الأحد السادس للصيف

تتلى علينا اليوم القراءات :  اش 29: 13-23؛ أح 19: 1-14 1تس2: 1-12 ؛ لو17: 5-19

القـراءة : اشعيا 29 : 13 – 23 :–  يتحالفُ اليهود مع المصريين فيُنذرُهم النبي و يؤَّكدُ أنَّ الخلاصَ بيد الله وحدَه، فيدعوهم الى الصِدقِ والتوبة فالعودة الى الله.

القـراءة البديلة : أحبار19: 1 – 14 :– يدعو اللهُ شعبَه الى الإقتداءِ به فيحيا في القداسةِ، بالعدلِ والمحَّبةِ والإستقامةِ وخدمةِ المُعوَزّين وعدمِ الإساءَةِ.

الرسالة : 1 تسالويقي 2 : 1 – 12 :– لقد بشَّرَهم بولس دون طمعٍ في مالِهم أو تمليق، و رأَفَ بهم كأب، فيدعوهم إلى سيرةٍ تليقُ بإيمانِهم ودعوتِهم.

الأنجيل : لوقا 17 : 5 – 19 :–  يؤَّكدُ يسوع أنَّ الأيمانَ الأصيل قوِّيٌّ إذا عمل بتواضُعٍ وجِدّ. ثم يسردُ خبرَ شفاء البُرصِ العشرةِ الذين لم يشكروا يسوع ما عدا الغريب فيهم.

حَّقٌ و واجبٌ !

يحتاجُ الإنسانُ، في حياته الزمنية اليومية، إلى غيره ليعيشَ بكمالٍ ويُوَّفرَ كلَّ مُستلزماتها و متطلباتِها. لا يقدر أن يقومَ بنفسِه بكل الخدمات. ويُقَدِّمُ بدورِه للآخرين خدماتٍ يحتاجونها. وهكذا فالحياة هي تبادلُ الخدماتِ والتعاون من أجل حياةٍ إجتماعية موَّفقةٍ ومريحة. فتترَتَّبُ على كل واحد واجباتٌ وحقوق. 

1+ من يعملُ بأُجرة !

وعندما نُكَّلفُ أحدًا بخدمةٍ ما نُقَّيمُ لهُ ونُحَّددُ أُجرةً يستحِّقُها مقابلَ وقتِه وتعبِه فيما أّدّاهُ. نحن نستفيدُ وفي ذاتِ الوقت نُفيدَ غيرَنا. كذلك هو من يعملُ بأُجرةٍ يستفيدُ ويُفيدُ من كَلَّفَهُ بالخدمة . وقد أعطى الرَّبُ مثلَ الراعي أو الفلّاح. وهناكَ آلافُ الخدمات الأجتماعية، الوظيفية منها والحُّرة، الكبيرة والصغيرة، الفكرية واليدوية، الروحية والمادّية. العبرة هي دومًا نفسُها ” تأخُذُ و تُعطي “.

ومن يعملُ هكذا، أي يقبضُ ثمن جُهدِه، لا فضلَ له على مَن شّغَّلَه؛ ” فهل للأجير فضلٌ”؟ كلا. بل عليه واجبُ إتمام المطلوب منه بدِقَّةٍ وضمير. سيُدْفعُ له ما هو حَقُّه. إذًا من قامَ بعمل لا تُعَّدُ أُجرتُه فضلاً أو نعمةً بل حَقًّا (رم4: 14؛ 1كور3: 8). فهو ليس مُتطَّوعًا أو مُتَبَّرِعًا لإِنجازعمله في سبيل الله، أو محَّبة بالصديق أو الجار وتعاونًا معه. هذا لا يعملُ مقابلَ أجرة. بل يُساعد محبَّةً بالقريب. إِنَّماعلى المستفيد من خدمته أن يعترفَ بجميلِه ولا ينسى معروفَه. لأنَّه لم يكن ، شَرْعًا، مُلزَمًا بأداءِ تلك الخدمة. إنَّما قدَّمها بآختيارِه ولطيبةِ قلبِه وآنفتاح فكره على الآخرين.

2+ ونحن نعملُ عندَ الله !   

