العلاقة بين سّري التوبة والقربان المقدس !

أهلا وسهلا بالشماس بطرس آدم.

كتب الشماس يقول :” طلب كاهن في الموعظة من جميع الحاضرين أن يتناولوا. أعترض بعضُ الحضور على أنهم ليسوا مؤهلين للتناول ، لأنهم لم يعترفوا أمام الكاهن. أجابَ : ليس من الضرورة الاعتراف . بل مجَّرد حضور القداس يكون من حَّق الحاضر أن يأخذ القربان المقدس “. أرجـو إبـداءَ رأيـكم !.

سبق وطُرح سؤال عن التناول في القداس وكتبت عنه الجواب في 17 / 4/ 2014 يمكن الإطلاع عليه. واليكم رأيي فيما سألتم.

رأيي ، أم تعليم الكنيسة !

إنَّ الاستفسار يدور حول سَّرين من أسرار الكنيسة ويخُّص العقيدة الإيمانية وليس الاجتهاد الشخصي للاهوتيين. فلا يتوقفُ الأمرُ على رأيي أو راي غيري. ولا أيضا على ما يحدثُ هنا أو هناك. ولا أيضا على ما هي العادات المتبّعة من عقودٍ بل ومن قرون. بل يستوجبُ الأمرُ استجلاء تعليم الكنيسة الرسمي بهذا الخصوص. فالكنيسة هي التي تعَّلم وليس أي كاهن أو حتى أي أسقف كان.

التـوبة ، أم الأعتـراف !

مغالطة أخرى ننزلق اليها في أغلب الأحيان وهي الكلام عن ” الأعـتراف ” عوضًا عن ” التوبة “. فعلا تحَّدثَ السائلُ الكريم عن ” الأعتراف والقربان المقدس”. الأعترافُ هو المرحلة النهائية فقط من سر التـوبة. إنه الأقرار بالخطايا أمام الكاهن في المنبر. لقد دعا يسوع الى التوبة :” توبوا فقط إقتربَ ملكوتُ الله “(متى4: 17). وكل توبة تنتهي بالأعتراف للكاهن. بينما ليس كل إعترافٍ مبنيًا على التوبة. لأنَّ التوبة هي الندم والأسف على تصَّرفات سيئة وسلوك مخالف لشريعة الله. و يصحبها بالتالي تغييرُ سلوك. بينما يحدث أن يعترف أحدٌ ويرفضُ أن يُغَّير سلوكه. مثلا يرفضُ أن يتصالحَ مع شخص إختلف معه و وقع بينهما نزاع وزعل. كما يمكنُ أن يتوبَ أحدٌ ويقصد حتى تغيير سلوكه ويبدأ بإجراءِ ذلك دون أن يتمكن من الأقرار بخطاياه للكاهن. مثلا بعدم وجود كاهن حيث يعيش. أو بإصابته بشلل لا يقوى معه على الكلام أو حتى ولا على الكتابة. وكما يقول الكتاب :” الله يفحصُ الكلى والقلوب ” ولا ينخدع بكلام الشفاه.

سّـران مختـلفــان !

كلٌ سّرٍ من هذين السّرين قائمٌ بذاتِه. فهما غير متلازمين ولا مرتبطين حتما. التوبة هي التنقية من دنس و وسخ شَّوهَ صورة الله فينا. إنها حمَّام روحي نغسلُ بها خطايانا وآثامَنا. لتعود نفسنا طاهرة نقية كما خلقها الله وكما يريدُها أن تكون ” قديسة وكاملة كما هو قدوس وكامل”. فالخطأ ليس من شيمة الأنسان العاقل والمؤمن. وإذا وقع فيه يتدَّنسُ وحتى يتنقى منه يغتسل بدموع التوبة مثل مريم المجدلية (لو7: 38)، وكما قالت الصلاة : ” يا رب إغسلني بدموع توبتي. وهَبني برحمتك ونعمتك غفران الذنوب. ونَّقِ بتوبتي سيّئاتي يا مخّلصي الغزير الرحمة. يا ربنا إرحمنا ” (حوذرا 3 ص 181).

ويقول تعليم الكنيسة الرسمي :” الوصية الثانية : إعترف بخطاياكَ كلها على الأقل مرة في السنة ” (رقم 2042). وتهدف الوصية الى تأمين الأستعداد للقربان.

أما القربان المقدس فهو القوتُ الروحي لنفوسِنا. فالقربان هو الخبز السماوي، جسد يسوع ، الذي أعطاه لنا يسوع لنأكله ، ونتحَّولَ بواسطته الى حياة المسيح ونشترك معه في الحياةِ الأبدية. إنه الطعام الروحي الذي ينمي فينا الحياة الألهية ويؤهلنا الى الأنتصار على الشر. انه القوة التي تُفَّجرُ فينا نبعَ المحبة والوحدة ، من خلال المسيح، مع كل المؤمنين. و يُصَّلي الكاهن قبل التناول قائلا:” أيُّها المسيح رجاءَ طبيعتنا ، قَّدِسْ أجسادَنا بجسدك المقدس. أغفر ذنوبَنا بدمك الثمين. ونَّـقِ ضمائرَنا بزوفى حنانكَ “.

