحدث حواليه. وينتبه الى الأرشادات / الوصايا التي زوَّده بها ويختار طريقه في الحياة. حتى عندما تجَّسد الله في شخص يسوع أعلن الحقيقة وطالبَ ألأنسان أن يؤمن به ويسمع منه لأنه أظهرَ له عظمة محبته وآهتمامه بخلاصِه. لا أحد إستطاع أن يثبت عليه خطأً أو خطيئة، بينما برهن هو على قدرته وبراءَته والحق الذي يحمله الى البشر. ومع ذلك لم يُبِدْ معارضيه. و إذا كان الله الخالق قد تجسَّد و تكلم فهل يقوم حَّقٌ آخر إزاءَه؟ . رغم ذلك لقد ظهر أناسٌ عاشوا بشكل معَّين وعَّلموا، بل و آدعوا أنَّ مصدر مبادئهم هو” مُبْدِعُ هذا الكون” نفسُه. آمنت شعوبٌ بهذا وشعوبٌ بآخر. و لكن إذا آمنا بأن للكون خالقًا وحيدًا و إلـهًا يرعاه عندئذ يجب أن ننتبه إلى الخلاف القائم بين تعليم الفئات والعقائد المختلفة، لاسيما المتضاربة بينها. لا يمكن أن يكون للحقيقة الواحدة عينِها ، لله الواحد ، وفي نفس الوقتِ و الأمر وجهان مختلفان و لا سبيلان متعارضان. وإذا تعارضت عقيدتان أوتضاربت ديانتان فلا يمكن أن تكونا كلتاهما صحيحتين. ولابد لإحداها أن تكون صحيحة وللثانية أن تكون باطلة. وبما أنَّ كلتيهما تُعزيان الى نفس الله فلا بد وأنْ يكون صاحب إحداها صادق في دعواه والآخر كذاب. وقد نبَّه الله الى ذلك بقوله : ” إياكم أن يضلكم أحد .. يظهرُ كثيرٌ من الأنبياءِ الكذّابين ويُضّلون أناسًا كثيرين “(متى24: 4-11،و24).

و بالأضافة الى ذلك إذا أردنا معرفة أيتهما هي الحق فلابد من ملاحظة نتائجها في واقع الحياة الملموس: هل هي جيدة تنفع وتبني الحياة أم بعكس ذلك تهين الأنسان وتؤذيه؟. لأنَّ خالق الأنسان لا يمكن أن يأمر بأذيته، بل يحترمُه لأنه يُحّبه. و خالق الأنسان لا يهتم بحياته على الأرض فقط. بل يدعو الأنسان و يرشده ليحيا بشكل يضمن الحياة له ولكل البشر مدى الأبدية مع الله نفسه. فأيُّ تعليم يناقضُ هذا لن يكون من الله. يكون تعليمٌ محضٌ للبشر. وإذا كان تعليمَ البشر فمن يكون المُخَّول ليحكمَ بصحةِ عقيدةٍ ضد أخرى؟. ومن له السلطة حتى يفرضَه على الكل؟.البشر كلهم متساوون. البشر كلهم عقلاء. البشر كلهم جديرون بالثقة. أو يجب أن يكونوا كذلك. وإذا إدَّعى كلُّ واحد القيادة لنفسِه فمن تكون له السلطة ليفصلَ بينهم ؟. يجبُ في هذه الحالة تحكيم المنطق وخير البشرية العام على الرأي الخاص.

أما عن قناعة كل فئةٍ بصحة العقيدة الخاصة فهذا أمر طبيعي ومحتوم وإلا لما وُجِدَ إختلاف . وهذه القناعة والإدّعاء ضرورية لتمييز الصادقين من المحتالين. لأنه إذا لم أكن أنا مقتنعًا بصحة عقيدتي وبطلان العقائد المعارضة فلن يكون صحيحا أن اتمَّسكَ بها بل يلزم أن أتبع عقيدة أخرى أراها أصح من عقيدتي. وهذا يكون واجبٌ ضميري وإلا أكون منافقًا ودجَّالاً. يكون الحوار بين أناس صادقين مقتنعين بصحة مقالتهم وبطلان مقالة غيرهم أسهل من التعامل مع أناسِ دجالين غشَّاشين يتقلبون مع المصلحة، أو يبحثون فقط عن ضرب العقائد ببعضها، أو ينوون القضاءَ على الفكر الديني. وجود الصدق في القناعة يقود الى إحترام مقالة الآخر، وبالتالي يساعده على البحث عن الحقيقة، كما هي في الله لا كما يراها الأنسان . جرى حوار بين الخليفة المهدي والبطريرك طيمثاوس الكبير(بط. 780-823م). سألَ الخليفة البطريرك: أيُّ دين أصَّح؟. أجابه : الذي يرضى عنه الله. ومن يريد الله بصدق لن يتأخرَ عن إكتشاف العقيدة الأصح ولا يترَّددُ في تبَّنيها.

يدينُ اللهُ سرائر الناس ! رم2: 16

أما كيفَ يُحاسب اللهُ الأنسان، فإنه يُحاسبُه على حياتِه وليس على نوع دينه أو عقيدته. لأنَّ الأيمان الحقيقي يدفعُ الأنسان الى سلوكٍ مُحَّدَدٍ. يقول عنه مار بولس : ” الأيمان الفاعل بالمحبة ” (غل5: 6). وهذا السلوك يجب أن يؤدي إلى حماية الحياة والى تحسين سُبُل نمُوِّها. يتحَّددُ السلوك بالأعمال، والأعمال تُقاسُ بالنيات. يريدُ اللهُ إستقامةَ نية الأنسان في تصرفاتِه، ويريدُ أن تبنيَ أعمالُه الخيرَ العام وأن يتمجَّدَ بها هو اللهُ نفسُه. ويتمجَّدُ الله عندما يتمَّسك المؤمن بحفظ وصايا الله وشريعته. وشريعةُ الله تصوغُ الضميرالذي يكون نورًا يقود الأنسان في أفعاله. يقول ماربولس :” تشهدُ للوثنيين ضمائرُهم “(رم2: 15)، ويقول الرب :” سوف يأتي المسيح .. ويجازي كلَّ آمريءٍ على قدر أعماله ” (متى16: 27). لا يحاسبُ الله إذن على الأيمان ولا على هوية العقيدة. بل يطالبُ بحياةٍ تتماشى وطبيعة الأنسان نفسه. و ما دام المؤمنُ صورةَ الله مطلوبٌ منه أن يُجَّسدَ حياة الله في سلوكه الأجتماعي والأنساني. مطلوبٌ منه ألا يؤذيَ أحدًا. مطلوبٌ منه أن يستغفرَ من الذين ظلمهم وأن يغفرَ للذين قد أساؤوا اليه. مطلوبٌ منه أن يحترمَ الحياة بذاتها، بغض النظرعمن يتمتع بها هل هو صديقُ أم معارضٌ. لأنَّ الحياة ملكٌ لله وعلى الأنسان أن يحميَها ويساعد على نموها وآنتشارها.

القس بـول ربــان