الأحــد الرابع للبشارة !

عـيد مار يوسف البتول

تتلى علينا اليوم القراءات : تك24: 50-61 ؛ أو: 1صم1: 1-20 ؛ أف5: 5-17 ؛ متى 1: 18-25

القـراءة : 1 صم 1 : 1 – 20

تقُّصُ خبرَ حِنَّة العاقر وتعييرَ ضِرَّتها لها. تصَّلي حِنَّة الى الله بحرارة ولهفة، يعتبرُها الكاهن عالي سَكرى فيلومها. تُفضي حِنَّة بألمها و صلاتها، يُطَمئِنُها الكاهن فيدعو لها بالخير. يرزُقُها الله صموئيلَ، ويعني” مطلوبٌ من الله”.

القـراءة البديلة : تكوين 24 : 50 – 61 :– زواج إسحق من رفقة. لقد إبتعد إبراهيم من الوثنية. و لا يَوَّدُ أن يعودَ نسلُه إليها عن طريق الزواج من وثنيات. فيُرسلُ خادمه الى حاران ليختار من بين ذويه زوجة لآبنه اسحق. يوَّفقُه الله في آختيار رفقة حفيدة ناحور أخ إبراهيم.

الرسالة : أفسس 5: 5 – 17

يؤَّكد الرسول أنَّ الله يرفُضُ المُذنبين والعُصاة فيدعو المؤمنين إلى إرضاء الله بالعيش في البِرِّ والحَّق كما تتطلبُ دعوتُهم، ولا يميلوا عن الله إلى المُغرَيات الشهوانية المادّية.

الأنجيل : متى 1 : 18 – 25

يكتشفُ يوسف حبلَ مريم ويحتارُ في تفسيرِه وهو يثقُ ببراءة مريم. يُقَّررُ الأختفاء عن المسرح الأجتماعي لئلا يُساء الى مريم. يكشفُ له اللهُ بتولية الحبل بمريم. إنَّه عملُ الله. ويدعوه إلى ممارسة دور الأُبُوَّة الشرعية لحماية الطفل و أُمِّه ولضمان نسبة يسوع الى بُنُوَّة داود الملك، ولأداءِ دوره الوالدي بتسمية الطفل” يسوع ” ، ويعني” الله يُخَّلِص “. ولا يترَّدد يوسف في تنفيذ مشيئةِ الله.

قبل أن يتسـاكنا !

أكَّد متى ما سبقَ فأخبر به لوقا (لو1: 26-38) بأنَّ مريم هي زوجةٌ شرعية ليوسف، لكنها لم تنتقل بعدُ الى بيتها الزوجي. فدعاها “مخطوبة” أي لم تتعاطَ بعدُ مع يوسف علاقةً زوجية، رغم أنَّ ذلك كان من حَّقهما، حسب شريعة حمورابي، لأنهما زوجان. وكان ممكنا أن يُنجبا أطفالاً والزوجة بعدُ في بيت والديها، كما حصل ليعقوب فسكن مع زوجاته في بيت حميه فأنجبَ أحد عشر ولدًا وبنتًا (تك 29: 15-20؛ 30: 25-36). وشَدَّدَ متى أيضًا على أنَّ يوسف رجلٌ بارٌ وأنَّه من نسل داود الملك، لأنَّ من نسله يأتي المسيح الملك (2صم7: 12-16). فيسوع إذن ، بالجسد، إبنُ مريم فقط ، وهو المسيح الملك الموعود. فأشار إلى نبوءة إشعيا (اش7: 14) وعلَّم أنه تنبَّأَ عن بتولية مريم وعن لاهوت آبنِها يسوع.

يوسف ، يدخل ضمن البشارات الألهية !

تجيءُ بشارة يوسف، مع ما جاءَ في القراءة الأولى عن خبر ولادة صموئيل النبي تَـتِّمةً للبشارات السابقة لآبراهيم وزكريا (الأحد الأول) فولادة إسحق ويوحنا المعمدان، ثم بشارة مريم (الأحد الثاني) فولادة يسوع ، ثم بشارة منوح (الأحد الثالث) بولادة شمشون. وكل الأطفال المولودين بمعجزة هم صُورٌ و رموز ليسوع المسيح المخلص، إبن الله الأوحد الذي يولد، بشكلٍ يعجزُ على البشر، أي من عذراء ومن دون زرع بشري . يؤَّدي كلُّ واحدٍ منهم دورًا خاصًّا به يُصَّورُ جزءًا من حياةِ المسيح وعمله الخلاصي. يسَّهل بذلك على البشر التعَّرُفَ على المسيح والتتلمذ له للعيش في راحةٍ وهناء.

