الأحد الأول للصليب / الرابع لأيليا

للعلم :  يُصَّلَى هذا الأحد وجوبًا بعد عيد الصليب مباشرَةً. وإذا وقع عيد الصليب يومَ أحدٍ فيُعتبَرُ ذلك الأحدُ الأولَ للصليب وعيدَه. تتلى من كل بد صلاةُ العيد عشيةً وصباحًا دون دمج صلاة الأحد مع العيد. أمَّا الأسبوع فيُصَّلَى الأول للصليب. وبعدَه تُصَّلى بالتسلسل الآحاد المتبقية من إيليا. 

تتلى علينا اليوم القراءات  :   اش33: 13-24؛ تث8: 11-20  في2: 5- 11؛ متى4: 18- 23

القـراءة :  إشَعيا 33 : 13 – 24 :–  على الشعبِ أن يسلُكَ درب البر، ليُرضي اللهَ،  ويبتعدَ عن الظلم والرِشْوة وكلِّ أنواع الشرور.

القـراءة البديلة : تثنية 8 : 11 – 20 :–  تُحَّذرُ من خطر الغِنى والرخاء إذ يقودان الى البطر والكبرياء ونكران الجميل ولاسيما الى نسيان الله.

الرسالة : فيلبي 2 : 5 – 11 :–  يدعو بولس الى الجهاد من أجل الأيمان،وقبول الألم، والأقتداء بالمسيح وحِفظِ وحدةِ الكنيسة في المحَّبة.

الأنجيل : متى 4 : 18 – 23 :–  أعمالُ يسوع في الجليل: كرازة وآختيار الرسل و الموعظة على الجبل وهي بمثابة دستور المؤمنين به.

أُناشِدُكم في المسيح !

الأنسانُ فردٌ، ومن طبعِهِ أن ينفردَ وينعزلَ عن الآخرين ويعيش حياتَه الخاصّة. وإِن لم يكن بحياتِه وعمله فأقَّلَهُ في تفكيرِه ورغائِبِه. وعندما ينعزلُ عن غيرِه يرى نفسَهُ مُختَلِفًا عنه. و يحُّسُ بأنَّهُ ممكنٌ أن يكون شيئًا مُختلِفًا عن غيرِه فتراودُهُ أَفكارُالتفَّوُق والأفضلية. ولمَّا يشعرُ بأَنَّهُ قادرٌ على أن يبرُزَ ويفوقَ غيرَه يبدأُ بالتباهي والتعالي من جهة، ومن أُخرى بالإِزدراءِ وعدم إعتبار غيرِه. وهذا طبعٌ يُمكنُ أن ندعوَه غريزيًا أو عفَويًا، يُسيطرُ أحيانًا على المرء دون أن يرغبَ حتى أن ينتبهَ إلى ذلك. ينجرفُ عندئِذٍ وراءَ آرائِه ورغائِبِه وينسى أن يُسَّلِطَ ضوءَ عقلِه وإيمانِه على ميولِه فيتحَّكمُ بالنتيجة على سلوكِه. أمَّا المؤمنُ بالمسيح فهو مدعُوٌّ إلى تحَّدي الطبعَ الغريزي، وإلى التحَّلي بالمقابل بروح المسيح وفكره.

المسيحُ هو النموذج !

