الحَرَمُ ، مَنْ يُنزلُهُ بـمَن ؟

أهلا وسهلا بالأخ نزار ملاخا

كتب الأخ نزار يسألُ :” أية درجة كهنوتية تستطيعُ أن توقعَ الحرمَ على المؤمن “؟. هل الحرم من صلاحية الشماس الأنجيلي أم الكاهن أم المطران أم البطريرك تحديدًا. وما هي الخطايا أو الجرائم التي تعطي الحَّق لرجل الدين حتى يُحَّرم مؤمنا من الكنيسة ؟.

وأضاف سؤالا ثانيا يقول :” هل صحيحٌ أنْ ليسَ للهِ سِجّلٌ حتى يرصد فيه الخطايا”؟. إنْ لم يكن له سجّل فلماذا الأعتراف إذن ؟ ولماذا الدينونة ؟. أقوال كثيرة ليسوع تشير الى تسجيل الخطايا. منها: من قال لأخيه راقا يستوجب نارجهَّنم. كما تدينون تُدانون. كل كلمة تتفَوَّهون بها تدفعون عنها حسابا يوم الدين. وجلوس أسباط إسرائيل الأثني عشر ليدينوا العالم.

الحــرم !

الحرم عقوبة كنسية، ومن أشَّدها،” تُنزلُها بمؤمن أخطأ وأجرم بحق إيمانه وآدابه المطلوبة منه فتُحرِمُ عليه قبولَ الأسرار وممارسة بعض الأعمال الكنسية. ولا يحُّلُه من هذا الحرم ، بموجب الحَّق الكنسي، غيرُ الذي يُنزِلُه أى البابا والأسقف المحلي، ومن ينتدبانه من الكهنة” ( التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، رقم 1463). ويُضيفُ القانون الكنسي الشرقي :”والبطريرك .. والرئيس الأعلى لمؤسسةٍ مكَرَّسة ، الذي له سلطان حكمٍ مألوف، كلٌّ ضمن صلاحياته، مع استبعاد جميع من سواهم ” (مجموعة قوانين الكنائس الشرقية ، ق 1402، بند 3).

الحرمُ الصغير. ويقتصر على منع المؤمن من التناول والمشاركة العلنية في القداس أو في العبادة الدينية الرسمية العلنية. لقد أنزل بولس مثل هذا الحرم بمن إقترف حادث زنى علني وأمر بعزله عن الجماعة ويُسَّلم الى الشيطان (1كور5: 1-8)، والهدف قطع دابر الشر لئلا ينتشر ويُعديَ غيره مثل عدوى الخميرة. ثم عاد بعده وقرر الأعفاء عنه بعد أن تاب فلا يتأذى من غمه الشديد(2كور2: 5-11). وحَرَمٌ بشكل آخرأنزله بولس بأحد أهالي تسالونيقي إذ أمرَ المؤمنين بتجَّنب الخاطيء الذي يرفض العمل، ليخجل ويغَّير سلوكه(2 تس3: 6-15 )، وكذلك ناشد أهل روما أن يحذروا مثيري الخلاف والمصاعب وألأبتعاد عنهم (رم16: 17-18). مثله طالب يوحنا عدم مخالطة المخالفين لتعليم الكنيسة حتى يقول: ” من سَّلمَ عليه شاركه في أعماله “(2يو1: 10-11).

بالحقيقة حرمٌ من هذه الانواع هو منعٌ مُؤَّقت لأسباب قد لا تمسُّ الأيمان، حتى ولا رفض الأخلاق الحميدة، بل هي آنزلاقٌ الى سلوك أهل العالم ولظروف طارئة يقع المؤمن ضحية لها. فيُعاقب بمنعه عن المشاركة الأعتيادية في حياة الكنيسة ليتوب هو ولكي لا يقتدي به غيره.

الحرم الكبير. أما هذا فيعني حرم المؤمن الخاطي العلني بمنعه عن قبول كلِّ الأسرار وعن ممارسة أية وظيفة كنسية والأنتماء لأية مؤسسة أو أخوية كنسية، وعن إستعمال الشارات الأيمانية. بموجز الكلام يُعتبَرُ، كما قال الرب ” وثنيًا وعَشَّارًا” (متى 18: 15-17 ). تعتبره الكنيسة خارجًا لسبب جُرم ثقيل وإيمانه بمباديء هَدّامة فترفُض تقديم أية خدمةٍ روحية له الى أن يتوب ، وتدعو بقية المؤمنين الى تجَّنبه والحذر منه.