أما يوسف فلا يرمز إلى المسيح بل يشتركُ في حياة يسوع وهو جزءٌ منها فيؤَّدي له خدمة طلبها منه الله، هي مُهِمَّة ضرورية لآكتمال التدبير الخلاصي. فأهل اسحق وصموئيل و شمشون ويوحنا كلهم سمعوا كلام الله ونفَّذوا أمر الله ومشروعه. أو كان دورُهم في رعاية الأطفال فقط، أمَّا يوسف فقبل رعاية الطفل هو مدعوٌ الى البتولية، ثمَّ الى رعاية إبن مريم كإبنٍ له فيُرَّبيه ويحميه مُشرِفًا على إنسانيتِه، ساهرًا عليه ليدرأَ عنه المخاطر وسوءَ الناس الأشرار.

كانت بتولية يوسف تتجاوب مع بتولية مريم وضرورية ، في نظر الله الذي كرَّمه إذ سلَّم رعاية إبنه اليه، ليكون الزوجان مُؤَّهَلَين لبعضهما فيُشَّكلان معًا ” إنسانًا قدّيسًا صورةً كاملة لله “. ولولا ذلك، أي لو كان قلب يوسف متمَّسكا بالشهوة الجسدية ومريم قد كرَّست قلبَها كلَّه لله، لما إكتمل زواجهما ولا إنسانيتُهما. ودعوةُ الله من يوسف أن يبقى بتولا هو مشروعٌ إلهي متكامل مع مشروع بتولية مريم لأجل ولادة المسيح، وليس غريبًا فقد فعل الله ذلك مع إرميا النبي، فقال له :” قبل أن أُصَّورَك في البطن إخترتُك” (ار1: 4)، ثمَّ بلغه مشيئتَه في البتولية :” لا تأخُذ لك إمرأةً ولا يكن لك بنون وبنات في هذا الموضع” (ار16: 2). ولو عُدنا قليلا إلى الوراء لرأينا أنَّ إيليا النبي ويوحنا المعمذان كانا أيضًا مثل إرميا أعزبين أو بتولين مُكَّرسَين كليّا لله، لتحقيق التدبير الخلاصي.

أمَّا بالنسبة إلى الطفل فكان دور يوسف أن يرعاه ويساعده إلى أن يقوى عوده البشري ، فلا يقع شَّكٌ في ناسوتِه ، ويكون قادرًا على تدبير أموره بنفسِه. ومن هذا القبيل سيذكرُ لوقا أنَّ عمر يسوع كان قد تجاوز السن المحَّدد للآعتراف بقابلية الفرد على التعليم فيتتلمذ الناسُ له. فقال أنه عند العماد كان له من العمرحوالي” ثلاثين سنة “، وهو العمرُ المحَّدد لتولي الكهنة خدمتهم في الهيكل حتى ” الخمسين ” (عدد4: 3، 21، 30).

ذكر الأنجيلُ يوسفَ بكلام قصير. وآكتفى متى بما قرأناه عنه اليوم مؤَّكدًا أنَّه ليس والد يسوع، لكنه زوجُ أمِّه مريم، ومُدَبِّرُه وحارسُه الأمين. فلا يذكره في خبر المجوس حيث قال : ” دخلوا البيت فوجدوا الطفلَ وأمَّه مريم”، بينما يذكرُه في خبر قتل هيرودس أطفالَ بيت لحم ومسؤوليته في إنقاذ يسوع والهرب به الى مصر ثمَّ العودة به الى الناصرة (متى2: 11 -23). ولوَّح إليه أيضًا عندما نقل إستغرابَ اليهود:” أ ليس هذا إبن النجَّار”؟ (متى13: 55 ). بينما أكَّد لوقا ويوحنا أن عبارتَهم الإعتراضية أشارت الى يوسف حيث ركَّزوا على أنه ” النجَّار” فقال لوقا :” أما هو إبن يوسف “؟ (لو4: 22)، كما سبقَ وأكَّد أنَّ الناس إعتبروا يسوع إبنًا ليوسف (لو3: 23)، بينما أوضح يوحنا :” نحن نعرفُ أباهُ وأُمَّهُ ، كيف يقولُ أنَّه نزل من السماء “؟ (يو6: 42).

