الأحد 3 للصليب / 6 لأيليا !

تتلى علينا اليوم القراءات : تث9: 13-21 ؛ في4: 4-9 ؛ متى15: 21-28

الرسالة : فيلبي 4 : 4 – 9 (23)

بدأ الحديثُ بالدعوة إلى الفرح. تطرَّق إليه بولس كما ذكرنا في تأمل الأحد الماضي. ولا غرابة في أن تتكرر العبارات أو الأفكار، في الرسالة الواحدة او في رسائل عدَّة. فهو التعليم نفسه يُبَّلغ الى كنائس متباعدة وتمُرُّ بظروف مختلفة. فحتى لو إختلف اللون لكن الأصل هو نفسُه. لكن بولس زاد في نَّص اليوم من نفس الرسالة عُنصُرًا جديدًا مهمًّا،” دائمًا “. وطلبَ الفرح لا فقط في وقت الراحة والهدوء. بل حتى عندما تثورعلى المؤمن عواصفُ الآلام و المضايقات، لاسيما وقتَ الأضطهاد. فيدعو المؤمن المتاضيق أن يهدأَ ويفرح حتى في وقت الآلام. لقد سبق وأكَّد بأن الألمَ رفيقُ الأيمان (في1: 29)، كما أَكدَّه الرسولان بطرس (1بط 4: 13)، ويعقوب الذي يبدأ رسالته هكذا:” أُنظروا..إلى ما يُصيبُكم من مختلفِ المِحَن نظرَكم إلى دواعي الفرح الخالص”، لأنها إمتحانٌ للأيمان الذي يلد الصبرَ . ولا بد من الصبر ليكون المؤمن كاملاً (يع1: 2-4). وهذا الفرح يضمنُه ويشُّعُه قُرْبُ الرب من المؤمن. ويؤَّكدُ بولس أنَّ ” الربَّ قريب”. ليس قريبًا في مجيئه الثاني لدينونة العالم. بل هو قريب بالحب الذي يربط بين الله والمؤمن. هكذا قال الرب:” إذا أحَّبني أحد حفظَ كلامي، فأحَّبَه أبي، ونجيءُ إليه ، فنجعلُ لنا عنده مُقامًا “(يو14: 23).

لا تكونوا في هَّمٍ أبدًا !

قالها الرب :” لا تهتموا بالمأكل والمشرب والملبس..بل بملكوت الله وبِرِّه”. وملكوت الله لا يتفق مع الهَّم ولا يُبنى، لا عليه ولا حتى بوجوده. لأنَّ الهمَّ يُشغلُ فكر الأنسان وقلبه. بل و يخنقُ في داخله بذرة الأيمان (متى13: 22). ولذا سيقول بولس لأهل كورنثية ” بوِّدي أن تكونوا بدون هَّم” (1كور7: 32) حتى يعيشَ المسيحي حياة كاملة دون قلقٍ أو عراقيل. فالهَّمُ يُقلق ويُتعِب لأنه يصُّدَ منافذَ تنَّفسِ الأيمان. لكن الهموم والقلق تغزو الأنسان كثيرًا حتى لو لم يخلقها بنفسه لنفسه. فقال الرب،” تعالوا إلَيَّ جميعًا أيُّها المرهقين والمُثَّقَلين..انا أُريحُكم” (مت 11: 28). فالمؤمن مَدعُوٌّ ألا يرزح تحث ثقل الهموم بل أن يُبعِدَها عنه. قال بطرس: ” أُلقوا على الله جميع هَمِّكم فإنَّه يُعنى بكم “(1بط5: 7). الهَّمُ والغَّم يُعيقان أيضًا البشارة لأنها تهُّدُ غيرة الرسول وتضعفُ نشاطه. أما الفرح والثقة بالله فالأتّكال عليه فتجعلُ الرسول ينظر إلى الحاجة ويتذكر انَّ الله هو الذي كلَّفه بهذه الخدمة التي هي أصلاً ” عملُ الله “، ويثقُ بوعد الله في مساعدته. وهذا كله من شأنه أن يُحَّمسَه في أداء خدمتِه، دون أن يقف على ما يفعله أو لا يفعله الآخرون.

إرفعوا حاجاتِكم إلى الله !

بما أن الرسولَ يؤَّدي عمل الله وهو قريبٌ منه، فيه، فمن المنطق السليم ألا يقلق بل أن يلجَأَ إليه في كل ضيق أو حاجة. وهذا ما أوصى به بولس أهل فيلبي أنْ ” إرفعوا إلى الله حاجاتكم “. لا فقط عند الضيق. بل حتى في زمن الراحة والهدوء،” كلَّما صَلَّيتم وآبتهلتُم وحمَدْتُم “. و هذه الأفعال كُلُّها لقاءٌ مع الله. واللقاء بالله فرصةٌ لآستجلاءِ مشيئته وطلب مشورته وعونه. لا نتصَّرف بمعزل عن الله وكأنَّنا أصحابُ البشارة والخلاص. نحن أصحاب البشارة الجديدة ، بقدر ما هي واجبنا و” الويل لنا إن لم نبَّشر” (1كور9: 16)، نعم. لكن البشارة هي النبتة التي سُلِّمت إلينا لكي” نغرُسَها ونسقيها، لكن الله هو الذي يُنَّميها. فنحن عاملون فقط مع الله ” (1كور3: 6)، وهو الذي يتدَّبرُ أمر المُعَرْقِلين لنمُّوِ البشارة (متى13: 29-30).