لقد وكَّلَ الله الأنسان على عمله في متابعة رعايةِ الكون وآكتماله. ” لنصنع الأنسان على صورتنا …ليتسَّلطْ على سمك البحر وطير السماء والبهائم وجميع وحوش الأرض وكل ما يدُّبُ …إملأُوا الأرضَ وأَخضِعوها و… فأخذ آدم وأسكنه في جَنَّةِ عدن ليفلَحَها و يحرسُها” (تك1: 26-28؛ 2: 15). خلقَ الله، والأنسان يتابع عمله ويبقى المُنَّفِذَ، أمَّا الحَّقُ فلله، و الأنسانُ يُحاسَبُ عليه. ويقول مار بولس بأننا، نحن الناس، صِرنا عاملين مع الله. فأنتم حقلُ الله وبنيان الله” (1كور3: 9). والمسيح ايضًا وكلُّ الرسل وتلاميذه، وكلُّ الذين يؤمنون على    

يدهم، أن يُتابعوا عمله ورسالته ،” كما أرسلني أبي أُرسلكم أنا أيضًا “(يو20: 21). يرسلُ الله مختاريه، المتحَّلين بالكهنوت، للعمل في حقله الروحي. فالمختارون يُنَّفذون ما كلَّفَهم به، لا ما يريدون أو يتصَوَّرونه أصَّحَ أو أنفع. العاملُ مندوبٌ لتنفيذ مطلب رب العمل الذي هو صاحب الفكر والتخطيط والقرار. الله إختارهم وليسوا هم من إختاروا الله (يو15: 16) و قال: ” إذهبوا الى العالم أجمع. تلمذوا جميع الأمم… علموهم أن يحفظوا كلَّ ما أوصيتكم به ” ( متى28: 20؛ مر16: 15).و” لأنكم أنتم شهودٌ لي” في الأرض كلها (أع1: 8).

فما دُمنا للمسيح نحن مرتبطون به وبعمله. أصبح علينا لِزامًا أن نتفاعل مع المسيح لا مع غيره لأنه قد إقتنانا له ،” أوَ ما تعلمون ..أنَّكم لستم لأنفسِكم؟ فقد أُشْتُريتُم وأُدِّيَ عنكم الثمن” ؟(1كور6: 20؛ 7: 23). وعليه يستنتج مار بولس فيقول:” فإذا بشَّرتُ فليسَ في ذلك لي فخرٌ. إنها فريضةٌ لابُدَّ لي منها. والويلُ لي إِن لم أُبَشِّر!. وإذا كنتُ أفعلُ ذلك بإرادتي، كان لي حَّقٌ في الأُجرة. على أَّني لا أفعلُ ذلك بإرادتي، بل أقوم بمُهِمَّةٍ عُهِدَتْ إلَيَّ “(1كور9: 16-17).   

يريد الله أن يخلصَ جميعُ البشر. وكلَّفَ يسوع تلاميذَه، المُعَمَّدين بآسمِه، أن يحملوا نورَ الحَّقيقة إلى كل الناس فيُبَّلِغوهم وصِيَّةَ الرب، حتى يتضامن الكل ويتعاون من أجل تحقيق كمال الكون وسعادته. فلا أحدَ يقدر أن يتملَصَّ من هذا الواجب. كلُّ واحد من موقعه و حسب دعوته وموهبته. فلا فضلَ في أن يكون تلميذُ المسيح ” نورًا وملحًا وخميرة “. ولا فضلَ في أن “يصومَ ويُصَّليَ ويتصَدَّقَ”. ولا فضل في أن ” يُحِّبَ حتى أعداءَه، وأن يسامحَ وأن يتقَدَّسَ” ، إنجازًا لمهمته، فيُرضيَ أباه السماوي، بأداءِ واجبِه.

لقد سبق ودفعَ الله أُجرة المؤمن مقابل ذلك. دفع دمَ إبنِه الوحيد لتحرير الأنسان من عبودية ابليس والعودة الى الفردوس المفقود. غفر الله، بحَّق دم المسيح، ذنب الأنسان بعصيانه أمرَه وأعاده الى مرتبة الأبن الذي يحق له أن يشارك المجد والراحة الألهيتين. فقَدَ الأنسان حقَّه في ذلك بسبب عصيانه. أَعاده الله إليه” نعمةً منه ومحَبَّةً ورحمةً” (أف1: 6؛ 2: 4-9). هذا فضلٌ من الله وعلى الأنسان ألا ينسى إحسانَ الله بل أن يُقابله بالمعروف. عليه ألا يفتخر بما يفعله من مُدهشات. ولا يحُّقُ له أن يُطالبَ الله بأُجرة. كما خسر الأبن الضال حقوق بُنُّوتِه ” لستُ مُستحِقًّا أن أُدعى لك إبنًا. إِعتبِرني كأحدِ أُجرائك” (لو15: 19)، هكذا فقَدَ الأنسان بسبب خطيئته حَّقَ بُنُّوته لله فَطُرِدَ من أمام الله (تك3: 7، 17-24).