كان يوسف رجلاً بارًّا !

ما يرَّكزُ عليه متى ويُريدُ أنْ يُبلغنا به هو أنَّ يوسفَ ” رجلٌ ئار” مؤمنٌ صالح يخضع لمشيئة الله إذ يعرفُ ويثقُ بأنَّ الله أدرى منا بمنفعتنا. فلا يترَّدد أمام طلب الله ولا يُناقِشُه. إنَّه رجلُ المُهّمات الألهية الصعبة، مثل سَمِّيِه يوسف الصِّديق إبن يعقوب (تك37: 1- 48: 22). أنقذَ يوسفُ الصدّيق شعبَ الله من زوال مُحتَم بسبب القحط والمجاعة وذلك بالتضحيه التي قبلها والآلام التي عاناها واثقًا بالله أنَّ تلك مشيئتُه لخير أُمَّتِه (تك45: 4-5؛ 50: 15-21). وأنقذ يوسفُ البارُ البتولُ إبنَ الله مُخَّلصَ البشرية الموعود والمُهَّدَد من قبل هيرودُس وغيرِه (متى2: 13-23)، ويكون بذلك قد تعاون مع يسوع في خلاص البشرية.

يوسفُ بارٌّ حافظٌ لشريعةِ الرب. فلمَّا غمضَ عليه أمرُ الحبل بمريم، لأنه يعرفُ أنَّ الطفلَ ليس إبنَه، ويعرفُ أنَّ مريم إنسانةٌ بارة لا تقترفُ ذنبًا ولا تخونُه لأنهما يُحِّبان بعضَهما وقد تزوجتهُ. قلقه وحيرتُه لأنَّ مريم لم تُخبرْه بشيءٍ، ولا جاءَه إيعازٌ من السماء ليطمئن. أمامه خياران : إمَّا أن يُطالبَ بحَّقِه ويصون سمعتَه ويسترجعَ كرامتَه فيفضحَ مريم ويشكوَها عند الكهنة فيأمرون برجمها (يو8: 3-5)، وإمَّا أن يسكتَ ويختفيَ عن الأنظار حتى لا يُجبَرَ على رفع الدعوى عليها. وحدَه يوسف قادرٌ على أن يُنقذ الموقف. الناسُ لا يعرفون الحقيقة بل يحسبون الطفل ليوسف فلا يوجدُ إشكالٌ. الإشكال في ضمير يوسف وحَّقِه وإيمانِه. إنَّهُ بارٌ يتفاعلُ مع الأحداث على ضوء إيمانه. يشعرُ أنَّ هناك سِرًّا. لا يريدُ أذية أحد وخاصّةً مريم، وهو واثقٌ من براءَتها. هو لا يقدرأن يفُّكَ لُغزَ السِّر. ربما شعر أن لله يدًا في الأمر، وأنَّه هو يوسف لا دور له في مخطط الله. ويثقُ بالله أنَّه سيكشف الحقيقة. ولا يثقُ بعدالةِ الناس، الله وحدَه عادل. وإذ لا يعرف أيَّ موقفٍ يتَّخذ من هذا الطفل يدع الأمرلله، ويُقَّرر أن يُغادرَ البلد سِّرًا فلا يلحق به أحد، وتعيش مريم وطفلها كما يريده الرب. أحَّسَ أن لله لا فقط معرفةً بالأمر، إنه يعرف كلَّ شيء حتى أعمق أفكار الناس، بل له مشيئةٌ خاصّة به، فآتكل على الله وكأنه يقولُ مثل مريم :” خادمُكَ أنا ، فلتكُن مشيئتُك”. وبرهن بذلك أنه بارٌّ وأنه رجلُ الله.

لم يعرفها حتى ولدت إبنَها !

