الأحد الرابع للصوم

<< الصومُ ونورُ معرفةِ الحَّق >>

تتلى علينا اليوم القراءات  :  يش6: 27-7: 15؛ تك 11: 1-9 رم8: 12-27 ؛ متى 21: 23-46

القـراءة : ايشوع 6 : 27 – 7 : 15 :– تسقطُ أريحا. أمَّا أَمامَ عاي فينكسرُ بنو إسرائيل بسبب خطيئتِهم ومُخالفتِهم لأمر الله.

القـراءة البديلة : تكوين 11 : 1 – 9 :– لا ينتهي الشَّرُ بموتِ الأشرار. يعودُ الأنسانُ الى كبريائِه وتحَّديهِ لله. لكنَّه يفشل من جديد في بناء البرج فيتبلبلُ ويتشَّرَد.

الرسالة : رومية 8 : 12 – 27 :– يدعو الرسولُ الى إماتةِ الأجساد بأعمال الروح، و هذا يسببُ ألمًا وتضحيةً. لكنَّ اللهَ يُعينُ أبناءَه على ذلك.

الأنجـيل : متى 21 : 23 – 46 :– يُطالبُ اليهودُ يسوعَ أن يُبَّررَ تصَّرُفَه القيادي المخالفَ لأحكامِهم. يفضحُ يسوعُ مَكرَهم ويدينُهم لعدم إيمانِهم.

 لِنَقْرَأْ كلامَ الله بشوق ٍ وآحترام   

الصلاة الطقسية

ركَّز هذا الأحد على دور الصوم في إنفتاح فكر الأنسان على حقائق كثيرة تخُّصُ عملَ الله ومشيئَتَه. شدَّد على أن الصومَ قاد موسى إلى معرفةِ واقعِ فِعْلِ الله في الخَلق، كما سيذكره في سفر التكوين. فلا يوجد سوى خالقٍ واحدٍ للكائنات الروحية والحسّية، المنظورة وغير المنظورة. وكلُّها تشَّكل معًا عملاً واحدًا، خليقةً واحدة، تجتمعُ وتتوَّحد في الأنسان الكائن الحسّي والروحي في أنٍ واحد. وبذلك لا ” ننسى وحدة الخالق، ونعترفُ بسيادته المطلقة على كلِّ شيء “. فالصوم يساعد على ذلك إذ ” يُصَّفي الذهن وينَّقي الأعضاء” لأنه يُحَّررُ الأنسان من الخطيئة التي غَوَّشت على فكره وشوَّهت رؤيته العقلانية. فكم يكون الخالقُ عظيمًا ومجيدًا وحكيمًا؟. يحتار أمامَه عقلُ الأنسان ويعجزُ عن تفسير عمله!.

الترانيم

1+ ترنيمة الرمش : ” إنَّ هذا العالم يُهَّيِئ الناطقينَ ويُنَّبِهُ كلَّ يوم بتكوينِه على معجزة ذاكَ

     الخالق الحكيم ومجدِه. تقَلُّباتٌ عجيبة تعملُ فيه تلك التي تتناقض مع بعضِها: النار و

     الماء والتراب والهواء المنتشِر. وحتى لا ننسى ولا نتوَّهم أنَّه يوجدُ في كثرةِ تقَّلباتِها

     خالقون عديدون، شرع فصنع الخليقة جسمًا واحدًا بجبلة الإنسان. وبذلك علَّمنا أنه هو

     سَّيِدُ كلِّ شيء “.

2+ ترنيمة من المجلس : ” يُشبِهُ الصومُ المُقَّدَس شجرةَ الحياةِ في الكنيسة. فثمارُها تنفعُ

     للأكل، وأوراقُها تُستّخدَمُ للشفاء. بها يتغَّذى الذهنُ بأفكارٍ روحية وتتصَفَّى نقاوةُ العلم

     بكلمات  التسابيح. ويقتني الجسدُ ايضًا السِمنَ بالله فيتلألأُ ويُضيءُ مصباحَه بدهن

     الحنان. فيكون الأنسان بجسده ونفسِه هيكلَ قُدسٍ مُقَدَّس للروح الحَّي. ويحُلُّ فيه

     الأسمى من الكل، ويسَّجلُ إسمَه في الأسفار الروحية بين أبكار السماء. أعطنا يا رب

     بحنانك أن نُشغِلَه بنقاء ونشترك في الخيرات الأبدية “*.

3+ ردّاتُ ” شوباحا “ : ” عَلَّقَ اللهُ الشمسَ والقمرَ قناديلَ في سماءِ بيتِه. وأَضاءَها بالنور

     البهي الذي خلقَ بكلمتِه * ليسا مثبَّتين تثبيتًا بالجَلَد كما يُعتقَدُ. إنَّها مُعَّلقةٌ بأسفلِ العُلى

     بأربطة روحية * مجيدٌ الخالقُ ، بهيٌّ صُنعُه وعظيمٌ فكرُه. إنَّه سبقَ فعرفَ قبلَ صُنعِهِ

     ما يوافقُه *.