حًرَمٌ ” أوتوماتيكي” مرتبط بالجرم. يُدعى باللاتينية ” IPSO FACTO ” أو ” LATAE SENTENTIAE ” ، أي أولَّ ما يقترفُ الواحد الجُنحَ العلني المعارض لشريعة المسيح يُعتبرُ قانونًا ” محروما ” ويُعامله الجميع كذلك دون الحاجة الى إنزال المسؤول العقاب به. لأنَّ العقاب مع الجرم نفسه. مثلا: مؤمن إتخَّذ سُرّية وعاش معها في حالة الزنى العلني هو محرومٌ لأنه يعيشُ علنا في الخطيئة ولا يحتاج الى أن يعلن المسؤول ذلك، وعلى جميع بقية المؤمنين التعامل معه على هذا الأساس، فيُحرم من المشاركة العلنية في الأسرار. أو إذا جحد مؤمنٌ إيمانه يُعتبرُ بذات الفعل محروما.

حرمٌ يُعلنه المسؤول. كاهنٌ أفشى سِرَّ الأعتراف ، أو أعطى الحلة لشريكه في الزنى. أو علمانيٌ يُتَّهمُ بإهانة علنية للقربان أو بآنتمائه الى بدعةٍ تحاربُ تعليم الكنيسة. عندئذٍ يُبادر المسؤول أولا بالتحقيق في الأمر. وإذا ثبتت التهمة يُعلن ” الحرم ” بشكل رسمي وعلني ويُحَدِّدُ كيفية التعامل مع المحروم.

ليس الحرمُ أمرًا بسيطًا ليُنزله أيٌّ كان. ولا تستعملُ الكنيسة الحرم إلا في حالات ضرورةٍ قُصوى دفاعًا عن إستقامةِ الأيمان والأخلاق. أما ما تطَّرقَ اليه السائل الكريم فيكاد لا يعدو ” منعًا ” إداريًا عند وقوع أحداث غير قانونية أو خارج الآداب العامة ، فصيانة للنظام و حفاظًا على هيبة المراسيم وقدسيتها ، يتخذ المسؤول بعد التشاور والأستئذان من الرئيس الأعلى إجراءات ” ردعية ” تخدمُ الجماعة الكنسية.

وما أدراك ما الســجِّل ..؟

إنَّ للرعية الواحدة، أو القرية أوأصغر وحدة إدارية، سجلاتٍ لا تُـحصى حتى بدأوا يلجأون الى الحاسوب لخزن المعلومات، فإلى كم سِجَّل يحتاجُ الله لتوثيق جميع أعمال كلِّ البشر، من الأنسان الأول آدم وإلى آخر إنسان يُخلق على الأرض؟؟. وإذا كنا نحن قد ضاقت بنا السُبُلُ والحِيلُ ولا نعلم أين نخزن سجِلاتنا ، فأين سيخزنها الله ومملكته روحية لا دواليبَ فيها ولا مخازن، والسجلاتُ مادية قابلة للفساد، والفسادُ لا محَّل له من الإعراب في السماء ؟. فإنْ كان ” اللحم والدم لا يمكنهما أن يرثا ملكوت الله” (1كور 15: 50) فكيف بالورق والحديد ؟؟؟.

تحَدَّثَ سفر الرؤيا عن ” وآنفتحت أمام العرش الكتبُ، ثم آنفتح كتابٌ أخرهو” كتابُ الحياة” ، وعوقِبَ الأموات مثلما في الكتب، كلُ واحد بأعماله “(رؤ20: 12). وقال الرب للعذارى الجاهلات ” أنا لا أعرفكن”(متى25: 12)، دون أن يفتح أيَّ كتاب”. وقال للتلاميذ:” السماء والأرض تزولان، ولا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من الشريعة حتى يتم كلُّ شيء” (متى5: 18). والشريعة لم ينقلها الله من غيره حتى ينساها ، كما لا يحتاج الى توثيقها مثلنا لأنه ” هوالشريعة”. الشريعة هي حياته، فكره و روحه فهل ينساها ؟. ويقول الكتاب:” هل تنسى الأم رضيعها؟. ربما تنساه أما أنا فلا أنساكم “!. ليس الله مثلنا مخلوقًا ناقصًا حتى يتعلم ويوثقَّ كي لا ينسى. إنه فاحصُ الكلى والقلوب فهل يحتاج الى كتاب ؟؟.