ويقول تعليمُ الكنيسة الرسمي :” الوصية الثالثة : تناول سرَّ القربان على الأقل في الفصح ” (رقم 2042). وتهدف الوصية ضمان الحد الأدنى للتناول وربطه بالأعياد الفصحية.

التناول والقـداس !

إنَّ القداسَ هو تأوين ذبيحة المسيح على الصليب ، وفي نفس الوقت وليمته التي بواسطتها نشترك في ذبيحته. أعطانا يسوع جسده لنأكله ” خذوا كلوا..”. وقال إصنعوا هذا لذكري، أى جددوا وليمة ذبيحتي. لذا يقول مار بولس :” كلما أكلتم هذا الخبز وشربتم هذه الكأس تُخبرون بموت الرب ..”(1كور11: 26). تدعونا الكنيسة بإلحاح الى المشاركة في القداس بالتناول تلبية لنداء الرب. الى درجة أنَّ من لم يكن في نيته تناول القربان كان يُطردُ خارج الكنيسة ولا يشترك في تكريس التقادم. والى قبل عقود كان الشمامسة يرتلون : ” من لم يعتمد.. ومن لم يقبل وسم الحياة (غفران الخطايا).. ومن لا يتناول : فليذهبوا. إذهبوا يا سامعين وآحرسوا الأبواب”. وكانوا يغلقون ابواب الكنيسة أو يحرسونها. وكل من مكث في الكنيسة كان يشترك بالمناولة. تدعو إذن الكنيسة اليومَ بالحاح الى التناول، في كل قداس ، لكنها لاتفرضُه. ودعوتُها ليست إباحة بدون قيد أو شرط ، ولا تعني إهمال الناحية الأدبية. دعوتها تعني وضع وسيلةٍ فائقة القدرة بين يدي المؤمنين تساعدهم على نمو حياتهم الروحي وضمانها الأبدي.

التناول ، والأستعداد له !

قال مار بولس عن التناول:” من أكلَ خبز الرب أو شرب كأسه ، ولم يكن أهلا لهما ، فقد جنى على جسد الرب ودمه… ومن أكلَ وشرب وهو لا يرى فيه جسد الرب ، أكل وشرب الحكمَ على نفسه. .. فليُحاسبِ الأنسانُ نفسَه ” (1كور11: 27-29). وبناءً على هذا التعليم قال مار نرسي:” لا يليق بمن قد أخطأ ان يتقرب الى جسد ربنا قبل أن يتقدم أولا الى التوبة عن خطيئته. وأن يعدَ أيضا أمام الله أنه لن يتمرَّغ من جديد في وحل الخطيئة”( كتاب تفسير +القداس). وقالت احدى صلوات عيد الجسد: ” هلموا نتهَّيأُ جميعُنا ، نفسًا وجسدًا، لموهبة الأسرار المحيية الرهيبة ،لأنها تنقذنا من الموت والفساد، وتعطي الحياة للمائتين في المسكن السماوي ” (حوذرا 3 ص102). وعليه إذ تُحَّرض الكنيسة المؤمنين على الأستعداد الجيد للتناول تقول :” و من عرفَ نفسَه في خطيئةٍ ثقيلة ، عليه أن ينال سّرَ المصالحة قبل أن يُقـدمَ على المناولة ” ( تعليم الكنيسة ، رقم 1385). إذن تفرُضُ الكنيسة التوبة قبل التناول ، لكنها لم تتحَّدث عن ” الأعتراف المباشر لدى الكاهن “.

وتعاونا مع المؤمنين للأستعداد الجيد وضعت الكنيسة في القداس فقرات تدعو فيها المؤمن الى المسالمة مع المؤمنين والمصالحة مع الله. فما السلام المتبادل في القداس سوى التصالح مع الآخرين. بحيث لو كان معا مؤمنان متخاصمان في الكنيسة عليهما أن يتقابلا ويتصالحا حتى يتناولا. وكذلك وضعت صلاة :” لنتناولْ كلنا بتقوى وإكرام أسرار جسد ودم مخلصنا المسيح بقلب نقي…” ، وتهدف الى المصالحة مع الله. وتنتهي هكذا :” نشترك في أسرار الكنيسة على رجاء التوبة ونحن نتراجعُ عن سيِّئاتِنا، ونتألمُ على خطايانا، ونسألُ الله سيِّدَ الكل أن يرحمنا ويغفر لنا ، ونحن نغفر السيّئات لأخوتنا”. ويرُّدُ الشعبُ :” يا رب، أغفر خطايا عبيدك وزلاّتِهم “. ويرفع الشماس طلبات تقول : ونُطَّهرُ ضمائرَنا من الخلافات و الخصومات ؛ ونفوسُنا صافية من كل حقد وعِداء ؛ ونتناولُ القدس ونتقدس بالروح القدس ؛ ويكمل الطلبات ويرُّد عليه الشعب بنفس النافذة.