يُطالبُ اللهُ كلَّ إبنٍ له، كلَّ إنسان، بأن يتقَّيدَ بسلوكٍ عام إِختصره بـ” إِعْمَلْ (أخضعوا الخليقة كلَّها، تك1: 28) “، و” أَحبِبْ ( قريبك كنفسك، أح19: 18) ” أي إعمل للآخرين ما تنتظرُ منهم أن يفعلوه لك (متى7: 12). أي” عِشْ” كما يعمل أبوكَ الله ويُحّب. هذه هي قاعدةُ الحياة : عملٌ مبنيٌّ على المحبة أي أخذٌ وعطاء. ومن هذه القاعدة ينتجُ الإحترام والمساواة ، والتعاونُ والتضامن، والتواضُعُ والتسامح. هكذا حياة على الأرض تضمنُ الخلاص، أي سعادةً ومجدًا أبديين. هذه الروحية تُشَّجعُ وتقودُ الأنسان في درب الكمال. ويسوع يُطالبَ تلاميذَه إخوتَه أن يسلكوا درب الكمال: ” كونوا كاملين كما أنَّ أباكم السماوي هو كامل” ( متى5: 48). وإن لم يكن مفروضًا على الجميع بل على من يشاء، إِلا إنَّه مطلوبٌ ممن إختارهم :” أما أنت فتعالَ وآتبعني” (متى4: 19و22؛ 9: 9؛ 19: 21؛ يو21: 22).

يدعو الله فئةً مُعَّينة من الناس لتتمَثَّلَ بشكل خاص بالمسيح يسوع، إبن الله وآبن الأنسان، في سلوكه وأعماله تكون نموذجًا للآخرين: ” إخترتكم وأقمتكم لتبشروا وتُثمروا ويدومَ ثمرُكم” (يو15: 16). ولكن توجدُ إضافةً إليهم فِئةٌ ثالثة تُضيفُ الى واجبها فتبادرُالى القيام بأعمال تتعَدَّى  واجبَها الشرعي وتقوم بأعمال تقع ضمن حيويةِ الأيمان أي محَبَّةً بالله ومدفوعة من الروح القدس. تُبادر الى خدماتٍ طوعية نابعة من نموذج حياة المسيح. وهذا بآتّجاهين :

الأول : إنطلاقًا من التَشَّبُع من فكر المسيح بحيثُ يُصبحُ المسيحُ حياتَه” يحيا ويعملُ فيه” ( غل2: 20) ، لأنَّ الحياة عنده هي ان يكون صورةً لله (تك1: 27) كما رآهُ في المسيح يسوع (يو 14: 9؛ 10: 30). وكذا أعمال لها أجرُها عند الله حتى لو كانت ذليلة وبسيطة مثل ” إعطاءِ كأسِ ماءٍ بارد” (متى10: 42)؛

الثاني : إنطلاقًا من رؤية المسيح في الآخرين وآعتبارهم تلاميذ المسيح، رغم الإعتبارات الإجتماعية وكثرة الإختلافات، وتقديرهم ومعاملتهم كأنهم” المسيح” وبالتالي كأنَّهم” نفسُه ” هو المتمَّثل بالمسيح، فيكون يُقَّدمُ الخدمة لنفسِه. وخدمةٌ تُقَّدَمُ بهذا الروح لا يضيعُ أيضًا أجرها حتى لو كانت ” سقيَه كأسَ ماء” فقط (مر9: 41). فكلُّ ما يعمله الأنسان للآخرين يكون كأنَّه يجريه للمسيح نفسِه. وكم ظهر الربُّ يسوع للناس بشكل مُعوَّزٍ يطلبُ عونًا من تلاميذه !. والرَّب ” يُجازي كلَّ واحد بما قدَّمته يدُه “(رم2: 6؛ متى16: 27). وتمتحنُ النارُ الألهية ” قيمة عمل كلِّ واحد. فمن بقي بناؤُه نالَ أَجرَه ” (1كور3: 13-15).