ربَمَّا حدثَ شيءٌ من هذا القبيل لجماعةِ فيلبي فآرتأى بولس أن يتدَخَّلَ ويُقَوِّمَ ما بدأ ينحرفُ. و حتى لا يثبُتَ على إعوِجاجِه ولا يتحَجَّجَ بألفِ مُبَّررٍ ومنطقٍ، قدَّمَ حالاً مثالَ المسيح بانِيًا كلامَه وآستنتاجَه على سلوكِه. ليس هذا الأمرُ غريبًا على بولس. فقد ركَّزَ في رسائِله على دور يسوع القيادي في حياة المؤمن به. إِنَّه مثالُه الأعلى. حتى سلوكُ الرسولِ نفسِه مَبْنِيٌّ على نموذج سيرة يسوع، مُقتدِيًا به، ليُقرنَ الفعلَ بالقول في تعليمه الآخرين :” إِقتدوا بي كما أنا أقتدي بالمسيح ” (1كور11: 1؛ 1طيم1: 16)، “مُقتدين بنا وبالرَّب” (1تس1: 6). لأنَّ يسوع يبقى هو النموذج: ” إِقتدوا بالله على مثال الأبناء الأحّباء، وسيروا في المحَّبة سيرة المسيح الذي أَحَبَّكم وجادَ بنفسِه لأجلنا “( أف5: 1-2). فهدفُ التعليم أن يتصَوَّرَ المسيحُ في حياةِ المؤمنين به (غل4: 19). ليس هذا الكلامُ مجاملةً ليسوع ولا تنَّصُلاً من المسؤولية ، بل لأنَّ المسيح يسوع قد عاشَ بالفعل ما عَلَّم ودعا إليه، ولم يَقْوَ أحدٌ يومًا على إِتّهامِه بعكس ذلك. وإذا إِتَّهَمَه أحد لم يستطعْ إثباتَ تُهمتِه ففشل :” وكان الأحبارُ والمجلسُ كافّةً يطلبون شهادةَ زورٍ على يسوع ليقتلوه، لم يجدوا. مع أنَّه مثُلَ بين أيديهم من شهودِ زورٍ عددٌ كبير” (متى26: 59-63)، ” لكن شهادتَهم لم تتَفِقْ “(مر14: 55-59). يبقى المسيح النور الذي يُضيءُ دربَ الحياة، والنموذجَ الذي عليه يقيسون حياتَهم : أقوالهم وأفعالهم.

عدم التحَّزبْ والتباهي !

وأُولى الصفات، بعد قاعدةِ المحبة الأساسية، ألاّ ينفردَ المؤمنُ بالعمل: فلا يتحَزَّب أي يميلَ فقط إلى بعضِ من ينتفعُ بهم. لا يقتنعُ بذاتِه ولا يكتفي فقط بأفكارِه وطاقاتِه الحيوية. ولا يحاول أن يعزلَ نفسَه عن الآخرين. بل عليه أن يعملَ جماعيًا. عليه أن يُشاركَ غيرَه بما له من إمكانيات، و يشتركَ بإمكانيات الآخرين في تبادلٍ أخوي وآحترامٍ متساوٍ. فالمسيحيةُ لا تحتقرُ أحدًا، ولا  تُقَّللُ من شأنِ أحد. مهما علا أحدٌ أو إمتاز بقدرات فهذا لا يسمحُ له أن ينعزلَ أو يتباهى أو يزدريَ بأحد. أو مهما ذُلَّ أحدٌ أو إفتقرَ إلى طاقاتٍ، لهُ مع ذلك، ما يُعطيه للجماعة كما يستفيدُ منها. البشرية هي، في نظر المسيحية، عائلة واحدة متعَدِّدةِ الأفراد ومتلَّوِنةِ المواهب والطاقات تؤولُ بالخير إلى نفع جميع الأفراد معًا و بتعاون كلِّ الأفراد أيضًا دون إستثناء. وكلُّ من زادت مواهبُه وإمكانياتُه تضاعَفَتْ مسؤوليتُه تجاه الجماعة الكنسية أو الدولية. فالمواهب كلُّها من الله لخدمة كلِّ الناس لا للمنافسة والمضاربة والمحاربة. يجب أن يسودَ بين المؤمنين هذا روح المحَّبة والتكافُؤ والتضامن فالتعاون. إِن كان للمؤمن عضلاتٌ فليست ليبرزَها بوجه الآخرين للتهديد، بل ليستعملَها فيتحَّملَ عبءَ الجماعةِ لأنَّه هو الأقوى. هكذا وضعَ يسوع عِلْمَه وقُوَّته الخارقة في خدمة المحتاجين ولم يتباهَ بها ولا إستغَلَّها للإساءةِ إلى أحد، ولا أيضًا لتحقيق منفعة خاصّة لمريديه أو حتى تلاميذه. كان للجميع ومع الجميع حتى محبة أعدائِه وخدمتهم.

