الأحد الرابع للصيف

تتلى علينا اليوم القراءات  : اش9: 7-16؛  تث5: 16 – 6: 3 2كور10: 1-8؛ مر7: 1-8               

القـراءة : إشَعيا 9 : 7 – 16 :– يستمِرُّ الشعبُ في كبريائه وجحودِه. يُنذِرُه اللهُ بحربٍ من الخارج ، وفتنةٍ في الداخل. لن يُنقِذَه الله إن لم يتُبْ.

القـراءة البديلة : تثنية 5 : 16 – 6 : 3 :– يُذكِّرُ موسى االشعبَ بالوصايا، وبكونه هو وسيطًا بينهم وبين الله، ويُحَّرضُهم على مواصلةِ حِفظِ الوصايا.

الرسالة : 2 كورنثية 10 : 1 – 8 :– يَرُدُّ بولس على تُهَمَ الكورنثيين ويُدافعُ عن نفسِه و يُؤَّكدُ أنَّ تعليمَه يستندُ إلى المسيح وليس الى المنطق البشري.

الأنجيل : مرقس 7 : 1 – 8 :– يدُور جدالٌ حول الأطعمة الطاهرة والنجسة. يُبين يسوع أنَّهم تركوا سُنَّةَ الله وأقاموا لأنفسهم سُنَّةً خاصّة. 

ملكوت السماء في جهاد ! ـ متى11: 12 

حدثت مُشكلة في كنيسة كورنثية. ثار بعضُ المؤمنين ِضدَّ رسولِهم بولس. بدأوا يرفضون الأنصياع الى البشارة ويزدرون بولس. بل يتهمونه أنَّه قاسٍ معهم ويَدَّعي سُلطانًا لقيادتهم فوق ما يحِقُّ له. إنَّهم يُريدون أن يُحافِظوا على بعضِ تقاليدهم اليهودية فيُوَّفقوا بينها وبين التعليم الذي يُلقيه عليهم بولس. وبدأت جماعةٌ تُبَشِّرُ بتعاليمَ منافيةٍ  ومعارضة لتعليم بولس. ينطلق المُتمَرِّدون من المنطق البشري ومن فكر الأنسان، والكورنثيون مشهورون بتفلسُفِهم ، ليُعلنوا تعليمًا يُعزَى الى المسيح لكنه يتماشى ويوافق أفكارهم وعاداتهم البشرية المحضة، والمنافية لتعليم المسيح. يرفُضُ بولس ذلك لأنها تناقضُ فكر الله. الله وحدَه النور والخير و البر. ولا يمكن التوفيقُ بين النور والظلام المتناقِضين. ولا بين الخير والشر، أو الحَّقِ و الباطل. يبدو أن المُتمَّردين من الكورنثيين يرفضون التغيير والتنازل عن فكرهم وتقليدهم و يرفضون تعليم بولس حيثُ يناقِضُ ما يُمارسونَه من ملذّاتٍ راحةً لأجسادهم وإشباعًا لشهوةِ نفوسِهم. لا يرغبون في أن يحرموا ذواتِهم منها. ولا يريدون ممارسةَ أفعال تقتضي منهم تضحيةً في المال أو الراحة، مثل محبة القريب، خاصةً العدو ومساعدته، وتغييرًا لسلوك قد تعَوَّدوا عليه. وتعليمُ بولس يُكَلِّفُهم تعبًا ومالا وجهودًا يرون أنهم في غِنًى عنها.

أمَّا ما يطلبه منهم بولس فهو بآسم المسيح مناهضًا لآرائِهم. وآدَّعى بعضُ المُعارضين أنَّهم أيضًا رسل المسيح. فآرتأوا أنَّ بولس يُغالي ويفرضُ ما ليس جوهريًا. ثم تساءَلوا: من أين له حَّق فرض تعليمه؟ من خَوَّله بذلك؟. لماذا لا يحُقُّ لهم أن يسمعوا غيرَه؟. بدأوا يزدرونه و يدعون أنَّه غيرُ قادرٍعلى إثباتِ صِحَّةِ ما يُعلم.