أما عن ذكر كتاب الحياة والكتب فهي إشارةٌ فقط الى الكتاب أو الكتب والأسفار المقدسة التي سَجَّلت و وَثَّقت لنا الحقيقة حتى نحن لا نتوهم ولا نغلط إذ لسنا معذورين عن جهل مشيئة الله المنقوشة في قلوبنا وضمائرنا، وهي كتب الحياة لنا، ويُذكرنا بها إذا تظاهرنا بالجهل، كما ذَكَّرَ إبراهيم الغنيَ الأناني :” لهم موسى والأنبياء” الذين وثقوا مشيئة الله و كتبوا الشريعة والأسفار؛ تلك الكتب المقدسة التي تنبأت عن المسيح وأرشدت المؤمنين الى سبيل الحياة الأبدية (لو24: 27؛ يو5: 39؛ 1: 45).

لماذا الأعتراف .. والدينونة ..و ؟

أما الأعتراف فلتصفية حسابنا مع الله، قبل فوات الأوان، بتنقية روحنا بالتوبة وآهتدائنا الى محبة الله والنمو فيها فنتقَدَّس ونحَّقق فينا صورة الله :” كونوا قديسين .. وكونوا كاملين كما أنَّ أباكم السماوي قُدُّوسٌ وكامل ” (متى 5: 48؛ 1بط1: 16؛ أح19: 2).

أما الدينونة فتلك محاسبة على الحياة كلها. أعطانا الله حياة لنحيا مثله. ماذا فعلنا نحن؟. لن يجلس الله على كرسي القضاء ليفحص ويتحقق من براءتنا أو جرمنا. لا. وإلا يحتاج الله الى مُدَّعٍ عام يشتكي علينا، ومحامٍ يدافع عنا. قد ينبري الشيطان مُغرينا ليتهمنا ولكن من سيدافع عنا؟. هل المسيح؟ بل هو الذي يقاضي البشر على سلوكهم (يو5: 22). إستعمل يسوع كلمة الدينونة بمعنى” اللوم” وإعلان الحالة السيئة والمزرية التي يوجد فيها الخاطيء الهالك والذي لا يقدر لا أن يعترض ولا أن يسترحم بل يتلوَّى في الندم. فقال:” الدينونة هي أنَّ النور جاءَ الى العالم فآستحب الناس الظلمة على النور، لأنَّ أعمالهم سيَّئة “(يو3: 19). فعند القيامة العامة ” يخرجُ الموتى من القبور : فالذين عملوا الصالحات يقومون للحياة. والذين عملوا السَّيئات يقومون الى الدينونة { او الهلاك } “(يو5: 29). لاحظوا لم يقُل الكتاب “و يدين الله الموتى، ولا قال ” يدين من عمل الصالحات”. الدينونة فقط ” للذين عملوا السَّيئات “. الدينونة هي حالة سوئهم التي يلومهم الله عليها ،” يدينهم “، لأنه كان بإمكانهم أن يتجَّنبوها، ولأنَّ الله لم يخلقهم للعذاب بل للسعادةٍ والهناء. فالله يبدي ألمَه لآختيارهم التعيس ورفضهم حُبَّه.

والأسباط الأثنا عشر !!

إدَّعى سائلي الكريم ، دون أن يتحَّققَ من كلام الأنجيل، بأنَّ أسباط إسرائيل ستدين العالم. أما الأنجيل فقال:” أنتم الذين تبعوني ستجلسون .. لتدينوا أسباط إسرائيل الأثني عشر” (متى19: 29). وتدينون أي تلومون الشعبَ اليهودي لأنهم، رغم بشارتكم لهم، لم يؤمنوا بإنجيل المسيح. بكل تأكيد لم يتعَّرف كلُّ اليهود على يسوع في شخصه وأثناء تبشيره، بل حتى لم يسمعوا به. بولس مثلا وآلافٌ مثله في الشتات حتى إضطهدوا الكنيسة في البداية (أع9: 1). ولكن لم تبقَ بقعة في العالم لم يصلها الرسل وكانوا يبدأون بتبشير اليهود أولا قبل الأهتمام بالوثنيين (أع26: 20) ويقول بولس: ” كان يجب أن نبَّشركم أنتم أولا بكلمة الله، ولكنكم رفضتموها، فحكمتم أنكم لا تستأهلون الحياة الأبدية..” (أع13: 46).

فدينونة الرسل للشعب اليهودي هي تذكيرهم برفضهم ويلومونهم على عدم قبول الحق ، تماما كما تدين دولةٌ غيرها على سوئها وعدم إحترامها القانون الدولي دون محاكمتها أو عقابها. لأنَّ الخطيئة إذا لم يتب عنها الخاطيء تحمل قصاصها معها، وهو يهلك ” أوتوماتيكيا” دون أن يحتاج الى محاكمة صورية كما نفعل نحن البشر مع بعضنا على الأرض. وهكذا لا يحاكم الرسلُ الأسباط بل يدينونهم ويلومونهم على جحودهم.

القس بـول ربــان