لم يقل متى ” ولدت إبنَهما “، ولا إبنًا ليوسف. بل شَدَّدَ على “ابنها”. و سبَّقَ العبارة بـ ” لم يعرفْها “. ويريدُ متى بهذا أن يُفْهمَنا ، كما تعَّلمُه الكنيسة من عهد الرسل ، بأنَّ مريم وإنْ كانت زوجة يوسف، لكنَّ يسوع ليس إبنًا من زرع يوسف. يوسف لم يعرفها كما عرفَ آدم حواء فأنجبت (تك4: 1). لم تقم بين يوسف ومريم علاقة زوجية فليست ولادة يسوع ثمرةً لكذا علاقة كما كان اليهود قد إفتهموها، وكما هوالإنجاب لدى كلِّ الناس. إسحق، صموئيل، شمشون، يوحنا، كان تدخل الله في حالاتهم بحَّلِ عقدةِ العُقم وعقدة الشيخوخة. أمَّا حالة يسوع فتشبه حالة آدم أبو البشرية. الفرقُ الوحيد هو أنَّ آدم خُلق وأما يسوع فهو الله الذي أخذ ناسوته من ناسوت آدم ليكون إبنه فيُنقذه ويكون أفضل منه، بريئًا لم يخطأ، بحيث يُجدّدُ الخليقة روحيا. فيسوع هو الله الأبن، لم يحتج الى شخص بشري إنما فقط الى طبيعة بشرية بارة ليُحَّقق خلاصً البشرية.

قال متى ” لم يعرفها حتى ولدت “. لكلمة ” حتى” معانٍ كثيرة. تأتي تارة كظرف وأخرى كحرف. إفتهمها البعضُ كأنَّه لم تقم علاقة زوجية بيم مريم ويوسف قبل ولادة يسوع. قامت بينهم تلك العلاقة بعد ولادة يسوع. ولهذا قالوا بأن من يذكرهم الأنجيل بآسم ” إخوة يسوع” هم فعلا أولاد يوسف ومريم. نسوا أنه لوكان له إخوة فأين كانوا عندما بقي يسوع في الهيكل دون علم مريم ويوسف فقلقا عليه؟. وأين كانوا عند صلب يسوع، ولماذا سلَّم يسوع أمه لرعاية يوحنا؟. كلمة ” حتى” تعني فقط أنَّ ولادة يسوع ليست ثمرة علاقة جنسية بين زوجين مثل كل الناس. ليست ولادته من عمل الأنسان بل هي عملُ الله القادر على كلِّ شيء. أعطى الله أطفالا لعواقر وعجائز، وأعطى هذه المرَّة طفلا لـ” بتول”. لم تكن الولادة من زرع يوسف، فيسوع ليس إبنَه بل إبنَ الله أخذ بشريته من مريم فصارت هي ” أُمُّه “. و صارت هي ” أُمَّ الله” لأنَّ المولود منها إبنُها وهو الله ذاتُه. هي ولدت الله في ناسوته. القدرة الألهية الخلّاقة كوَّنت ناسوتًا للكلمة الألهية من حشا مريم. ولم تفقد بتوليتها. فالمولودُ منها ” قدّوسٌ وآبنَ الله يُدعى” (لو1: 35)، وهي بتولٌ قبل ولادة يسوع، وفي ولادته، وبعد ولادته.

سَّـمِهِ يسوع !

تسميةُ الطفل هو إعترافٌ به إبنًا أو بنتًا وقبول كل الألتزامات اللوجستية المترتبة على ذلك. يأخُذُ يوسفُ دورَه الأبوي ويُمارسُه. إنَّه بمثابة الأب ليرعاه. يقبل بهذا الأمر ويُنَّفِذُه. فكما هو شرعيًا زوجٌ لمريم ويحميها أصبح أبًا ليسوع أمام الدولة والمجتمع البشري. لا أحد يقدر أن يتَّهم مريم بذنب ولا يقدر يوسف أن يتمَّلص من واجب الرعاية. لن يكون ليوسف دور في خلاص البشرية مثلما لمريم التي أصبحت شريكة في الفداء، لأنها شكلت مع إبنها الأنسان الواحد الكامل الذي أطاع الله عكس حواء مع آدم الذين عصوا أمر الله. لكن دور يوسف أيضًا عظيم جدًّا في ثقته بالله وطاعته له وتنفيذ كل ما دعاه إليه من البتولية ومن المسؤولية الأَبـوية. دوره أعظم من الأنبياء حتى من إيليا ويوحنا لأنَّه تعايش مع يسوع و عامله كإبنه فأحَّبه وحماه وخاطر بحياته من أجله. فقد ربَّاه إلى أن إشتَّد عودُ يسوع وأصبح قادرًا على أن يتحمَّل بنفسِه مسؤولية تدبير حياته وحماية أمِّه. هنا ينتهي دور يوسف. فآختفى عن مسرح حياة يسوع. وبآختفائه تتسَّلطُ الأضواءُ كلُّها على يسوع وحده، بحيث يندرُ حتى ذكرُ مريم إلاّ في مناسبات ركَّز عليها يوحنا أكثر من غيره.