عندئذٍ إنبرى بولس يُؤَّكد للكورنثيين أنَّ ما يُطالبون به يتماشى مع متطلبات الجسد، بالحري مع شهواته، وليس مع طبيعة الأنسان الروحية ودعوتِه. المسيح وحدَه، كما يبشر به بولس الذي منه مباشرةَ تلَّقى دعوته وتعليمه وتأكد من صِحَّتِه عند بطرس رئيس الكنيسة والناطق بآسم المسيح، قادرٌ على تحديد ما هو حَّق وما هو صالحٌ وبَنّاءٌ يجبُ قبوله والعملُ بموجبِه.           

لا أحد يحُقُّ له أن يُعَلِّمَ، بسُلطان ـ متى7: 29 ـ، غيرُ من تلَقَّى الدعوة والتخويلَ من المسيح  

، من خلال الكنيسة، في الحَّلِ والربط (متى16: 19؛ 18: 18). وهؤلاء لا فقط يُعَلِّمون بل ويتَّخذون، بسلطة وقوة، الأجراءات اللازمة للتقيُّدِ بالتعليم. فيقبلون أو يرفضون كلَّ واحد حسب موقفِه من المسيح. ومن لا يسمع منهم يرفضُ المسيحَ نفسَه (لو10: 16). ليس هدفهم لا إقتناء منصبٍ ولا مال، بل ضمان الحياة الأبدية للمؤمنين. لا يفرضون أنفُسَهم. يخدمون طوعًا. يبنون الحياة الروحية. ولا يتساهلون ولا يتواطأون مع الخطأ والسوء.

نتكلم بما يعلمه الروح القدس 1كور2: 13

إعتبر الكورنثيون المُعارضون أنفسَهم حكماء كفايةً وبالغين يُمَيِّزون الحَقَّ وخاصّةً مُلتزمين يمارسون واجبَهم. إنَّهم مقتنعون بجدارتهم وكفاءتهم، وإذا قالوا فعلوا، ولابُدَّ أنْ يكونَ ذلك صحيحًا. نصبوا أنفسَهم قُضاةً يُقَرِّرون ما هو الحق وما الباطل. أَخرجوا الله عن الحياة. و بذلك لا فقط نسفوا تعليم بولس بل ونكروا المسيح وما جاءَ به من جديد الذي يتطلبُ تغييرًا جذريًا باطنًا وظاهرًا.

ردَّ بولس على هذه الأدّعاءات بأنها خاطئة. هل وُجدَ الأنسان من نفسِه حتى يحكم نفسَه بنفسِه ؟. إذا حكم كلُّ إنسان ذاته تُصبح الأنسانية غابةً والناسُ تقودُها غرائزُها. فلا يحكم  الآباُءُ أولادَهم، ولا يكون رئيسٌ أو مرؤوس، لن يبقَ حُبٌّ ولا عدلٌ ولا رابطٌ بين الناس بل سيسودُ نظامُ ” الصراع من أجل الحياة. والقوي يأكلُ المُستوي”. ولن يُحَقِّقَ عندئذ راحته وسعادته. بينما الله الخالق وراعي الكائنات نظم حياة الناس كي يعيشوا في سلام ووئام. أعطى وصاياه وإرشاداته وأقام من يلتزم بها ويساعد الآخرين على معرفتها وتسهيل سبلِ الألتزام أيضًا. هذا الله تجَلَّى في المسيح. والمسيح أقام الكنيسة التي من خلالها يبلغ مشيئة الله ويعين المؤمنين. وزوَّدها بالروح القدس ليرشدها الى الحق كله. والكنيسة تستمر مع الزمن. وتقيم الرسل وتندبهم للخدمة وتُمَدِّدُ إليهم السلطان الكهنوتي الألهي لأداء مهمتهم بشكل صحيح. هؤلاء الرسل لا يسلكون سبيل الجسد بل يساعدون المؤمنين، كالمسيح ، ليترَفَّعوا عن أعمال الجسد وشهواته ويسلكوا سبيل الروح والحق. فالكنيسة تُمَدِّدُ عمل المسيح. لذا فالمسيحي يتعلم من الكنيسة، ولا يتعالى عليها. وقد نبَّه المسيح كنيسته من قيام رسل مُزَيَّفين كذبة يحاولون تشويه صورة المسيح وتمزيق الكنيسة بإغواء المؤمنين و إخراجهم عن طريق الحق، حَذَّرَ من ضلالهم، وطالب تلاميذه أن يصمدوا في الحق.