4+ الطلبات : ” المسيحُ ! الذي بشكل صومه المقدس أظهرَ في صوم موسى صُنعَ الخلائق

     وعَلَّمَ أن نعرف حكمة خَلقِهِ أنَّه واحدٌ الخالق الذي هيَّأَ كلَّ شيٍءٍ من لا شيء، وأنَّه هو

     سَيِّدُ كلِّ ما صاَر ويصير: نطلبُ منك *

     المسيح ! الذي أضاءَ بصومِه المقدَّس نفوسَنا بنوره العقلاني. وطرد عنّا ظُلمةَ

     اللامعرفة إذ طرد الظلامَ المحسوس وأضاءَ الخليقة بالنور العقلاني، لا تُهملْ شعبَك

     وخرافَ رعِيَّتِك : نطلبُ منك *

     المسيح ! الذي أبعدَ ظلمةَ ليلِ العتَمَةِ وأشرقَ في العالم كلِّه النور الظاهر، وأعطى

     كنيستَه نورًا خفيًّا يُسجدُ له ويُمَّجد من الأفواه وألسُن ِ كلِّ الخلائق : نطلبُ منك “*.

5+ ترنيمة المذبح (دْقَنْكِى) :”صنعَ الأزليُّ، السابقُ لكل شيء، بأمره الخليقةَ كلَّها. ونظمَّها

     بكثرةِ نعمته حتى تدُّلَ عليه هي بذاتها. صنعَ جزءًا منها مرئيًّا، وجزءًا آخر عقلانيًا. و

     ربطها كلَّها بالإنسان لتُقِرَّ أنَّ خالقَها واحدٌ، وأخبرَ بحُّبِه عن ذاتِه *

     ܫܲܒܲܚ. اللهُ الرَّبُ الصالحُ خالقُ العوالم. خلقَ وأوجد بنعمتِه العناصر الأربعة : النار و

     الماء الأَرضَ والهواءَ. وأعطى بآختلاطها حياةً لكل جسد. وبها يُعَّرِفُ بعظمتِه وقوَّةِ

     حكمتِه، وأنَّه يُثَّبتُ خليقَته بالأضداد ” *.

 التعليم

 تحَدَّثتْ الترنيمة الأولى عن حكمة الله المُدهشة. ومن جملة ما ذكرت عناصر تكوين الخليقة المادية أنَّها متناقضةٌ في جوهرها لكنها متفاعلةٌ ومتكاملة في فعلها. إنها : النارُ و الماءُ والترابُ والهواء. إنها مُضادة لبعضِها كما قالت الترنيمة الأخيرة، لكنها متواجدة كعنصر أساسي في حياة كل كائن حَّي. لا يتستغني أي كائن حَّي عن ولا عنصرٍ واحد من تلك العناصر. فالأنسان مثلا يتنفس ( الهواء) وفيه الحرارة (النار) والماءُ وجسده من تراب ” من تراب أنت والى التراب تعود” (تك3: 19). وهكذا فالأنسانُ الذي هو صورة الله بنفسِهِ الروحية الناطقة والخالدة مثل الله أصبحَ بجسدِه المُكَّوَن من العناصر المادّية والحِسِّية صورةً للكائنات المنظورة أيضًا. ربط في ذاته الخليقة كلها معًا، وبواسطته مع الله.

نبهَّتنا إحدى الترانيم بألا تخدعنا الحواس فنقيس الأمور ونُعَّرفها كما تبدو لنا. أعطانا مثال الشمس والقمر كأنها مصابيح مُعَّلقة ومشدودة الى الفضاء كما نُعَّلق المصابيح في بيوتنا بواسطة خيوط ورباطات. وهذا يدعونا أيضًا إلى قراءة الوحي، المكتوب بكلماتٍ وتعابيرَ بشرية، بفهم روحي ومعنًى عقلاني. جاءَ في سفر ايشوع أنَّه أوقفَ الشمسَ (يش10: 12-13). فقامت قيامة الملحدين وآتَّهموا الكتاب المقدس بالغلط والبطلان وحتى عدم وجود الله لأنَّ الشمسَ لا تتحرَّك أصلاً بل الأرض. بينما أفهم الكتاب أن الله أوقف الحركة الكونية تلبيةً لطلب خادمه ايشوع. وللعلم ما نزالُ الى اليوم نقول :” الشمس تشرق أو تغيب”؟!. لغة الأنسان ومعلوماته الكونية ليست دومًا مضبوطة بسبب تقصير الحواس. فعلى الأنسان أن يُفَّعلَ عقله الروحي وإيمانه ليتمكَّن من ناصية الحقيقة.