ليكن شُغلُكم الشاغل .. !

رفضَ بولس أن ينشغلَ مؤمنو رعاياه بما يخُّصُ الله. “دعوا الخُبزَ للخَّباز، دعوا لله ما هو له. أمَّا أنتم فآهتموا بما يريدُ الله أن تكون مُهِّمَتَكم أنتم”. دَلَّهم على ما هو دورُهم الأساس. دورُهم أنْ يعيشوا حياة مسيحية أصيلة، تكون مِرآةً لحياة المسيح نفسِه. صاح يسوع يومًا :” من منكم يستطيعُ أنْ يُثَّبت علَيَّ خطيئة “؟(يو8: 46). ولم يفتح أحدٌ فمَه أو نطق بكلمة!. ويتمنى بولس أن تكون سيرتهم لا فقط ” بلا عيبٍ في جيلٍ ضّالٍ فاسدٍ، بل أن يُضيئوا فيه ضياءَ النَيِّراتِ في الكون” (في2: 15)، مُحَّققين رغبة المسيح الذي أكَّدَ أنَّ المؤمن به والمُعَّمَد بآسمِه أصبحَ كالمسيح نورًا، فطلب منهٌ ” لِيُضيء نوركم أمام الناس فيروا أعمالكم الصالحة ويُمَّجدوا أباكم الذي في السماوات” (متى5: 16). يقول مار بولس بأنَّ الله ” خلقنا في المسيح يسوع للأعمال الصالحة، التي أَعَّدَها بسابق تدبيره كيما نُمارِسَها ” (اف2: 10). وقد ذكرَ عددًا من صفات تدُّلُ على صلاحية العمل ، هي: ” ما هو حَّقٌ ، وشريف ، وعادل ، وخالص ، و مُستَحَّبٌ ، وطَيِّبُ الذكرِ، وما كان فضيلةً و أهلاً للمدح “. وهذه صفات من يترَّفع عن أعمال العالم، يحترمُ نفسَه ويسمو بسلوكه الى المستوى الألهي. وفي نفس الوقت تدًّل على إحساسِه بالآخرين وعدم تجاهلهم، و تجَّـنبِ الأساءة إليهم. يقيس حياته على الخير العام وليس على المصلحة الخاصّة، وعلى تفضيل حياة السماء وضمانها أكثر من حياة الأرض.

إعملوا بما تعَّلمتموه منّي !

تبقى هذه الأعمال نظرية وخيالية إذا لم تتجَسَّد في الواقع. عندما يُرَّبي الوالدان أطفالهم يُعَّلموهم درب السلوك الجَّيد. لكن الطفل لا يستوعبُ جيّدا لماذا عليه أن يتصَّرف حسب رغبة والديه وليس حسب رغبته الخاصّة. لكنه عندما يعاين سلوكَ والديه يُقَّلِدُهم عفويًا، ولا يحتاج إلى تعليم وتدريب. هكذا في الأيمان والسيرة المسيحانية. يُدركُ المؤمن الجديد قيمة سلوك معَّين مطلوبٍ منه عندما يرى معَّلِمَه يُجَّسدُ في الأفعال ما يعلنُه في الأقوال. فـللمثال تأثيرٌ أقوى ومفعولٌ أطيب وأسلم. ذلك لأنَّ الأيمان ليس درسًا نظريًا بل هو حياةٌ يتبَّناها مَن قبل المسيح ويصُّرُ على تجسيدها في الأفعال. أحَّسَ بولس بقيمة المثال لذا تقَّيدَ في سلوكه بما علَّمه وتعمَّدَ أن يجعل من نفسِه نموذجًا للحياة في المسيح ليُسَّهل للمؤمنين أن يتعَّلموا كيف يَقتدون بالمسيح نفسه (2تس3: 9). فيدعو بولس أهل فيلبي أن يعملوا بما ” تعَّلمتموه منّي، و أخذتموهُ عنّي ، وسمعتموه منّي ، وعاينتموهُ فيَّ”. وقد حصر الأقتداء به في رعاياه حماية من ” إخوةٍ يسيرون خلافًا لما يُعَّلمه ويعيشه ” (2تس3: 6). يُمَّيز بولس بين ما علَّمه هو وسمعوه منه، الذي يعود إلى جهد الرسول و واجبه. وبين ما عاينوه فيه فأخذوا نموذجه منه، وهذا يعودُ إلى ملاحظة المؤمن وجهدِه الشخصي لآهتمامه بتبَّني سلوك المسيح القويم ِ هذان الموقفان هما القطبان الأساسيّان لكل معرفة : جهد المعلم وجهد التلميذ ، بالتوازي. وطوبى للرسول وللمؤمن إذا تقَّيدا بهذه القاعدة.