إِنَّما حتى هذه الأعمال الطوعية لا يجوزُ أن يُفتخرَ بها، وبالأحرى ألّا يُطالبَ مكافأةً عليها. لأنَّها تخرج عن نطاق الحياة الزمنية وروحها إِذ تتحَقَّقُ نتيجة اِلهاماتِ الروح القدس، و بفعل نعمة حضورِه الفاعل فينا. لذا لا يفتخرُ بولس إِلًا بضعفه وأخطائِه. ولا يتكلُ على نفسِه بل يطلبُ دومًا عونَ الله ليُؤَّديَ واجبَه المطلوب منه على أحسن ما يُرام.

4+ النتيـجة !

جوابُ الرب فيها واضحٌ وصريح. إنَّه الثمرُ المطلوب من كلَّ شجرٍ و حتى من كلِّ غصنِ شجر(لو13: 7؛ يو15: 2). ومن يُؤَّدي المطلوبَ منه لا منِيَّةَ فيه: ” إِذا فعلتم ما تُؤْمَرون به قولوا : نحن عبيدٌ بطّالون..”. ما عملناه كان واجبًا ولا فضلَ فيه لأحد. وأمَّا إذا كان عملي غير مفروضٍ علَيَّ فعندئذٍ لي أملُ أن أنالَ أَجرًا خاصًّا عليه :” إذا بشَّرتُ وقمتُ بعملي مجّانًا ـ مع أني يحُقُّ لي أن أرتزقَ من البشارة، 1كور9: 14، وأتخَّلى عن حَقّي من التبشيرـ عندئذٍ لي أجرَةٌ عند الله “. ويُضيف الرسول :” جعلتُ من نفسي عبدًا لجميع الناس كي أربحَ أكثَرَهم” (1كور9: 18-19). حتى الأعمال الطوعية تُصبحُ، في هذه النظرة، طبيعية قَيِّمة وجوهرية لا ثانوية ولا عرضية. للمسيحيين فكرُ المسيح (1كور2: 16) يشُّعُ فيهم خارطة طريق الحياة، عليها نقيسُ أعمالنا ومنها نستوحي خطواتنا.

جاءَ يسوع ليُخَّلصَ العالم، أي يقودَ أبناءَه في درب الحياة الحَقَّة، وسلمنا تعليمه لنحياه و رسالتَه لنتابعَها ونساعد أهل العالم على الخلاص. فهل نقفُ نحن من العالم موقفَ المتفَرِّج واللامبالي وكأنَّ الأمرَ لا يُهِّمُنا، أو فوق طاقتنا، أولا ينفعُ فيه جُهدٌ ؟. المسيح مات وضَحَّى بنفسِه ليحيا العالم فهل ننسحب نحن من ساحةِ الجهاد لئلا نتفاضلَ في شأن غيرِنا أو حتى لا تصيبَنا شراراتٌ من حريق الأعداء؟. يسوع تواضع وتخَّلى عن ذاتِه محَّبة بنا وبكل الناس ـ وكم نكرنا جميله ! ـ فهل نطالبُ الله بكل حمايةٍ وحصانةٍ ومجازاة بينما نرفضُ نحن التأَلُّمَ معه أو الإهانة أو إحتقار العالم لنا؟. وهل كرامتنا وحقوقنا في أن نُحاسِبَ الله ونحاكِمَه، الى درجة معاقبته كما قال أيّوب عندما تصَّرفَ كإِنسانٍ خالٍ من روح الله؟ (أي16: 21). ولما قال له الله :” شُدَّ حيلك وكن رجلا لأسألك..” (أي38: 3) ثم أعلمه على خفايا حكمته و قدرته ومحبته وعنايته، عندئذ إعتذر أيوب: ” تكلمت بكلام باطل …سمعت عنك فقط، الآن رأتْك عيني. لذلك أستَرِّدُ كلامي وأندمُ وأنا هكذا في الترابِ والرماد “(أي42: 3-6).

إِنَّ اللهَ أبٌ عادلٌ ومحّب. يريد أن يشركنا في حياته، عمله ومجده. ينتظرُ منا حُبًّا بنوِّيًا وثقة وخضوعًا لا ليتسَلَّط علينا بل ليقود أعمالنا إلى ما فيها أعظم جزاء وأعلى أُجرة لا توازيها أجرة عند البشر ألا وهي إشراكنا في حياته وراحته ومجده مدى الأبد.