وهذا ما علمنا المسيح وصدت له الترانيم بأنَّ مجيءَ المسيح هو شروق النور الألهي للناس فأخرجهم من ظلام الحرف ومن ثوب الحواس لتنفتح آفاقُ فكره على الحقيقة الألهية فيرى بثقةٍ دربَه الأمين في الحياة. وصوم المسيح دَلَّنا على إكتشاف هذا الدرب الذي مارسَه هو نفسُه، فدعانا الى إستعمال الصوم وسيلةً للتحَّرر من الحسِّيات وفتح أذهاننا لآستقبال النور الألهي الذي يُضيءُ لنا درب الحياة. والمسيح هو نفسُه هذا النور الذي أشَّعَ بأعمالِه وأقوالِه وأكَّد أنه هو” نور العالم .. نور الحياة ” وليس غيرُه (يو8: 12)، وإذا أردنا أن نحيا حياةً حقيقية تضمن لنا الراحة والسلام، فعلينا السماع منه والتخَّلق بأخلاقِه (في2: 5). لأنَّه لم يجِيءْ إلا ليُوَّفر لنا الحياة الصحيحة (يو10: 10)، لأنَّه هو وحدَه الطريقَ إليها (يو14: 6). والصوم يُشَّبهُنا بالمسيح. لذا قال عنه المدراش :” اللهُّم إفتحْ فمي لأُنشدَ به خبر الصوم المقدَّس الذي: عملُهُ مليءٌ بالخيرات. يُصَّفي الأفكار. يُنَّقي الأعضاء. يطرد الخطيئة من جنسِنا… ويقهرُ العدُّوَ بقوَّته الظافرة “، ويصبحُ الصائمُ ” هيكلَ قُدسٍ مُقدَّسٍ للروح الحي”،  يشغله بنقاء ليث الحياة الأبدية “.

وأخيرًا قالت الترنيمة 5 بأنَّ الله نظَّم الخليقة بشكل بحيثُ تُعَّرفُ به وتدُّلُ على حكمته وعلى عظمته. فالنظام القائم في الكون وفي كل كائن فيه يفوق عقل الأنسان وقدرته. ولا يمكن أن يكون هذا النظام ثمرة صدفةٍ وثمرة قوَّة ذاتية ظهرت فجأة للوجود. وعامل الأختلاف بين الكائنات وتفاعلها وتكاملها المُدهش له حكيم قديرٌ أشرف عليه. بل هو ثمرة معرفةٍ سابقة و قدرة فائقة. وقد ثبَّت الأنجيلُ ذلك :” به (المسيح كلمة الله ) صار كلُّ شيءٍ. وبغيره لم يكن شيءٌ مما كان. فيه كانت الحياة ” (يو1: 3-4).

الصلاة

دعت إحدى الترانيم تلاميذَ المسيح الى التأمل في سير صومنا ونستفيدَ منه فـ” ننيرَ حركاتِ أفكارنا لنُعاينَ أمجاده الروحية ونقبل به عربون حياةِ السماء”. كما جاء في المدراش:” يا إخوتي إلبسوا سِلاح الخلاص وتُرسَه، ولنَعمَلْ كلُّنا بنشاط ما نقدرُ عليه، فنُزَّين أجسادَنا مع نفوسِنا، ونرضيَ الله بالصوم وبدموع التوبة وبسيرةٍ طاهرة ..”. وشَدَّدَت الصلوات، إحداها على موضوع المعرفة والنورالذي مصدره المسيح والذي كشفه لنا صومه إذ بِه طرد ظلمة ليل الضلال وأنار الخليقة بنور المعرفة، وثانيها على طلب النور نفسِه ، قائلةً : ” يا نورًا من نور، أنارَ جميعَ الخلائق بنور معرفته ، أَنِرْ عقولَنا بنوركَ الذي هو أكثرَ إنارَةً من كلِّ  الأنوار. فنستنيرَ بنور معرفتِك في خدر الملكوت “. ونقول مع المُزَّمِر: ” ما أعظمَ أعمالكَ يا رب. بالحكمةِ صنعتَها كلّها ” (مز104: 24)، وكشفت بعضَها لموسى وكملتها بآبنك يسوع المسيح هبنا أن نتعَّلم منه أن نزيلَ الخطوبَ بالصوم والصلاة، وبتوبةٍ صادقة تجعلنا، مع نهاية الصوم، ننهي عيوبنا ونقَّلل ذنوبَنا ، كما ستقوله ترنيمة لصلاة يوم الخميس القادم من هذا الأسبوع :” يا أعِّزائي صومُنا آنتَصَفْ ليُنَّصِفْ كلُّ واحدٍ ذنوبَه، وعندَ إنتهاءِ أيَّامِه يُنهي جميعَ سَيِّئاتِه “. والصلاة الجماعية لم تهمل المؤمن الفرد حتى قالت إحداها:” يا رب لا تُخجلني أمام جموع السماويين، لأنّي مُلكٌ لك وأنت رجائي وملجأي ومُعيني… يا راعيًا أتى ليرعى خاصَّته ويحفظها، إرعاني كأني لك حتى أكون مما لكَ “.