المجاهدون يأخذون الملكوت عُنوَةً !  متى11: 12

بسبب الحرية الشخصية وبسبب وجود الشر/الزؤان يختبر الأنسان إمكانية إتّباع أمرين يجب الأختيار بينهما. يختار بين طريق المسيح وبين طريق العالم. وحتى يختار يجب أن يُلَبِّيَ بعض رغباتِه ويمتنع عن غيرها. وبما أنَّ كلَّ رغبةٍ أو شهوة تُغري فليس الأختيارُ سهلاً. فرغبة الإمتلاك تُغري ورغبة الحرمان منها لإغاثة المحتاجين تغري أيضًا. قوَّتان تتجاذبانه. الواحدة لتحقيق حياة الجسد والأُخرى لضمان الحياة الروحية الأبدية. فعلى المؤمن أن يجتهدَ في رؤية ما هو أفضل لآتّباعِه فيختار الواحدة ويهمل الأخرى. وجود هذا الصراع الباطني يكَلِّفُ المرءَ ويجعله يشعر بأنَّه يُجاهد، ضِدَّ نفسِه، فيخسر ما يعتقده جيِّدًا ويرتاح إليه ليربحَ ما يُطلبُ منه فعلُه والذي يرفضه جسدُه. هذا الجهادُ لا بُدَّ منه لأبراز حرية الأنسان وكرامته وآختياره.

ليس سلاح جهادنا جسديًا ! 2كور10: 4     

الجهاد والنضال يعني، في العرف البشري، الصراع العنيف ضِذَّ مَن وما يقف بوجه تحقيق الهدف المنشود. أما في المسيحية فلا يقوم الجهاد على الحقد والكُره والخبث، ولا في نصب المكائد، ولا في التخطيط للأساءة والإنتقام، ولا في إبادةِ من يُعادينا، ولا محاربة معارضينا ، ولا إسكات من يستفزوننا، ولا محاولة نيل قصب السبق والمكانة الأولى في كل مجالات الحياة، حتى وإن كان ذلك على حساب كرامةِ الآخرين وحَقِّهم .. الجهادُ في المسيحية يقوم على الوقوفِ : بوجه الشر والفساد، بوجه الظلم والطغيان، بوجه الفقر والجوع والعري و العنف ،و ضدَّ الإستعباد والإستعمار والإحتقار والتعالي، ضد الأنانية والتكَّبر والإزدواجية

والمراءات، ضد النفاق والإفتراء والحقد ، وضدَّ كلِّ إساءةٍ من أيِّ نوع كانت. .. الجهاد على ترويض الذات قبل المطالبة به على الآخرين. جهادًا مسالمًا يُطالبُ الخيرَ ويمارسُه دون أن يفرضَه على الآخر، ودون أن يدين أحدًا. جهادًا يدعو إلى السير في دروب الرب ويشَجِّعُ على المحبَّةِ والتآخي. بدءًا دوما في تنفيذها ليطابقَ الفعلُ القَولَ ويُصبح مثالاً يشُعُّ حياة المسيح. فالمسيحي المجاهد يقيس الحَّقَ بكلام الله الذي أعلنه المسيح وبوحيِه ويرى كلَّ شيء بمنظار المسيح وتعليمه. ولا يستحيلُ عليه شيء لأنَّ الربَّ معه.