نعم للتواضع وللتضحية !

والصفةُ الثانية التي طلبَها بولس من قُرّائِه هي ألا يتكَبَّروا. ألا يروا أنفسَهم أفضلَ من غيرِهم، أو أعلى شأنًا منهم. فالمسيح أجرى معجزات كثيرة مُدهِشة عجزَ أعداؤُه عن أن يأتوا مثلَها، و مع ذلك لم يُهِن أحدًا ولا حكم على أحد (يو8: 15) لأنَّه هو كان عظيمًا. لم يستصغرْ أحدًا حتى الأطفال (متى19: 14) ولم يزدرِ حتى الخاطئًين (متى11: 19؛ يو8: 11) بل حاول أن يخترقَهم شُعاعٌ من محبة الله. لم يرذلهم ولا نبذَهم بل دعاهم بمحبة وحنان الى التوبة وتغيير السلوك. إنتقدوه عليها. إِتّهموه. أما هو فلم يُبالِ بما إِدّعوه، بل إِستمَّرَ ينشرُ الخير في كل مكان، ولكل الناس. زاره خطأةٌ فجالسَهم. زاره أحبارٌ فحاورهم. كان كبيرًا مع الكبار وصغيرًا مع الصغار. منه تعلَّم بولس أن يسعى إلى خير كثيرين من الناس (1كور10: 33)، ويصيرَ ” للناس كلِّهم كلَّ شيء” (1كور9: 22)، وطالبَهم كلَّهم ألا ” يتكَبَّرَ أحدُكم على الآخر. فمن مَيَّزَكَ .. وأيّ شيءٍ لك من عندك .. فلِمَ تُباهي وكأَّنه منك ..” (1كور4: 6-7). فإِنْ أرادَ أحدٌ العُلُّوَ والرفعةَ فليتواضع، ناظرًا أولا الى نقائِصِه وأخطائِه ، ولا يعتبر أيَّ فضل لنفسِه لأنَّه دخلَ الحياة عاريًا من كلِّ شيء، من نفائس العالم. وما أتاهُ من عقل وحياة لم يقتنِهَا لا بجُهدِه ولا برغبتِه.

مع هذه النظرة الى الذات يُدعى المؤمنُ ليُحسن موقِفَه تجاه الآخرين فلا يرى فقط  أخطاءَهم أو عيوبَهم، بل لينظر الى ما فيهم من خير وفضل. لأنَّه إن كان يرى مظهَرَهم إلا إنَّه يجهلُ ما في داخِلِهم. ربَّما يفوقونه عشرات المرّات بالمحَّبة والتآخي وسلوك الحَّق. كما يجهلُ غيرُه داخِلَه هكذا لا يحاول هو أن يحكمَ على ما لا يعرفُه، فلا يدينُ لئلا يُدان هو أيضًا (متى7: 1). الله أحَّبَ البشر الى أقصى حد ففداهم بحياتِه. وخدمهم قبلَ وحتى دون أن يلتجِئوا إليه.

جاءَ المسيح ليُعَّلِمنا أن ننظر بعيدًا وبعمق الى داخلنا لا إلى رصد حركات الآخرين، وألا نتهاون في إِصلاح ما قد أفسدناه في داخلنا لا إلى مطالبةِ العدالة والقداسة في الآخرين. دعانا الرب الى التوبة، الى تغيير سلوكنا البشري المبني على الأحساس والمصلحة لنبنيَ حياتنا على صخرة الأيمان بالمسيح ومحَبَّتِه، لا إلى فرض تعليم المسيح على غيرِنا. خلقنا الله على صورته ولا يريدُ أن نُشَوِّهَها فينا، ولا أن نفسِدَ الجمالَ الروحي الذي زَيَّننا به. لا ننظر الى العالم ولا نقبل أن نتعَّلم من أهله ما هو أعوج، بل لننظر الى المسيح فنتعَّلمَ منه وحدَه كيف نسلك، مقتدين بتلاميذه، الرسل والقديسين.