تـوبة ، و حَّـلة جماعية !

تجري في بعض الطقوس ، تبعا لعادةٍ قديمة ، إقامة رتبة توبة خاصة يشترك فيها المؤمنون بتلاوة فعل الندامة ونيل الحلة جماعيا ، أو فرديا مع مسحة بالدهن المقدس عندما يشعرُ الخاطيء بذنب ثقيل يحتاج الى حلة خاصة. لكن الكنيسة الكاثوليكية لم تسمح بكذا تصَّرف إلا في حالات خاصة وشاذة وليس في قداديس إعتيادية. وجاء في تعليمها الرسمي ما يلي : ” في حال الضرورة الماسَّة ، يجوز اللجوء الى سر المصالحة في إحتفال جماعي يتضَّمنُ الأعتراف العمومي و الحَّلَ العمومي. مثل هذه الحاجة الماسّة قد يطرأُ في حال خطر موتٍ داهِم لا يتيحُ للكاهن أو الكهنة ما يكفي من الوقت للأستماع الى إعتراف كل تائب بمفرده. وقد تطرأُ الضرورة الماسّة أيضا عندما لا يتوَّفرُ عدد المعَّرفين لتلبيةِ جمهور التائبين، والأستماع ، عن طريق المنبر،الى إعترافاتِهم الفردية في وقتٍ معقول، فيُحرَمُ التائبون مدَّة طويلة عن غير ذنب منهم نعمة السر أو التناول المقدس. في هذه الحال يجب على المؤمنين لينالوا حلا صحيحًا لذنوبهم أن يعقدوا العزمَ على الأعتراف الفردي بخطاياهم الثقيلة في الوقت المطلوب. وإنه من صلاحيات الأسقف الأبرشي أن ينظرَ في الشروطِ المطلوبة للحل الجماعي. أمَّا توافدُ المؤمنين في مناسبةِ الأعياد الكبرى أو في مناسبات الحج فلا يُشَّكلُ حالة من أحوال هذا الخطر الماس “( رقم 1483). وأضافَ الرقم التالي 1484 ما يلي :” الأعترافُ الفردي الكاملُ والحَّلُ الذي يعقبه هما الطريقة العادية الوحيدة … والصيغة الأمثل لعقد المصالحة مع الله والكنيسة “.

دعـوة ، و ، تحـذير !

دعا الرَّبُ الى تناول جسده في كل قداس. والروح القدس ، الذي يُرشدُ الى الحَّق ِكله، أوحى الى الكنيسة بأن توعي المؤمنين ليكونوا في حالة النعمة عند التناول، وإلا يؤذون أنفسَهم. كما فعلَ ملكٌ أولمَ في عرس إبنه فدعا إليه كل إنسانٍ إلتقاهُ موفدوهُ في مفارق الطرق. ثم جاءَ الملك ليُلاحظَ الذين لبّوا الدعوة. ” فرأى رجلاً ليست عليه بِـزَّة ُ العرس. فقالَ له: كيف دخلت الى هنا وليس عليك بدلة العرس”؟. ثم أمرَ الخدم أن يوثقوه ويلقوه في الظلمةِ البرانية ” (متى22: 11-13).

وبزَّةُ العرس هي التوبة والتطهير من دنس الخطايا : ” فقال الملاك : إنزعوا عنه الثيابَ القذرة. ثم قال ليشوع : أنظر نقلتُ إثمكَ عنك. وسألبسُكَ ثيابا ناصعة البياض”(زك3: 1-5؛ رؤ19: 8 ، 14). عليه تُحَّرضُ الكنيسة المؤمنين على المشاركة في القداس بالتناول ، تلبية لنداءِ الرب ، و تدعوهم الى الأستعداد الجيد وتُنَّبههم الى أن الخطايا المميتة تسُّد طريقهم الى التناول وعليهم إزالتها بتوبة صادقة وآعترافٍ فردي لدى الكاهن. فـحضورالقداس هو الذي يكفلُ حَّقَ المؤمن في التناول لكن التوبة هي التي تُؤَّهله الى ذلك. أما أنواعُ أساليب التوبة فهي تخضعُ لظروف الحياة. وحتى لو إستحالَ الأعتراف الفردي إلا إنَّ التوبة ضرورية ، لأنها تنبع من ضرورة حالة القداسة المطلوبة لدى المؤمنين. أما يقولُ الكاهن قُبَيل التناول : ” القُدسُ يليقُ بالقدّيسين تمامًا “؟؟.

القس بـول ربــان