أعلن اللهُ أنُّه قد إرتضى بيسوع المسيح :” هذا هو إبني الحبيب به إرتضيتُ. له آسمعوا ” (متى17: 5). لم يقل الله هذا الكلام عن أيِّ إنسانٍ آخر حتى ولا عن الأنبياء. يبقى المسيح يسوع المُعَلِّمَ الوحيد الذي كشف لنا جوهر الله وعرَّفنا بمشيئته، فعلينا أن نصغيَ إليه ونحيا حسب مبادِئِه، لا حسب منطقنا البشري. وكما عاش المسيح هكذا على المؤمن به أن يُحِّب ويسامح ويساعد ويُضَحِّيَ لأنَّه يرى اللهَ في كلِّ إنسان، ويحب الله ويكرمه من خلال الأنسان ، ويعمل الخير مع كلِّ قريب لأنَّه يرى فيه ذاتَه والمسيحَ معًا. يرى الآخرين أفضل منه فلا يتكَبَّر، يجد غيرَه مُعوَّزًا فيُغيثُه، يُهان ويُظلم ولا ينتقم بل يدع الحُكم لله. ولكي يتحَقَّقَ هذا ويكون جهادُه صادقًا ومثمِرًا يُقاوم تلميذُ المسيح، في ذاتِه، كلَّ ميلٍ ورغبةٍ وشهوةٍ تُبعِدُه عن الله. ويتحَمَّلُ نتائج صراعه الداخلي ضدَّ الشر، ويصبرُ على مِحَنِه شوقًا إلى المجد المزمع أن يتجَلَّى في المؤمن الوفي.

نجاهدُ بسلاح الله !

مُعَلِّمُ المسيحي هو الله، ونموذجُه هو المسيح، وقُدوتُه هم رسلُ المسيح كما قال مار بولس :” إقتدوا بي، كما أقتدي أنا بالمسيح “(1كور11: 1؛ 1طيم1: 16). والهدف هو تجسيد حياة المسيح ، وآختصره بـ :” تخَّلَقوا بخُلُقِ المسيح ” (في2: 5). نحن بشر كالكورنثيين نعيشُ في العالم وتُصيبُنا عدواه، فننزلق أحيانًا عن الصواب. لكنَّ معموديتنا أخرجتنا من العالم و رفعتنا إلى عالم الروح الألهي. وقد لبسنا صورة السماوي (غل3: 27) وتزوَّدنا بالروح القدس (يو20: 22؛ أع2: 3-4) الذي أفاض فينا أنوارَه و وَشَّحَنا بقوَّتِه مُشرِكًا إِيّانا في حياة الله مثل أبناء و ورثة (غل4: 6-7؛ رم8: 15-17)، نحمل رسالته في بناء ملكوت الله على الأرض. ملكوتُ الله في داخلنا (لو17: 21) ويشُّعُه جهادنا الى الخارج لكي يشاهدَه أهل العالم (متى5: 16).

يستمِرُّ المسيح في بناء ملكوته بواسطة المؤمنين به. يُكَمِّلُ جهادَه وآلامَه على يد المتألمين و الشهداء (كو1: 24). وكان بولس مثالاً للمؤمن الذي يتحمل الشدّةِ والضيق من أجل المسيح (2كور11: 22-29). و وعدنا أنْ يُنجدنا روح الله عند ضيقنا ،” روح ابيكم يتكلم فيكم”، و أن يُرشدنا إلى الحَّقِ كله. إنَّه الله نفسُه الذي يُجاهد في المؤمن وبواسطته. فلا يكون جهاد الناس كأبناءِ البشر وبسلاحهم، بل كأبناءَ لله قادرين في سبيل الله على أن يهدموا كلَّ حِصنٍ مَنَع ويلوون كلَّ سيفٍ إلتَمَع.